Accessibility links

فاطمة العَشَبيّ.. إحدى أيقونات المرأة اليمنية


إعلان

صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري:
أغمضت الشاعرة والحقوقية اليمنية فاطمة العشبي عينيها مؤخرًا في مدينة لندن التي فرت إليها من ويلات الحرب في بلادها.

بوفاتها تُطوى صفحة شاعرة مختلفة ومناضلة حقوقية متميزة دفعت ثمنًا باهظًا إزاء مواقفها الجسورة من حرية وكرامة المرأة وكرامة أمتها العربية.

عاشت فاطمة العشبي حياتها (1959-2021) في كدّ؛ إذ كانت من يمنيات قلائل ركبْن موجات التحدي والتمرد على التقاليد العتيقة الممتهنة لكرامة المرأة، وتمكنت من الانتصار لذاتها وتحقيق حضورها، لكن مقابل ذلك تم حرمانها من ميراث أبيها وطردها من منزل العائلة، وتُركت نهبًا لمرض السرطان الذي ظل ينهش في دماغها لثلاثة عقود حتى توفيت مؤخرًا في مهجرها بعيدًا عن وطنها النازف.

فاطمة هي إحدى بنات شيخٍ بمحافظة المحويت/ غرب اليمن.. حياتها عبارة عن فصول من التعذيب والمكابدة واجهتها دون خوف أو وجل، حتى وصل الأمر بأبيها (شيخ القبيلة) إلى أن حفر قبرًا لها، وأخضعها لأنواع شتى من الضرب، بما في ذلك السجن في بدروم البيت، وصولاً إلى فقدانها الذاكرة لشهور، بل إن والدها عمل على تزويجها في سن مبكرة من رجل أكبر منها بكثير.

استطاعت فاطمة أن تتعلم القراءة والكتابة، وفي ذات الوقت امتلكت ناصبة كتابة الشعر، وهو أمر لم يتوقعه والدها، ووجد نفسه معها في صدام وتحدٍّ؛ لا سيما مع إصرارها على المطالبة بحياة كريمة رافضة في ذلك أن تعيش مثلما تعيش بقية النسوة في مجتمعها.

حظيت في طفولتها الأولى بدلال والدها الذي تعامل معها كأنها ولد، إلى أن بدأت تظهر عليها ملامح الأنثى فأراد إبقاءها في البيت، لكنها أبت ذلك، وأصرّت على أن تعيش بكرامة .

تقول عن بعض محطات حكايتها المريرة: «والدي كان يدللني في طفولتي، ويعتبرني ولدًا، ويأخذني معه إلى كل مكان… علّمني الرماية والسباحة وركوب الخيل، وكثيرًا من المهارات التي يتعلمها الأولاد، وكان يتباهى بي بين الرجال إلى أن صار عمري أحد عشر عامًا، وبدأت ملامح الأنوثة تظهر عليّ؛ فبدأ والدي يشعر بالحرج من نظرات الناس إليَّ، فأراد أن يعيدني إلى حظيرة النسوان، ولكن هيهات.. لقد صدّقت في نفسي أنني ولد ولا يمكن أن أصبح امرأة.. ومن هنا بدأ الصدام بيني وبين والدي يتصاعد شيئًا فشيئًا إلى أن وصل الأمر إلى تهديده لي بالقتل، ومن ثم كنت أنا مستعدة للمواجهة والدفاع عن حريتي حتى أمام والدي، وحدثت المواجهة الفعلية التي كدت فيها أن أفقد حياتي، لكني فقدت ذاكرتي لمدة ستة أشهر في عام 1988، حيث ترشحتُ ضد والدي لعضوية البرلمان، وتسببت في سقوط والدي، وسقوطي أنا أيضًا؛ لأن الناس اعتقدوا أن والدي سينصّبني عليهم شيخًا بدلاً عنه؛ فوقفوا ضدي وضده. وعلى الرغم مما تعرضتُ له من والدي، الذي وصل به الأمر إلى حد أنه حفر لي قبرًا وأراد قتلي، ومن ثم زوجني مكرهة، وأنا في سنّ صغيرة جدًّا؛ تجدني لم أتنازل عن مقارعتي لكل أشكال الظلم والقمع، وهو النهج الذي حُمِّلتُ رايته منذ طفولتي، متمردةً رافضةً أنْ أكون امرأة خانعة مثل بقية النساء في قبيلتي ومجتمعي.. أنا كنت أقولُ إنني لن أكون مثل أمي، وإنما سأكون رجلًا؛ لِما كنت أجدُ عليه حال المرأة في مجتمعنا آنذاك، حيث لم تكن في معظم الأحيان أكثر من خادمة تعمل في الأشغال الشاقة.. لهذا كنت أرفض الانتماء إلى أنوثتي، وكنت أقول أنا ولد ولست بنتًا؛ فجُوبِهتُ بعنف شديد القسوة. أنا لم أعش مراهقتي، ولم أشعر بأحاسيس وخصوصيات المرأة؛ فأنا لم يكن لي في يوم من الأيام وحتى اليوم، خصوصيات مثل بقية النساء… قد تقول إنني أبالغ، لكنها الحقيقة، ولهذا تجدني ثائرة غاضبة أعيشُ قصة حزن كبيرة..!!» هكذا روت فصلاً من قصتها لكاتب السطور ذات يوم.

على صعيد تجربتها الشعرية فقد كتبت الشعر الفصيح والشعبي والغنائي والحر والمنثور، وصدر لها مجموعتان شعريتان… تولت إصدار الأولى إحدى صديقاتها، التي جمعتها من المنشور في الصحف والمجلات، وأعادت نشرها في مجموعة بعنوان “إنها فاطمة”، فيما صدرت المجموعة الثانية بعد المجموعة الأولى بسنوات، وقالت فاطمة إنها كتبتها في ظرف أيام استجابة لطلب طباعة مجموعة لها، واعترفت أنها لم تكن بمستوى تجربتها، وهي المجموعة التي صدرت بعنوان “العزف على القيود”.

ومع ذلك تحدثت غير مرة أنها لا تحب شعرها، ولهذا كانت لا تهتم بمسألة النشر.. « لأنني لا أحب شعري، ولا أحس أن في قصائدي ما يرضيني، لهذا أكتب وأدع ما أكتبه مكومًا في منزلي، وأرفض إخراجه إلى الناس عدا ما ينشره الأصدقاء في الصحف اليمنية والعربية«.

على الرغم من ذلك علاقة فاطمة بالشعر هي علاقة على قدر عالٍ من الوعي بالقضية والتماهي بالحزن، لكنها، كما قالت، استطاعت تجاوز الحزن الخاص، وعاشت الحزن العام، منتقدة محاكاة الشاعر والأديب في مجتمعها لهمومه الذاتية في ظل ما يعيشه مجتمعها وأمتها من أزمة تتطلب حمل القضية والتعبير عن الأزمة، على حد تعبيرها.

لأنها وجدت المشهد الثقافي اليمني يعاني الكثير من الإشكالات اضطرت للعزلة مع قصيدتها تحت سواد الحزن، الذي تعتصر به آلامها، وهو الحزن الذي ظل يتزايد مع وحشة الواقع، الذي تركها فريسة للمرض. 

عن مبعث حزنها وأحزانها التي تطفو في قصائدها تقول: «مبعث حزني هو التخلف والقمع الأسري والاجتماعي الذي عشته… ما دفعني إلى التمرد على ذلك الواقع، وتجاوز الخطوط التي رسمها للمرأة، فأخذ كل شيء يعاقبني بالكثير من العقوبات والإحباطات، وبالتالي الكثير من الأحزان«.

على صعيد موقفها السياسي كانت فاطمة العشبي سيدة سياسية بامتياز آمنت بالقومية العربية، وكان موقفها العروبي واضحًا في أحاديثها وبعض قصائدها.

عن أكثر من ستين عامًا هو عمرها استسلمت فاطمة للمرض وودعت الحياة، وهي تحلم بتوقف الحرب في بلادها وحلول السلام… كان منشورها الأخير على صفحتها في “فيسبوك” قبل أكثر من أسبوع من وفاتها عبارة عن وداع للحياة… وداعٌ مغرق في الحزن أيضًا.

   
 
إعلان

تعليقات