Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

العام الماضي (2023) أعلنت الأكاديمية السويدية عن فوز الكاتب النرويجي يون فوسه بجائزة نوبل في الأدب.

فمن يكون فوسه هذا؟ فاسمه لا يبدو معروفًا، على الأقل بالنسبة لنا نحن المتحدثين باللغة العربية!

ولد يون فوسه عام 1959، وصدر له أكثر من ثلاثين كتابًا تنوعت ما بين المسرح والرواية والشعر. وترجمت أعماله إلى أربعين لغة، منها عدد محدود جدًا باللغة العربية.

فاز يوسه بالعديد من الجوائز المرموقة منها: جائزة إبسن الدولية عام 2010، والجائزة الأوروبية للآداب عام 2014، ومنحه ملك النرويج عام 2011 شرف الإقامة مدى الحياة في جروتن، وهو بيت في حرم القصر الملكي في أوسلو، مخصص لاستقبال كبار الفنانين منذ القرن التاسع عشر. ويقال إن أعماله المسرحية هي الأكثر عرضًا في العالم!

سوف نعرض هنا لروايته “صباح ومساء” التي ترجمتها عن النرويجية مباشرة شرين عبدالوهاب وأمل رواش، وصدرت عن دار الكرمة للنشر بالقاهرة عام 2018.

تتطرق الرواية إلى حدثين يحدثان في كل عائلة في الدنيا: طفل يولد وشيخ يوافيه الأجل.

يسرد فوسه ترقب (أولاي) وضع زوجته مارتا مولودها، وفي ساعات الانتظار الحرجة هذه يتأرجح أولاي ما بين الشك والإيمان، إنه يؤمن بوجود الله:

“يفكر أولاي، تكون كلمة الله وروحه كامنة في كل شيء أيضا”.

ثم تأخذه تأملاته إلى الشيطان ودوره في الحياة.. أحيانًا تقوده أفكاره إلى الشرك، ويحسب أن الشيطان له قواه وتأثيره وإرادته الماضية في تقرير مصائر البشر:

“إلا أن أولاي على نفس درجة اليقين بأن إرادة الشيطان كامنة هناك أيضا، ولكنه ليس متيقنا تماما من منهما موجود أكثر وأيّ منهما يفوق الآخر”.

هكذا يُصَوِّر يون فوسه ببراعة وصدق فني، الصراع الفكري المحتدم الذي يمور به عقل أولاي في تلك الساعات العصيبة، وهو ينتظر ولادة طفله وسلامة زوجته.

الحقيقة أن الإنسان في المواقف الصعبة يموج ذهنه بأسئلة وجودية حارقة مارقة عنيفة، تهز كل قناعاته الراسخة، وهو ما لا يحدث له في الأيام التي تمضي بوتيرة عادية رائقة.

لقد وُفق يوسه في الإمساك بهذه الهوة النفسية التي يسقط فيها الإنسان في أوقات الشدائد، وحللها تحليلًا عميقًا، فإذا هي قطعة نادرة تنتمي إلى الأدب الإنساني الرفيع.

وكما سبقت الإشارة فإن الرواية تتكون من فصلين: الأول عن أولاي وزوجته التي جاءها المخاض، ويستغرق هذا الفصل أقل من 10% من مساحة الرواية، ورغم صغره فإنه الفصل الأكثر أهمية وعمقًا، فهو يعطينا فكرة واضحة لماذا منحته الأكاديمية السويدية جائزتها، فهذا الفصل يشكل خلاصة تساؤلات البشرية حول الله والوجود والحياة والموت.

الفصل الثاني الذي يشكل 90% من مساحة الرواية، يتحدث عن والد أولاي، واسمه يوهانس، الذي نهض في الصباح خفيفًا مرنًا على غير عادته، وأعد قهوته وشربها وتناول إفطاره ثم خرج للنزهة كفعله كل يوم.. ثم يرى ابنه بيتر، الميت منذ سنوات، عند ميناء القوارب، ويستغرب ذلك، يدنو منه ويتحدث معه، يبحران للصيد ثم يعودان فلا يجدان أحدًا، فالمدينة خالية من سكانها!

يعود يوهانس العجوز إلى بيته، ويجد زوجته المتوفاة في استقباله كعهدها في الأيام الخوالي. ثم يلاحظ اختفاءها المريب.. تأتي أصغر بناته (سيجنه) بوجه حزين قلق، وهي تتحرك باضطراب، يحاول محادثتها فلا تسمعه، بل يراها تخترقه وتمضي للداخل، حيث تكتشف جثته الباردة على سرير نومه وتستدعي الطبيب.

لقد توفي يوهانس العجوز ولم يصدق ذلك، يخرج ويبحث عن ابنه المتوفى بيتر، وحين يلقاه يسأله إن كان ميتًا، فيرد بيتر بنعم، فيقول يوهانس العجوز مستاءً:

“لكن لماذا اصطدنا السراطين؟

يقول بيتر: كان ينبغي عليك أن تفطم من الحياة، كان ينبغي أن نجد شيئا نفعله”.

يصف يون فوسه الرحلة الأخيرة ليوهانس العجوز مبحرًا في قارب باتجاه العالم الآخر، وهو يرى في الأسفل جنازته وابنته سيجنه الحزينة عليه ويسمع حديث النفس الذي يدور في ذهنها.

فكرة أن الروح تنتقل من الدنيا إلى العالم الآخر عبر قارب هي عقيدة تتردد أصداؤها في الأساطير الإسكندنافية، ويون فوسه يُعبر بهذه الخاتمة، غير المسيحية، عن تمسكه بجذوره الإسكندنافية الوثنية.

يصف يوسه حياة الشيخوخة بدقة وواقعية مدهشة، خصوصًا حين يفقد أحد الشريكين رفيق عمره، وتُقْفِر حياته فجأة، وتصير عذابًا مقيمًا، ولوعة لا تبرأ، فكأن موت يوهانس العجوز كان راحة له من كمده على رحيل زوجته.

أسلوب يون فوسه في الفصل الأول مختلف كليًا عن أسلوبه في الفصل الثاني، ففي الفصل الأول نجد تكرارًا وحشوًا في الحوارات، وثقلًا في إيقاع السرد وكأنه يتقدم خطوة للأمام ثم يتراجع خطوتين للخلف.. قد يستهجن بعض القراء هذا التكرار والحوارات غير المصقولة، فكأن يوسه كاتب مبتدئ وليس أديبًا محترفًا، ولكن الحقيقة أن يوسه اختار عمدًا هذا التكرار في حوار أولاي مع القابلة آنا، متخذًا أسلوب التصوير المفرط الواقعية في معالجة موقف الأب المتوتر الذي ينتظر ولادة طفله، فغالبًا يصير الإنسان في مثل هذه المواقف عصبيًا غير رابط الجأش، فأولاي يسأل ويعيد السؤال، يتكلم ثم يعيد من جديد كلامه نفسه، لأنه ليس في حالة طبيعية، بل هو أشبه بمن فقد توازنه فيثرثر غير مركز على ما يقوله، فأسلوب السرد هنا يتماهى مع الموقف كأنسب ما يكون.

تلد زوجة أولاي ولدًا، فيقرر تسميته يوهانس تيمنًا باسم أبيه. هكذا نبدأ الرواية مع ميلاد الحفيد يوهانس، ونختمها بوفاة الجد يوهانس. فهذه رؤية تستبصر الحياة البشرية على كوكب الأرض: يولدون، يكدحون، ثم يموتون.

الفصل الثاني الخاص بيوهانس الجد نجده مكثفًا وينتقل من فكرة لأخرى بخفة ورشاقة، أسلوب يلائم خفة الروح التي فارقت جسدها..

شخصية (أولاي) أشبعها الكاتب تأملًا ودرسًا، وجاب أقصى عوالمها الداخلية، وفحص معتقداتها قطعة قطعة، حتى صرنا نعرف أيّ أفكار وهواجس يحملها أولاي في نفسه، وكيف يفكر في الكون من حوله.

كذلك يجد القارئ نفسه على دراية تامة بشخصية الجد يوهانس، وما هي الأفكار التي تسيطر عليه في خريف أيامه.

كاتب مثل هذا نجح في تصوير النفس البشرية بهذه الفعالية هو مستحق عن جدارة لافتتان القراء بمطالعة رواياته، وتهافت المشاهدين على حضور عروض مسرحياته.

الجدير بالذكر أن رواية “صباح ومساء” صدرت باللغة النرويجية عام 2000، وفازت بجائزة ملسوم الأدبية عام 2001.

آمل أن تترجم المزيد من أعمال فون يوسه إلى العربية، وخصوصًا مسرحياته، لظني أنها ستضيف الكثير لمحبي الأدب ومتذوقي النصوص المسرحية العالية المستوى.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات