Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

يكاد ينفرد المفكر الفرنسي (جوستاف لوبون) بأبحاث ثاقبة النظر في بيان عوامل تطور الأمم وأسباب انحطاطها، وذلك في كتابه الصادر قبل قرن تقريبًا، وعنوانه “السنن النفسية لتطور الأمم”(1).

ورغم مرور هذه المدة الزمنية الطويلة، فإن تحليلاته ما تزال صائبة، وكأنه حي يرزق، يراقب ما يجري من أحداث سياسية في عالمنا المتقلب هذا.

وعندما نُسقط أقواله على أحوال العرب في وقتنا الحاضر، نجده يُحلل بنقاط واضحة جارحة أسباب انحطاط هذه الأمة.

والمثير للدهشة أن الأفكار النظرية لجوستاف لوبون – رغم ما فيها من استعلاء وعنصرية – تصف بدقة أسباب اضمحلال الدولة اليمنية وتفككها إلى مقاطعات..

يقول عن النظام السياسي في الأرجنتين:

“وليست الأرجنتين جمهورية إلا بالاسم، والحقيقة أنها حكومة أناس يجعلون من السياسة تجارة” ص 132.

قال هذا الكلام في حدود عام 1910، وربما أن الأرجنتين بعد مرور مئة عام قد تخلصت شيئًا ما من هذه الوصمة، ولكن ما يهمنا هنا هو أن هذا التوصيف ينطبق على الأنظمة الاستبدادية العربية، المسماة جمهوريات على وجه التحديد، فهذه الأنظمة خصوصًا في مرحلة انحدارها لم تعد جمهورية إلا بالاسم، فكل رئيس جمهورية كان يعد ابنه وليًّا للعهد من بعده، وصارت السياسة في زمنهم مصدرًا مضمونًا للأرباح التجارية.

في الغرب عندما تنتهي مدة ولاية الرئيس أو رئيس الوزراء أو أيّ وزير من وزرائهم، تجده يبحث عن عمل يقتات منه، فهو مجرد موظف له راتب محدود، وسيخرج من منصبه الحكومي بحقيبة يحمل فيها أغراضه الشخصية فقط.

عندما انتهت فترة ولاية المستشار الألماني (غيرهارد شرودر) عاد إلى شقته المتواضعة في برلين، والتحق بدورة في اللغة الإنجليزية، ثم حصل على عمل في إحدى الشركات.

جميع المسؤولين في الغرب، بعد أن يغادروا مناصبهم الحكومية، ينزلون إلى سوق العمل لتأمين لقمة عيشهم، فخزائن الدولة لم تكن مفتوحة لهم ليغرفوا منها كما يشاؤون.

بينما يحدث العكس في البلدان العربية، فنجد المسؤول الحكومي بعد أن يغادر موقعه في الدولة، قد صارت لديه ثروة جمعها أثناء فترة شغله للمنصب، تكفيه لينفق منها على نفسه وأولاده وأحفاده بيسر، إذ إننا لم نسمع أبدًا عن رئيس عربي أو رئيس وزراء أو حتى وزير قد اضطر إلى العمل بعد خروجه من منصبه.

خرج الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) من البيت الأبيض مديونًا، بسبب تكاليف القضايا المرفوعة ضده، فاضطر إلى تحصيل رزقه من إلقاء المحاضرات، وكتابة مذكراته.

ومزاولة السياسة في معظم الدول العربية تؤمّن مصدرًا وفيرًا للدخل، فلا يحتاج السياسي إلى رأسمال يبدأ به، ولا يتطلب تكوين ثروة سوى إجادة النفاق، فلا يحتاج إلى بذل العرق في بناء مصنع أو تأسيس شركة أو الخوض في مغامرات تجارية غير مضمونة الربح.

وخلاصة القول إن أيسر طريق للثراء في عالمنا العربي ليس العمل الشريف، ولكن الارتباط بمجموعة سياسية لها تمويل وفير.

هذه هي البداية، عندما يتحول الحاكم من موظف أمين إلى تاجر فاجر، يغش الأمة ليحصل على ربح شخصي.

نتأمل في ما يلي ما قاله جوستاف لوبون حول أسباب انحطاط الأمم:

“ونحن إذا ما بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم، وهي التي حفظ التاريخ لنا خبرها كالفرس والرومان وغيرهم، وجدنا أن العامل الأساسي في سقوطها هو تغير مزاجها النفسي تغيرًا نشأ عن انحطاط أخلاقها، ولست أرى أمة واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها” ص176.

وحين ننظر إلى الأمة اليمنية في وقتنا هذا، نجد أن كلمات لوبون تنطبق عليهم تمام الانطباق، فاليمنيون شمالًا وجنوبًا أذكياء، بل هم أذكى من الأمم المجاورة لهم، ولكنهم من الناحية الأخلاقية من أردأ الأمم على الإطلاق، لذلك كان من النتائج الحتمية أن تنهار الدولة اليمنية وتتشظى إلى دويلات متناحرة، وهذا ما أخبرنا به لوبون بوضوح قبل مئة عام، فنراه يحكم علينا بدقة مدهشة.

اليمني يولد في بيئة بسيطة متواضعة، ويبدأ حياته فقيرًا، ثم يقفز إلى الثراء وحياة القصور والبذخ والأرصدة البنكية المليونية عن طريق الانتماء إلى تيار سياسي ما.. إنه ذكي لاشك في ذلك، لأنه نجح في تحقيق المكاسب المادية التي يحلم بها كل إنسان، ولكنه خسيس أخلاقيًّا، لأنه فضل مصلحته الشخصية أو مصلحة تياره السياسي على مصلحة الوطن الأم.. وفي أحسن الأحوال مع توفر حسن النية، سنقول إن السياسي اليمني قصير النظر، ضيق الأفق، ولا يمتلك رؤية بعيدة المدى، فهو يقيس الأمور ضمن مجال عمره الافتراضي هو، أي بعدة عقود، ولا يقيسها بمقياس أكبر هو العمر الافتراضي للأمة الذي قد يمتد لقرون وربما لآلاف السنين.

نحن الآن نمر بمرحلة الانحطاط التي حللها لوبون، ولا سبيل لوقف هذا الانحطاط إلا بطريقة واحدة فقط: وقف التدهور الأخلاقي.

هل يدرك اليمني أنه منحط أخلاقيًّا؟ بالطبع لا، بل ربما يرى نفسه أنموذجًا رفيعًا للأخلاق! والمؤكد أن أسوأ أنواع الانحطاط الأخلاقي هو الانحطاط الذي لا يشعر به حامله، ولن يكتشف هذه الصفة في خُلقه إلا بعد فوات الأوان وتدمير بلاده، وحينها لا ينفع الندم، ولا أيّة صحوة أخلاقية متأخرة!

والخلاصة، أن إنقاذ اليمن كبلد والشعب اليمني كأمة، لن يأتي عن طريق أفراد أذكياء، ولكن طريق أفراد يتوفرون على ميزات أخلاقية عظيمة.

كتاب لوبون فيه مباحث أخرى كثيرة مهمة، تقع في خمسة فصول هي:

صفات العروق النفسية، كيف تتجلى الأخلاق النفسية للعروق في مختلف الحضارات، اشتقاق تاريخ الأمم من أخلاقها، كيف تتغير أخلاق العروق النفسية، انحلال أخلاق العروق وانحطاطها.

كتاب جوستاف لوبون الآنف الذكر هو سفر نفيس لا غنى عنه لأيّ رجل أو امرأة له أو لها صلة بالعمل السياسي.. إنه المعلم الأعظم لفن السياسة، وما هي السياسة، وكيف يسوس القادة الأمم ويرفعونها إلى قمم المجد والسُؤدُد.

—————–   

(1) السنن النفسية لتطور الأمم: جوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، دار فارس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2018.

*كاتب وروائي يمني

   
 
إعلان

تعليقات