Accessibility links

إعلان

عبدالوهاب سنين*

في ما يلي قراءة في القصص الثلاث الفائزة بالدورة الأولى لجائزة الرَّبادي للقصة القصيرة للكتَّاب اليمنيين الشباب، التي ترعاها صحيفة (اليمني الأميركي) الصادرة في ولاية ميشيغان.. وهذه القصص هي: قصة “ظِلٌّ في الأشرفية” للقاصة ميمونة عبدالله، الحائزة على المركز الأول، وقصة “تحت الطاولة” للقاص هيثم ناجي، الحائز على المركز الثاني، وقصة “عين آمال الذبحاني” للقاص عمران إسماعيل، الحائز على المركز الثالث.

قصة “ظلٌّ في الأشرفية”

لا شكّ أنَّ العنوان يُشكِّلُ أهمية كبيرة لدراسة النَّص الأدبي، وبه يهتدي القارئ لأبعاد النَّص ودلالاته، ويُمثِّلُ العنوان “ظل في الأشرفية” الرأس من الجسد، وهو يتسقُ مع المتْن أو النص؛ إذ العنوان هو العتبة الرئيسية لأيِّ نَصٍّ، وهو بمثابة الكشَّاف الذي يُرسِلُ الضوء للقارئ، واعتبرت القراءات السيميوطيقية العنوان عنصرًا أساسيًّا يُشكِّلُ عتبة ذات علامات مميزة للنَّص، والذي من خلاله يسلكُ القارئ طريقًا لاحبًا لا فجوة فيه، ويمضي من خلال تلك العتبة سهوًا رهوًا يستنطقُ النص؛ لذلك كانت أهمية العنوان «كالاسم للشيء، به يُعرَفُ وبفضله يُتداول، ويؤسِّسُ سياقًا دلاليًّا يُهيِّئ المتلقّي لاستقبال العمل»(1)

وكثير من الكُتَّاب لا يهتمون بالعَنْونة في مؤلفاتهم، مع أنّ العنوان له وظائف لا يستغني عنها الكاتب؛ إذ من خلاله يستطيعُ الكاتبُ إبراز «الإيحاء والإغراء للقارئ، وهذا ما رآه جيرار جنيت»(2)، فكان اختيار القاصة لهذا العنوان موفقًا؛ حيثُ تواءمَ العنوان مع المضمون، واستطاعت القاصة من خلاله إبراز دلالات النص عبْر إشارات وعلامات موحية حاضرة في جسد القصة.

و(الظل) له دلالة يشي بوجود الخرافات، والانخراط وراء الشعوذة، و(الأشرفية) هي تلك المدرسة الكبرى، «التي بناها السلطان الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل العباس سنة 800هـ، ولها قبة كبيرة فيها المحراب محمولة على أربعة عقود، وجناحان (شرقي وغربي)، كلّ جناح فيه أربع قباب»(3)

و(ظِلٌّ) مبتدأ، و(في) حرف جر، و(الأشرفية) اسم مجرور، وشبه الجملة في محل رفع خبر.

فكانت القصة على غاية من الرُّقي، حيثُ كان الاستدعاء من القاصة للماضي الغابر ومزجه بالحاضر، إذ الأشرفية من المعالم التاريخية الباذخة، فالمكان له سيميائية لافتة، حيثُ يتسنّى للقارئ أنْ يرى من خلال وصْف المعالم المكانية للقصة، بدأً بباب موسى تقول القاصة: «نتوقفُ أمام جدار يشْبه الحصن، عتيق وكبيرٌ جدًّا، مفتوح منتصفه علي شكلِ باب، عُلِّقتْ فوقه لوحة صغيرة تتناقضُ مع حجمه “باب موسى”».

في هذه القطعة أجدُ الكاتبة تلتفتُ إلى إهمال ذلك المعلم التاريخي العريق، واستنكارها  لتلك اللوحة الصغيرة المتناقضة مع حجم الباب العتيق، التي عُلّقت في جِيده، وصوّرتْ الكاتبة جمال تلك التُّحف المعمارية في قالب سردي تمتع بِلغةٍ باذخة، واستطاعتْ أنْ تجعلَ من سطور قصتها لسانًا، تخاطبُ به تلك المعالم الفارهة، وفي وصف بديع جمعت القاصة بين أثرين، من خلال قلعة القاهرة والأشرفية، كلّ ذلك في نسقٍ سردي يجعلُ القارئ يشعرُ بوهج قصصي متميز، حيثُ قالت : «وتابعتُ محدقة صوب القاهرة، التي تجلّت من أعلى الجبل كأنها في مهمة حراسة! وقفتُ على بعد بضعة أمتار من المسجد، تراقبني القاهرة من أعلى، بدتْ لوحة مذهلة كما لو أنك تُشاهد جدارية مرسومة للأشرفية، ومن فوقها القاهرة كأمّ وابنتها، شعرتُ برابطٍ خفي بينهما».

في هذا المقطع الآسر من القصة نرى جمال اللغة في قالب سردي يأخذُ بمجاميع القلوب، فاللغة في القصة زادتها ألَقًا، وجعل منها تحفة فنية تشكلتْ منها أجزاء الحكي، وما أروع تلك الصورة التي ابتكرتها القاصة، حيثُ جعلتْ لقلعة القاهرة عينين تراقبان من الأعلى، وكأنها تحمي الأشرفية القابعة تحت جناحيها، وخلقت بين القلعة والأشرفية رابطًا قويًّا، وكأنهما أم وابنتها يجمعهما عبق التاريخ، وهذه الدلالة البصرية توحي بارتباط الماضي بالحاضر، ويشعرُ بذلك القارئ بجمال البناء القصصي، حيثُ امتازت القصة بإتقان أركان القصة، وكانت البداية والوسط والنهاية في غاية التماسك، ومن ثم كان البناء والنسيج القصصي الآسر، كلّ ذلك أظهر القصة في ثوب قشيب، وكأنَّ القاصة تطلبُ من المتلقي لتلك السطور المطرزة بلغة خلابة أنْ يتأملَ تلك المعالم التاريخية، التي تسكنُ تلك البوتقة السردية كمدلولٍ للمبنى الحكائي في  القصة.

والقصة برمتها يجدُ فيها القارئ وشائج يتقاطعُ فيها الشعر والحكي السردي اللافت بوجود نصٍّ قصصي نُسِجَ عبْر معايير لصيقة بفنّ القصة.

قصة “تحت الطاولة”

صوَّرَ الكاتب في سطور قصته حوارًا بين سجينين، البطل ضمير المتكلم، ويحيى المخاطب، وهما يقبعان في زنزانة أخذتْ من بطل القصة أحلامه، ومن الآخر حريته، وعاشا في جدار الصمت.. القصة فيها رمزية لافتة إذ لم تكن تحت الطاولة سوى الأحلام المحجوبة.

عنوان القصة “تحت الطاولة” فيه رمزية ارتدت التمويه نوعًا ما؛ إذ القصة الحديثة خلعت سطور كلاسيكية القرن الثامن عشر، وارتدتْ سطور الحداثة في أواخر القرن العشرين، ولاقتْ تطورًا لافتًا في القرن التاسع عشر على يد دي جي موباسان، عملاق القصة القصيرة في فرنسا والعالم، ومن بعده أتى (تشيخوف، وكاترين مانسفيلد، وأرنست هيمنجواي)، والمقصود من الرمزية في “تحت الطاولة”، هي تلك الأيديولوجيا الساكنة في لفائف بطل القصة، وهو يوحي  بالتسلط القسري والفكري، حيثُ صوّر الكاتب الصراع في قالبٍ سردي تمتعَ بلغة جزلة، وأظهرَ القبح والصراع من خلال محاكاة الواقع، وجعل تلك الهواجس التي تُسيطر على بطل القصة تئنُّ وتحنُّ للماضي الغابر، وتلك كانت مفارقة جيدة.

في هذه القصة فضَّلَ السارد الخطاب بلسان ضمير المتكلم، وصوّرَ صراع النفس في حوارٍ آسِر مع رفيقه المتخيَّل قائلاً:« لقد كنت منطويًا تمامًا، أيّ أحداثٍ هذه التي عشتها! قل لي هيّا، امنحني خيطًا، لا أتذكرُ شيئًا من حياتك غير الملل والنوم تحت الطاولة» في هذا المقطع الرائع نرى الكاتب ينثر على لسان بطله الذكرى التي تفلتت من ذاكرته، في تلك الحياة المكسوة بالملل، القصة فيها تماسك وحبكة، إلا أنّ الحكي يوحي بوجود الكاتب، ومَن أمعنَ النظر في قراءة القصة، بلا شك، سيشعرُ بوجود جانبٍ فلسفي، من خلال تلك الشخصية الآدمية القابعة تحت الطاولة.. كلّ ما في نسيج القصة من لغة ووصف وحوار وسرد، يجبُ أنْ يقوم على خدمة الحدث، فيُساهم في تصوير الحدث وتطويره، فالأوصاف في القصة لا تُصاغ لمجرد الوصف فقط، وإنما لِأنها تساعدُ الحدث على التطور، والكاتب استطاعَ أنْ يُشعر القارئ ببناء متماسك في سطور القصة، وكان الكاتب بدأ قصته بالعنوان، وختمها به، وهذ حرفية توحي بارتباط المبتدى بالمنتهى، حيثُ قال: «لقد فهمتُ أنَّ الضمائر كالأجساد لا تترك أصحابها أبدًا، ولكنًها قد تنامُ طويلاً، هل كنتُ سأدركُ هذا لو كنت نائمًا تحت الطاولة؟!».

قصة “عين آمال الذبحاني”

لكلِّ قاص أسلوبه في نسج قصته، وكانت قصة الحمادي تُخاطبُ المشاعر؛ إذ كانت قصة إنسانية مكتملة الأركان.

لا شك أنَّ العنوان له دلالة واضحة؛ فالعين ترمز لطبيبة العيون آمال الذبحاني، ولم يكن العنوان من القاص اعتباطيًّا، بل كان له سيميائية ذات دلالات مرتبطة، بالمضمون، والعنوان يُمثِّلُ «هُوية النص التي يُمكنُ أنْ تختزل فيه معانيه ودلالاته المختلفة، ليس هذا فحسب، بل حتى مرجعياته وأيديولوجيته»(1).

وصوّرَ الكاتب صراع بطلة قصته تصويرًا صادقًا، وذلك من خلال حدث اتسمَ بالواقعية، ونرى الكاتب ارتدى فنية القص عبْر لغة صحفية، مُزِجَت بنكهةٍ أدبية لامستْ المشاعر، ونلمسُ تلك الفاعلية في كفاح الطبيبة آمال، حيثُ كانت تحملُ همّ مرضاها، رغم وجود قاتل متربص أفنى الكثير من البشر، وهو قاتلٌ لا يُرى بالعين المجردة، وكانت آمال لا تُلقي له بالاً، إنه (كوفيد -19).

الكاتب مضى في بناء قصته بناءً اتسق مع مضامين فنّ القصة، وينمُّ عن مقدرة في مواءمة أركان قصته، عبْر حدثٍ مؤلمٍ صوّر فيه القاص الصراع، وهو أهم ما يميّزُ القصة القصيرة، وبنى قصته بناءً تصاعديًّا عبْر سرْدٍ متماسك، من خلال حدثٍ التأم مع البداية والوسط والنهاية، وهذه القصة اتخذت مسارًا آخر، أراد من خلاله الكاتب أنْ يصوّرَ حياة طبيبة أفنت حياتها مخلصة لمهنتها كطبيبة، ورؤوفة بمرضاها كإنسانة، امتازتْ القصة بتصوير حدثٍ متكامل جلّى فيه القاص ذلك الحدث بكل أبعاده، واستطاعَ من خلاله أنْ يجعلَ القارئ كأنه يعيش معه تلك المأساة، ونرى القاص وهو يُطلِع القارئ على النهاية المؤلمة للطبيبة آمال قائلاً: «لأنها كواحد من الآلاف الأطباء الذين استمروا في تأدية واجبهم، رغم خطورة عملهم في زمن تفشّي وباء كورونا، ولكن الفيروس كان مسرعًا إلى صدر آمال، التي لم تحصل على جهاز تنفس صناعي، بعد أن اقتحم رئتيها وحوّلها إلى جثة هامدة»… في هذا المقطع استطاعَ الكاتب بلغته الصحفية الممزوجة بروح الأديب أنْ يجعلَ من تلك السطور ترتدي سردًا متماسكًا، وهو لم يهتم برمزية أو حبكة أو فنتازيا، بل آثر أنْ يأتي بقصة من الواقع المعاش، واستطاعَ أنْ يقودَ زمام قصته، وبنى سرده في بوتقة لصيقة بفنون القص الحديث.

وكانت هذه القصة عبارة عن وحدة مستقلة، لها كيان اكتملت فيه عناصر القصة، وكلّ ذلك تجمعتْ فيه خيوط الحدث، التي أراد القاص إبرازها، وانتهاءً بنسيج عناصر بناء القصة، وهو ما يسمى بلحظة التنوير.

 

المَراجع:

1-    محمد فكري الجزار(العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998م، ص45
2-    ناصر يعقوب (اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، ص102.
3-    اسماعيل بن علي الأكوع (المدارس الإسلامية في اليمن) مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط2 1986م، ص269.

 

كاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات