Accessibility links

إعلان
إعلان

فكري قاسم *

أواخر شهر رمضان، سنة 2003، وصل خطاب مستعجل من مراسيم رئاسة الجمهورية إالى مراسيم مكتب محافظ تعز لترتيب فعالية استقبال ضيف ألماني رفيع المستوى يشتي يزور المحافظة، ويتعرف على جامع الأشرفية عن قرب.

ولم تقدم رسالة المراسيم أيّ معلومات عن شخصية الزائر، ضيف اليمن الكبير، غير أنه مستشار ألماني كبير جاي تعز في زيارة سريعة رفقة وفد صغير ضمن فعالية عن مؤتمر “في البدء كان الحوار”.

ولم يكن مكتب مراسيم المحافظة على علم أن الضيف المحتفى به هو الروائي العالمي “جونتر جراس”، الحائز على جائزة نوبل للآداب، وقالوا في المثل: الذي ما يعرفك ما يقدرك. 

وكل الذي خطر في بال إدارة المراسيم أنه مستشار رفيع قادم بحزمة مشاريع تنموية مدعومة من ألمانيا الصديقة، ورتبوا له فعالية الاستقبال على ذلك الأساس من الاعتقاد.

وبعد يومين وصل “جراس” والوفد المرافق له في الظهر، ونزلوا في فندق سوفتيل، وكان في استقبالهم مدير عام المسالخ، ومعه خطة مكتوبة لدعم مشروع محجر صحي في المحافظة، ومدير الأشغال، ومعه خطة لمشروع شق وسفلتة بعض الشوارع الفرعية، ومدير البحث الجنائي ومعه خطة لمشروع تأهيل كوادر التحري الجنائي عن بعد، ومدير عام صندوق النظافة والتحسين معه خطة لمشروع إنارة حديقة الحوبان، ومدير الصناعة والتموين والتجارة معه خطة لمشروع تقوية وتأهيل الكوادر بالاستفادة من قوة وعظمة الماكينة الألمانية الجبارة، ومدير عام المياه والصرف الصحي معه مشروع إعادة تأهيل بيارات الأحياء الفقيرة في المدينة، ومدير الواجبات والضرائب، مدري أيش كان معه من مشروع، ومدير عام الأوقاف كان هو الوحيد الذي حانب بينهم ومشو داري أيش من مشروع يمكن أن يقدمه لنصراني ما له أيّ علم أيش تحتاج بيوت الله. 

في فعالية الاستقبال ألقت سكرتيرة جونتر جراس كلمة، شكرت فيها الحاضرين على حسن استقبالهم، وأطلعتهم على برنامج الضيف الذي يحتوي على زيارة مهمة لجامع الأشرفية الأثري العتيق.

شعر مدير عام الأوقاف في هاذيك الأثناء بأن الكورة في ملعبه هو، ومش في ملعب بقية مديري العموم، وارتفعت معنوياته أمام زملائه في زفة الاستقبال، بينما كان جراس يستمع إلى مداخلات الحاضرين في هاذيك الأثناء من نهار رمضان وغليونه في لقفه، وكل شوية يلصي عود كبريت ويشعل به تبغ الغليون، والحاضرين في قاعة الاستقبال يشوفوا له باستغراب، ومدير مكتب الأوقاف يبسّط لهم المسائل، ويخلق له الأعذار، ويقو ل لهم:

– الدخان ما يفطرش، وهو ما يصومش أصلاً، واحنا ما علينا منه، لهم دينهم ولنا ديننا. 

بعد صلاة العصر مباشرة تحرك موكب “جراس” فوق باص سياحي متجهًا إلى المدينة القديمة لزيارة جامع الأشرفية رفقة أعضاء مؤتمر في البدء كان الحوار. 

سار الباص محاطًا بحراسة أمنية مشددة، أطقم عسكرية تتقدمه، وأطقم خلفه، وسيارة نجدة تنظف الطريق بونّان ما وقف طول الطريق.

وصل الموكب إلى أزقة حواري المدينة القديمة في محيط جامع الأشرفية، وتقافز العسكر فيسع من فوق الأطقم إلى الارض، وتوزعوا بلمح البصر في المداخل والأزقة بطريقة لفتت انتباه الساكنين في الحي.

نزل جراس من فوق الباص والغليون في لقفه وسكرتيرته العراقية جنية لابسة بنطلون جينز ضاغط، وشعرها مفتوح، ومدير عام الأوقاف ومدير عام الآثار والمترجم الخاص ماشين جنبهم، متجهين إلى الجامع وسط حراسة تحيط بالمكان، والناس محوشين حول الحافلة، وكلهم شجنين يشتوا يعرفوا أيشو الموضوع؟ ومنو هذا الضيف الكبير الذي عاملين له كل هذه الهليلة؟

واحد من المواطنين الواقفين بين الحوشة سأل أحد مرافقي مدير مكتب الأوقاف:

– منو هذا الذي عاملين له كل هذي الضجة؟

رد العسكري بلهجة العارفين:

– هذا وزير الأوقاف الألماني جاء يبصر الجامع منسب يصلحه. 

عقب عليه مواطن آخر:

– مو من وزير أوقاف ألماني، ومو من هدار !.. الألمان نصارى ما فيش معاهم أوقاف سعما احنا المسلمين.

مواطن آخر تدخّل في الرد على الاستفسار، وأدلى بدلوه، وقال: 

– يا خبرة هذا شكله نصراني اعتنق الإسلام، وجاء يعتكف داخل الجامع في هذي الأيام الفضيلة من شهر رمضان.

هلل بعض الحاضرين: 

– الله أكبر.. الله ينصر الإسلام.

رد عليه مواطن آخر يسخر من الحكاية، وقال موضحًا:

– مو من إسلام، ومو من الله أكبر يا سعيد، والرجال نزل من فوق الباص قدامكم وهو فاطر ودخان المشرعة يخرج من لقفه؟!

– مله عادوه إلا شيبدأ يسلم، وبعدا شيصوم. 

رد يبرر لضيف الإسلام الكبير، لكن الذي جنبه لم يقتنع بما سمعه من تبرير حول شخصية الضيف الغامض الذي محد داري من هو، وقال يدلي بدلوه: 

– أقولك هذا كنه مندوب دولي من الأمم المتحدة، مدري مو معه بالجامع.

قال أحد العسكر يوضح للناس:

– قالوا إنه مستشار الرئيس الألماني جاء يتعرف على الإسلام في بلادنا، ويعمل لنا مشاريع تنفع الناس وتنفع الإسلام.

قال شخص آخر من بين الزحام:

– أقولك والله إن شكله جاء يوزع للناس زكاة رمضان، بس الجماعة مخبين علينا الخبر.

هذه الحكاية بالذات انتشرت بين الناس بسرعة الضوء، وتزاحموا حول الباص مثل الذر يدوروا بين العسكر من هو الشخص المسؤول عن تسجيل أسماء المستحقين للزكاة الألمانية، وهات يا دوشة في الزحام.

واحد يصيح:

– سجلوني يا خبرة، والله ما قد استلمت منهم ريال واحد لليوم.

والثاني يمد للعسكري كيس فيه علاجات، ويصيح من بين الزحام:

– أنا مريض يا خلق الله.. بيني الضغط والسكر ومحد لفت لي لليوم.

والثالث يصيح كمن يستغيث: 

– غالب عبده أحمد ، لا وظيفة ولا معاش ولا أم الجن، سجلوا اسمي يا منعاه.. أنا أكثر واحد مستحق للزكاة.

وعجوز ركيك البنية يتدلهف بين الزحام، ويصيح:

– أولاً جزعوا الشيبة.

الذي جنبه دكمه، وقال له:

– كلّحنا شيبات.. أنا والله اننا أكبر منك، وجالس سكتة.

شخص آخر يصيح من بين الزحام:

– مله هاه اسمعوني.. أنا صايم وهالك عطش ولقفي يابس…

رد الذي جنبه:

 – اهجع يا حمود، كلنا صائمين.

واحدة من النسوان خرجت من بين زحام الرجال ضجرانة تصيح:

– مله اصرفوا الزكاة حق النسوان لحالهن يا خلق الله، مش بين الرجال، رمضان مشو حق مداحشة.

عادت سكرتيرة جراس هاذيك الساع إلى الباص واعتقدوا أنها الشخص المسؤول عن صرف الزكاة وتسجيل أسماء المستحقين لها.

وأول من باشرها عسكر الحماية الأمنية، وقال أحدهم:

– يا أستاذة احنا العسكر المساكين، محد يلفت لنا، سجلي اسماءنا أول الناس.

واحدة من النسوان سمعت العسكري يقولها كذا، ونبعت من بقعتها تصيح:

– لا تصدقيش يا اختي، أول جزعي النسوان، احنا مكالف وأرامل محد يلفت لنا.

داخل جامع الأشرفية كان جونتر جراس مقبع برأسه يشوف النقوش المنحوتة في قلب القبة الأثرية المزخرفة بألوان عديدة يتأملها بحس الفنان، وإلى جواره مدير الآثار يعطيه نبذة عن تاريخ الجامع، وعن المواد المستخدمة في بنائه، والمترجم ينقلها له بالألمانية، ومدير الأوقاف يستمع إلى ما يقولوه، وهو مش داري أساسًا أيش هي الفائدة التي ستعود على الجامع من هذا الهدار.

بينما كان قيّم الجامع واقف بينهم، وهو متشجن يشتي يعرف أيشو الموضوع بالضبط، وسأل مدير الأوقاف:

– منو هذا؟

– هذا مستشار الرئيس الألماني.

– مله ومو جا يعمل داخل الجامع؟

– والله ما ادي لك علم ! شكله جاء يتفاقد الجامع، يبصر مو يحتاج.. مالك هذا جامع عمره يجي 600 سنة وأكثر، مش قليل.

هذه الحكاية حول انه جاء يتفاقد حالة الجامع أعجبت القيم، وسار يسبط جنب جونتر جراس، بينما كان يلف مع مدير الآثار من جدار إلى جدار، يشوفوا النقوش، ويتكلموا حول تاريخها، والقيم واقف بينهم يسترق السمع لكلامهم سكتة.. شافهم طولوا بالهدار عن النقوش، وضاق صدره، وضجر، وتمتم يكلم نفسه بتذمر:

– ناهي لكم ناهي.. اجلسوا هادروه على النقوش وعلى الطيسي فيسي.

وبينما كان مدير الآثار يشرح لجونتر جراس عن طبيعة المواد الخام المستخدمة في النقوش، ازداد ضجر القيم، وقال يكلم مدير الآثار بصوت ضجر:

– ذلحين شتجلسوا تكلموه على هذي الطلافس وبس؟ مش انتوا دارين مو يحتاج الجامع؟

حاول مدير الآثار أن يقولّه اهدأ شوية، لكن القيم ضبح، وقال يكلمه:

– لا بينكم خير من صدق دخلوه يبصر الحمامات كيف قدهن؟ السقوف شينكعين فوق رؤوس المتوضين، وانتو مفرحين بالطلافس.

جونتر جراس سمع القيم يتكلم، والتفت إليه وهو يبتسم، واستغل القيم التفاتهة إليه وأمسكه من يده ليرشده إلى الحاجة المهمة، وقال له بصوت محروق من إضاعة الوقت في البعاسس:

– مالك من أبوها الطلافس يا أستاذ.. الجامع كله خارب ويشتي له تصلوح من شق لا طرف، وأهم شي الحمامات، أمانة ادخل بنفسك وشوف حالتهن بعينك، واحكم بعقلك لا تدور لك بعد النقوش والطيسي فيسي والطلافس الذي ما تنفع.. مصلي يتوضأ وهو خائف لا ينكع سقف الحمام فوق رأسه. 

كان القيم يتكلم بحرقة وغيض من فيض، بينما كان جونتر جراس يستمع إليه هو مش فاهم أيش يقول، ولا عن أيش يتكلم، ولكنه كان منصت بود وبوجه مبتسم،  وخرج من الجامع في زيارة سريعة بدأت وانتهت والغليون لم يبرح شفتيه.

عرف الجميع فيما بعد أن جونتر جراس فضلاً عن كونه روائيًّا عالميًّا، فهو رسام أيضًا، وجاء للتعرف على فنون النقوش الأثرية في الجامع.

* كاتب يمني ساخر

   
 
إعلان

تعليقات