Accessibility links

إعلان

أحمد الأغبري

تميّزتْ المجموعة الشعرية “أهديك غيمة، غيمتين…أكثر” لعمار الظاهري بغنائية عالية مشبعة بسردية، ونادرًا ما يتوهجُ الغناء الشعري بالسرد، لكن هذا الشاعر استطاعَ أنْ يجمعَ البُعدين، ويصوغ شعرية عالية تحت سماء سردية حوارية مع حبيبته؛ وهو ما تؤكده عتبات العمل بدءًا من عنوان المجموعة “أهديك غيمة، غيمتين…أكثر”، فثمة سردية تتضوع شعرًا، وليس العكس؛ فالعنوان يتحدثُ ساردًا كأنه في مشهد حواري مزدان بلغة شعرية مُشعّة…

 ومثله عناوين جميع القصائد، بما فيها: حطْ القمر مثلما العصفور، يمكن تقوم الساعة، الربيع اندهش… إلخ، ويُمثّل اختيار العنوان تحديًا صعبًا للشاعر والكاتب عمومًا، لكن عمار كان بارعًا في صوغ عناوينه، وقبلها صوغ صوره الشعرية التي تُمثّلُ عتبة ثانية. 

واختيار عناوين قصائد هذه المجموعة جاء من صُلب النصوص، بمعنى أنها كانت جزءًا من سياقٍ سردي تمخّضَ عن الشعرية بكل ما فيها من غنائية باذخة.

ست عشرة قصيدة في أقل من خمسين صفحة صدرت بها المجموعة التي جاءت خالية من أيّ معلومات عن الناشر، مما يدلل على أنها صدرتْ بجهدٍ شخصي خالص.        

التزمَ الشاعر العمود والموشح في معظم قصائده إناءً صبّ فيه شعريته التي نضحتْ جمالاً غنائيًّا استحوذَ على جميع قصائد المجموعة، والتي جاءت أغانيَ عاطفية غاية في الجمال؛ ما يؤكد ما يتمتعُ به الشاعر من خصوصية في علاقته باللغة والخيال طريقًا اختطه في صوغ صورة شعرية متضوعة بدلالة تُدهشك كقارئ في كلّ محطة من محطات هذه المجموعة.

 لكن، أحيانًا، فإنّ التزام المجموعة خطًّا بنيويًّا ومعنويًّا واحدًا قد يُضر بالنسق الفني؛ لأنّ الشاعر قد يضطر إلى اعتساف صور الجمال الشعري بما يتفقُ والإناء الذي أراده أو يجيده ما يجعلُ من التنوع متسعًا تتنفسُ فيه تجربة الشاعر حرية… إلا أنّ هذا لا يصدق على كلّ الشعراء بما فيهم هذا الشاعر الذي نجده في كل قصيدة من قصائد المجموعة متماهيًا معها كأنها تشكلت قطعة قطعة في حضرته.

في قصيدته الأولى “حط القمر مثلما العصفور” نرى العنوان بحد ذاته، كما سبقت الإشارة، يختزلُ جمال الصورة السردية والشعرية؛ وهذا التداخل في المبنى (الشعر) والمعنى (السرد) يوحي بالمستوى الذي جاءت عليه شعرية الشاعر مرتدية أبهى ما لديها من زينة تخطفُ اللب… يقول:

حط القمر مثلما العصفور/ حين قلت أحبك على يدي

وعانقتني حمام الدور/ لأنك اخترتني وحدي

والعطر يا فاتني والنور/ أمشي وهم دايمًا بعدي

 

جمال الصورة الشعرية في حضرة هذا الشعر تثملُ بالمعنى الذي يتجاوزُ حدود البيت ليأخذ القارئ بعيدًا، وهكذا على امتداد المجموعة ليقول:

من علمك يا ساجي العينين تزهر في الجروح 

وليش عطر الورد حين انطق حروف اسمك يفوح

وكيف تهجرني وتتركني جسد من غير روح 

وحدي تخليني لنار البعد والشوق الجموح

وهنا يتجلى مدى تعلّق الشاعر بموسيقى الشعر حدًّا يشعر به القارئ وكأنه يتغنى بكلماته، بل كأن التغني بها ولد قبل ولادتها ككلمات وأبيات؛ وهو ما يؤكده الشاعر في قصيدة “جفني سماك”؛ فالعنوان يحتاج وهلة من الوقت لاستيعاب معناه، لكنه سرعان ما يتسرب عبر قاموس الجمال الروحي ليعزف أجمل أغنية: 

من دمع عيني ومن شوقي ومن عطر زهري/ ألملمك واجمعك

وفي ترانيم وجداني وفي نبص صدري/ أتأملك واسمعك 

وفي سكوني وفي همسي وسري وجهري/ أرتلك واسجعك

ما يحجبك غيم أو لحظة تغيب عن عيوني/ لأن جفني سماك

 

لكن يبدو أنّ حرص الشاعر على التزام قافية معينة يجعله يحرص على الإيفاء بالموسيقى على حساب القيمة الفنية والمعنوية للصورة والدلالة كما ورد في معظم أبيات قصيدة “يمكن تقوم القيامة”، لكنه ما إنْ يخبو صوته الشعري حتى ينهضَ مجددًا في قصيدة أخرى كما في قصيدة “غنيت باسمه”، وفيها يتساءل باحثًا عن الحبيب:

سألت نجم الليالي والشجر والجبال/ سألت زهر الروابي والندى حين سال

سألت كل الصحاري والحصى والرمال/ سألتها عن حبيبي أين ولّى وراح

قالوا رأينا حبيبك في شعاع القمر/ في صوت عصفور؛ في نغمة رنين الوتر

في ضحكة الصبح لما في السفوح انتشر/ في ورد نيسان في عطر الزهور حين فاح

 

نلاحظ القيمة الفنية العالية للكناية والاستعارة في البيتين الأخيرين حين عبّر الشاعر عن مدى الوله بالحبيب حدّ رؤيته في شعاع القمر وصوت العصفور وضحكة الصبح وعطر الزهور، وهنا تلتقي في الصورة (الضوء والصوت والضحكة والعطر)… ما يؤكد قدرة الشاعر على وصف ما وصل إليه حاله، وفي ذات الوقت قدرته على التعبير عمّا يعانيه لدرجة يقول:

ليته رحمني وطفّى نار قلبي وردّ/ لكن تردد ولملم أغنياته وصدّ

وغاب عني وفي غيمه شداه ابتعد/ أعلن عذابي تحنّى من دمي وانتقش

 

ففي البيت السابق يتجلى مدى العذاب الذي بلغه الشاعر لدرجة ابتكر صورة غير مسبوقة بقوله إنّ الحبيب تحنّى من دمه وانتقش… والنقش على الجسد تستخدمه النساء في بلدان الجزيرة العربية وبعض البلدان الأخرى تعبيرًا عن البهجة في الأفراح والأعياد… وهنا المفارقة التي تزدان بها الصورة الشعرية الممتازة.

وفي مسار حواري طويل يعودُ الشاعر لِيُخفف على نفسه من وطأة العذاب ليقول مواسيًا:

إنْ بكيت أين الجديد/ أيش قيمة مدمعك

دمع عينك ما يفيد/ لو جرى ما ينفعك

فالذي تهوى بعيد/ لو تموت ما يسمعك

إنْ بكيت تبكي وحيدًا/ ما أحداً يبكي معك

 تكشفُ المجموعة عن شاعر ماهر في استخدام حروف العربية في نسج موسيقى شعره كاستخدامه لحرف الدال مثالًا هنا:

النار والورد في خدك/ والغصن قد غارَ من قدك

بس الوفا ما وُجد عندك/ ما احد فعل فعلتك ما احد

في الأخير نحن أمام شاعر يولد كبيرًا… وفي بلاطه نشاهد قصيدة جديرة بأنْ تسهم في تكريس حضور مختلف للشعرية اليمنية المعاصرة.

   
 
إعلان

تعليقات