Accessibility links

فيصل البريهي: قصيدةٌ يمنيةٌ في أطيافِ شاعرٍ مختلف


إعلان

صنعاء –  أحمد الأغبري

خسرتْ القصيدة اليمنيّة العمودية برحيل الشاعر فيصل البريهي (1967 – فبراير 2020) واحدًا من أبرز شعرائها المؤثرين في جيل الشِّعراء الشباب، والذين كان البريهي بالنسبة لهم مُلهِمًا ومعلّمًا؛ من خلال تواصله مع عددٍ كبير من الأسماء ممن أسهم في تنقية حقول تجاربهم وتمكينها من الانطلاق بحثًا عن صوتٍ خاص وصدى مختلف.

في المجلّد الثاني من أعماله الكاملة، الصادرة مؤخرًا على نفقة أحد رجال الأعمال… يتكشّفُ من خلال مجموعاته أنّ البريهي أبرّ بالقصيدة فمنحته مرتبة رفيعة ونوعية مختلفة مع الشِّعر؛ فكان شاعرًا لا يُجارى، ليس في تنوع حقول وأشكال شعره، وإنما في قدرته، أيضًا، على تقديم صورة وتعبير ودلالة في سياق ينضح بالجمال والجديد، الذي يشعرك أنه لم يسبق لآخر قبله أنْ صاغه؛ لدرجة تشعر، أيضًا، أنّ كلّ قصائده أبكارٌ في خصوبتها الشِّعرية. 

ضَمّ المجلد الثاني من أعماله الكاملة، الذي صدر بجهودٍ من بعض تلاميذ الراحل من الشِّعراء الشباب، خَمس مجموعات شعرية لم يسبق أنْ صدرت في كُتب، وهي: “العبور إلى مرافئ الضوء”، “على ضفاف الأمنيات”، “ومضات هاتفية”، “الخواطر الشعبية”، و”أجراس القلوب”.

في مقدِّمة المجلد تناولَ الشاعر محمد إسماعيل الأبارة خصوصية تجربة الشاعر البريهي الذي «حلّقَ بالقصيدة الوارفة بالشِّعرية المتّشحة ببروق الدهشة، لتنسج بخيوط الألق بُرود القصيدة العربية، متكّئة على جدران منيعة من المفردات، التي تحيكها أصابعُ وجدانٍ يكتنزُ بِحارًا من الإبداع، وجدانٍ يمتطي باقتدارٍ وثراء صهوةَ البنية الأجدُّ لمداميكِ القصيدة العربية بكلّ تجلياتها وبكلّ فضاءاتِ ألمها وحنينها، منذ قرابةِ ثلاثةِ عقود هي الأوارُ الزمني لتجربة الشاعر فيصل البريهي الفريدة».

                                 الشِّعر الفصيح

في ديوان “العبور إلى مرافئ الضوء” يقفُ القارئ على أبرز ملامح تجربة الشاعر مع الشِّعر الفصيح؛ وهي تجربة مختلفة ومكثفة في علاقتها بالكلمة والصورة والدلالة، وفيها تتجلى خصوصية علاقة الشاعر باللغة وقدرته على توظيفها في صوغ صور تنداحُ على محمولات دلالية تزخرُ بالقراءات المتعددة، ما يؤكّد ما تمتع به الشاعر الراحل من إمكانات استطاع من خلالها التحليق في فضاء القصيدة بنفَسِها الطويل؛ وهي قصيدة تبقى على حجمها الطويل أحيانًا متمتعة بخصائصها الفنية التي لا تخبو وأنت تقرؤها حتى آخر بيت:

والحبُّ أسمى أن يُحيط بسرِّه / ضيقُ الحياة.. وقد أحاط وسُوعها

لا شيءَ يعتنقُ الحياة مُلازِمًا / مسموحَها، متحاشيًا ممنوعَها 

إنْ جاوزَ الحبُّ النفوسَ تجاوزتْ / روحُ المشيئةِ صَحوَها وهجُوعها

إذ لا حياة لميّت حتى تعو / د  الروح مُعلِنةً إليهِ رجوعَها

                                   الوطن 

على صعيد علاقته بالشِّعر الفصيح امتازت تجربة البريهي موضوعيًّا بعلاقته الخاصة بالوطن، والتي تتجلى في عددٍ كبيرٍ من قصائده، برز فيها متغنّيًا بِقِيم ومعاني الانتماء للوطن؛ وهي قصيدة جاءت مختلفة؛ إذ برز معها الشاعر مفعَمًا بعلاقة وطيدة بالهُويّة، مكّنته من نسْج شعريّة صادقة في تغنّيها بهذه العلاقة؛ وهو ما عكسه عددٌ من قصائد ديوان “على ضفاف الأمنيات”؛ وفي هذه القصائد لم يكن الشاعر متغنّيًا فقط، بل معاتِبًا ومصارِحًا أيضًا، متألّمًا لِما يعانيه وطنه: 

أيا وطني الذي يزدادُ بُعدًا / بعيني كلما سنَح اقترابي 

حملْتك ملءَ أوردتي صلاةً / وحُبًّا غير مُلتمس الثواب

وإن كان الحنين إليك ذنبًا / فإني لن أمدُّ يدَ المتاب ِ

لأنك ساكنٌ أضواء روحي / ولم يشهد سناك سوى غيابي

أشيّدُ فيكَ آمالي عروشًا / مجنّحة كثاقبة الشّهابِ 

بنَيْتك عالًمًا من كلّ حُلمٍ / مُوشّى بالألذّ مِن الرِّغابِ

فتأتي كُلّما شيَّدت حُلمًا / لترفع فيهِ لافتةَ الخرابِ 

كما يعكس ديوان “ومضات هاتفية” ما تتمتع به تجربة الشاعر من تنوعٍ شكلي؛ فبالإضافة إلى كتابته شعر التفعيلة بامتياز فقد كتب قصيدة الومضة أيضًا؛ والتي جاءت ملتزِمةً العمود، وخصص لها هذا الديوان، ومنها نقطف:

لي فؤادٌ أشواقهُ لا تُحَدُّ / ولهُ كالبحارِ جَزْرٌ ومَدُّ 

قدَرًا كان ودُّهُ وهواهُ / وقضاءً مُحتّمًا لا يُردُّ

 

                                الشِّعر الشعبي

كما تنوعت تجربة الشاعر البريهي في اتجاهاتها الشِّعرية؛ فاشتغل، بجانب الشِّعر الفصيح، على الشِّعر الشعبي؛ والذي كان فيه مجيدًا ومتميزًا في مخاطبة العامة، من خلال قصائد استطاع بواسطتها الاقتراب كثيرًا من هموم البسطاء ومغازلة أحلامهم وتطلعاتهم، وهو ما عكسه ديوانه “الخواطر الشعبية”، والذي قسّمه إلى أربعة أجزاء، وجاء الجزء الأول بعنوان “القصائد الشعبية”، والجزء الثاني بعنوان “خواطر هاتفية”، والجزء الثالث خصصه لـ”الزوامل”؛ وهو فنٌّ شعري إنشادي يمني قديم لا يتجاوز حجم الزامل فيه بيتين؛ فيما خصص الجزء الرابع لـ” الألغاز”… ومِن القصائد الشعبية التي ضمها هذا الديوان: 

فيصل يقولْ الليل عَسْعسْ وارتَّخى جُنْحْ الغَلسْ / والفِكْرْ قد غاصتْ شِراعِه في بِحار الوَسْوسَه

كُلْما نويتْ ارْتاحْ دقيقة هزَّني صوتْ الجَرَسْ / حتى ظننتْ اسلاكْ جِسمي كُلها مِتلامِسهْ 

أمسيتْ لا مجنونْ ومجنونْ قد بَلغْ حدُّ الهوسْ / كلاَّ ولا صاحي فِكرتهْ مِتْجلِّسهْ

كَالمضطربْ عَقلِهْ إذا صَابِهْ مِن الشيطانْ مَسّْ / إمَّا تشُوفِه يلبَسَ الشيطانْ أو هُوْ يِلْبَسِهْ

 

                                  الشِّعر الغنائي

أما مجموعته الخامسة في هذا المجلد “أجراس القلوب”، فقد كان لنوعٍ آخر من الشِّعر؛ وهو الشِّعر الغنائي؛ وهذا اتجاه أجاده الشاعر ببراعة، ما يؤكد مدى خصوصية تجربته الشِّعرية، وتنوعها الكثيف والمتميز لدرجة نراه في كلّ نوع كأنه مضماره الشِّعري الأول… ونقتطفُ من هذه المجموعة:

ليَشْ اخْتيَالكْ في الهوى والكِبْرياءْ 

أبرَزتْ حُسنَكْ بالتَّباهي والرِّياءْ

مَنْ جازَ لَكْ تِسْبِي قلوبَ الأبرياءْ؟ 

يا من رَقى عرشَ المحبَّةْ واعتلى

                                                  

بقدْر ما تنوعت أشكال واتجاهات الكتابة الشِّعرية لدى الشاعر الراحل فيصل البريهي تنوعت الموضوعات؛ حتى داخل الشكل الواحد تجده يكتبُ في أكثر من اتجاه؛ ففي قصائده الغنائية بقدْر ما تغنّى بمحبوبته تغنّى كثيرًا بالوطن وبَكَاه في نفس الوقت، مشتغلاً في ذلك على أكثر من فكرة وطنية بدءًا من الوحدة، وصولاً إلى معنى الوطن، وعودةً إلى الذات، ولعلّ حديثه عن الذات هو مِن أجمل ما فاضت به قريحته الشِّعرية، بما يؤكد مدى اتساع رؤيته وعُمْق نظرته:

غادرتُ كلَّ الحكايا الخُضْرِ في لغةٍ / كانتْ تُفردِسُ أطيافي وألواني

كانت تُبخّرُ أنفاسي وتنشُرها / غيمًا يُرَيْحِنُ آكامي وودياني

 واليومَ بعدَ اصطيافِ الأربعين على / عمري الذي كنتُ أحياهُ ويحياني

 صامتْ بمحرابي الدُّنيا… وقد ظمئتْ / زهري وجفَّتْ ينابيعي وأمزاني 

مِن أيَّ أبواب حزني قد أطلَّ على / وجهي الذي عنهُ ماءُ الوجهِ واراني؟!

   
 
إعلان

تعليقات