Accessibility links

عبده علي عثمان: السِّيرة الأكاديمية والدرس الوطني  


إعلان

عبده علي عثمان… قِيَمٌ ساميةٌ ستظلُّ وارِفة

 

صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري

رحَلَ عن الدنيا، أمس الاثنين – الموافق الحادي والعشرين من كانون أول (ديسمبر)، الأكاديمي اليمني البارز الدكتور عبده علي عثمان مُخلِّفًا تراثًا عِلميًّا زاخرًا، ومسيرة سياسية وفكرية وإنسانية، قدَّمَ من خلالها أنموذجًا في الالتزام القِيَمِي والعِلْمي والإنساني، يبقى تجسيدًا واضحًا للدرس الوطني في سياق حياة وارفة بالمعاني النبيلة.

واعتبر أكاديميون وكُتَّابٌ يمنيون رحيله خسارة كبيرة لليمن، لا سيما في ظلّ هذه الظروف؛ إذ يترك رحيله فراغًا كبيرًا يصعبُ ملؤه في المدى المنظور.

 

نكران الذات

جماعة نداء السلام اليمنية أصدرتْ بيانًا نعَتْ فيه الرمز الوطني الدكتور عبده علي عثمان، «والذي اتَّسمَ تاريخه بالعطاء ونكران الذات وعفّة اليد وصِدْق المواقف ووضوحها، يشهدُ له بذلك كلُّ مَن عرَفه، وكلُّ مَن تتلمذَ على يده».

ووفق البيان فقد «انتظمَ الفقيد في العمل الوطني، في خمسينيات القرن الماضي، من خلال عضويته في حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي سرعان ما أصبح واحدًا مِن أبرز قياداته، ثم أصبحَ فيما بعد عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني».

«وقبْل أنْ يعزله المرض عن رفاقه ومُرِيديه ومُحبِّيه، كان عضوًا فاعلاً في التجمُّع الوطني لمناضلي الثورة اليمنية، أحد مكونات جماعة نداء السلام، وكان – رحمه الله – مُنفتِحًا على كلّ أطياف الحركة الوطنية، فاتسمتْ علاقته بكلّ المكونات السياسية والشخصيات الوطنية، بالاحترام المتبادَل».

وشغَلَ الفقيد مواقع حكومية، كان آخرها وزيرًا، في سبعينيات القرن الماضي… «ولكنه فضَّلَ الانصراف إلى العمل الأكاديمي في جامعة صنعاء، فكان أول أستاذ يمني يلتحقُ بسلْك التدريس الجامعي، ورغم المَناصِب الرسمية التي شغلها، فقد عاشَ نظيفًا ومات نظيفًا، لم تتلوث يده ولا سمعته، بما يُغري ضعاف النفوس»، يقولُ البيان.

وأشارَ البيان إلى عددٍ مِن الأكاديميين الذين تتلمذوا على يد الراحل، على مدى مسيرته الأكاديمية، والذين صاروا اليوم منتشرين على امتداد الساحة اليمنية كلها.

 

قادري حيدر: كان عبده علي أستاذًا أكاديميًّا، وقائدًا سياسيًّا، وقصيدة حُبٍّ وفرح، وحياة تُبْهِجُ مَن حوْله

 

ناسِكٌ وعصامي

  الكاتب والباحث اليمني قادري أحمد حيدر استعرضَ بعض ذكرياته مع الأكاديمي والباحث في الفكر الاجتماعي عبده علي عثمان؛ باعتباره «أستاذي وصديقي، وأخي الأكبر، وهو ما كنتُ – حقيقةً – أشعرُ به وأنا معه.. كان صورة متحركة صوب الجديد وباتجاه المستقبل، إنسانًا يجمعُ بين البساطة والعمق في رؤية واضحة للوطن وللإنسان، بقدْر شِدّة إعجابنا بإنجازاته ومساهماته الجليلة، بقدر بساطته؛ لأنه كان في أعماقه ممتلئًا بالتواضع والمحبة لِمن حوله».

«عاشَ الحياة، طولاً، وعرضًا، وفي عقله أنْ يرى اليمن بأزهى صور حُلل التقدم.. كان عبده علي أستاذًا أكاديميًّا، وقائدًا سياسيًّا، وقصيدة حب وفرح، وحياة تُبْهِجُ مَن حوْله، ويجعل مشوار الحياة أمامهم أسهل، منذ بداية معرفتي به رأيته يتجه بكلّيته صوب التغيير والثورة؛ فقضيّتَي التغيير والثورة كانتا همّه العظيم، سواء وهو في قاعة الدرس الأكاديمي يلقي محاضراته لطلابه، أو في إدارته للاجتماع الحزبي مع رفاقه، وأنت معه تحتاجُ إلى زمن إضافي لتكتشفه مع كلّ ساعة أكثر مما كنتَ عليها قبل ذلك»، يقول.

وأشادَ بما كان يتمتعُ به من سجايا «ناسك/ عصامي، وراهب تجاه أشياء الحياة المادية، وحين وصل إلى موقع الوزير في أهم وزارة لها علاقة بكسْب الأرض والمال، وزارة (البلدية والإسكان)، حافظَ على كلّ شبر من أرض البلاد، كان بإمكانه أنْ يملكَ دنيا من الأراضي، كما فعل غيره… لكنه خرج من الوزارة دون أرض خاصة به».

وأكّدَ قادري حيدر أنّ «عبده علي عثمان مثقّف كبير، وسياسي نبيل وعظيم، التصق وتوحَّدَ به اسم “غاندي”؛ تعبيرًا عن توجهه السياسي السِّلمي/ وليس السلاموي، تجاه قضايا الحياة كلها، بما فيها الشأن السياسي والوطني والإنساني، فقد كان في كلّ سلوكه وطروحاته غانديًّا يمنيًّا، وفارسًا لا يتوانى في الدفاع عن الحق، وعن خياراته السياسية التي يؤمنُ بها، ولكن دون تعصُّب، ودون تبرير اللجوء للعنف».

وقال قادري إنّ عبده علي عثمان في سيرته الذاتية، «يذكّرنا بفرسان العصور الوسطى، وبالشخصيات الملحمية الأسطورية الأثيرة إلى النفس، يذكّرنا بإنسان الفتوحات القِيَمية مثله مثل عبدالحافظ قائد، عبدالقادر سعيد، عبدالجليل سلمان، سيف أحمد حيدر، سلطان أمين القرشي، يوسف الشحاري، عبدالله باذيب، عبدالعزيز المقالح، علوان الشيباني، علي باذيب، عمر الجاوي، سلطان أحمد عمر، محمد  الربادي، محمد علي الشهاري، محمد عبدالقادر بافقيه.. إلخ».

 

عبده علي عثمان شخصية أكاديمية وسياسية مختلفة، وخلال نصف قرن شكَّلَ، وفْق الشاعر والكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني، حالة نادرة من الحضور العلمي والأخلاقي والتسامُح الكبير

 

أكاديمي وسياسي

عبده علي عثمان شخصية أكاديمية وسياسية مختلفة، وخلال نصف قرن شكَّلَ، وفْق الشاعر والكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني، حالة نادرة من الحضور العلمي والأخلاقي والتسامح الكبير.

«انتمى باكرًا للتيار القومي (البعث)، لكنه مع مرور الوقت صار أحد رموز اليسار في اليمن، وقائدًا في الحزب الاشتراكي الذي انتخبه في واحد من مؤتمراته عضوًا في لجنته المركزية».

وأضاف الشبياني: «حينما تعين وزيرًا للبلديات في آخر حكومات محسن العيني، في الثلث الأول من السبعينيات، كان يُتوّجُ مرحلة مِهنية في العمل العام، تركتْ أثرًا كبيرًا، أقلّها أنه لم يتكسب منها مطلقًا، حتى قطعة أرض صغيرة يبني عليها مسكنًا، وكان بجرّة قلَم يستطيعُ منْح نفسه آلاف الأمتار من أرض الدولة دون أنْ يُحاسِبَه أحد، لكنه لم يفعل، ووقفَ بكلّ شجاعة أمام مافيا الأراضي والمشايخ؛ حمايةً لأراضي الدولة، وبكلّ شجاعة تركَ الوزارة حين اختلف مع توجهات الحكومة وقتها».

«وحين تفرَّغَ للعمل الأكاديمي في قسم الاجتماع بكلية الآداب – جامعة صنعاء، أمسك بعمادة شؤون الطلاب في أهم مراحل بناء الجامعة، فكان يُشارُ إليه بذات البَنان التي تُشِير إلى الدكتور عبدالعزيز المقالح – رئيس الجامعة وقتها، وكان يسكنُ إحدى الشُّقق المتواضعة التابعة لها».

وتابع الشيباني: «طلابه في قسْم الاجتماع، منذ منتصف السبعينيات، بالمئات، ويُشكِّلُ العديدُ منهم علامات فارقة في العمل الأكاديمي والبحثي في عديد من الجامعات ومراكز الأبحاث في الداخل والخارج».

وأضاف، متحدّثًا لـ”اليمني الأميركي”: «كان الراحل مُقلًّا في نشره، غير أنّ إصداره المتميِّز المعنون (كتابات في التاريخ الاجتماعي للمجتمع اليمني)، الذي أصدره مركز الدراسات والبحوث اليمني قبل سنوات، طرق فيه أبرز القضايا الإشكالية في المجتمع، وعلى رأسها قضايا المهمَّشين والفقراء (الأخدام في اليمن – أصولهم وعاداتهم)، ومسألة الملكية والمشاركة في الأراضي الزراعية، والنمو الحضري في اليمن المعاصر، وبعض المفاهيم الاجتماعية والانثروبولجية في كتابات الهمداني، والجماعات الهامشية في اليمن، والصِّلات الحضارية والثقافية بين اليمن والمستوطنات الحضرية في شرق أفريقيا وغيرها من الموضوعات الحيوية ذات الصلة بالمجتمع اليمني، وفق الشيباني الذي أكدَ أنّ اليمن برحيله فقَدَتْ إحدى قاماتها العلمية والسياسية الكبيرة، التي سيبقى أثرها عميقًا وواضحًا في تاريخها المعاصر».

 

أمين نويصر: عرفتُ عبده عثمان مُناضلًا جسورًا صافي الفكر، ومُحاوِرًا بارعًا يمتلكُ حُجَج الإقناع عندما يكون طرَفًا في الحوار

 

الحركة الوطنية

فيما نوّهَ المُحاضر الجامعي د. أمين نويصر بخصوصية تجربة الراحل عبده علي عثمان في أوساط الحركة الوطنية اليمنية، وقال لـ”اليمني الأميركي”: «عبده علي عثمان اسمٌ معروف في أوساط الحركة الوطنية اليمنية، وقاسمٌ مشترك للقوى التقدمية والنيِّرة».. «استطاع خلال مسيرته أنْ يكتبَ سيرة نضال مختلفة بصفات راقية ووعي عالٍ تمكّن من خلاله إدراك مراحل التطور».

وأضافَ نويصر: «عرفته مناضلًا جسورًا صافي الفكر، محاورًا بارعًا، يمتلكُ حُجج الإقناع عندما يكون طرفًا في الحوار.. هو معلّمٌ وأستاذٌ جامعيٌّ لا يُشَقُّ له غبار في المعرفة العلمية الاجتماعية، ويشهدُ بذلك من درَس على يده في جامعة صنعاء، والذي كان أحد مؤسسيها».

وأشار إلى أنّ الراحل «لعِبَ العديد من الأدوار في الحياة السياسية والاجتماعية، وكان واحدًا من قادة المقاومة الشعبية إبّان حصار السبعين… فسجَّلَ التاريخ هذه الأدوار المجيدة لهذا الليث الذي رحَلَ، ولكنه لم يرحل، بل نحن مَن رَحَلْنا عنه».

في الأخير…

رحَلَ الدكتور عبده علي عثمان مُخلِّفًا مسيرةً ستظَلُّ درسًا وطنيًّا ناصعًا تنهلُ منه الأجيال معانيَ عظيمة في كيفية التعاطي مع المسؤولية الوطنية والأخلاقية والإنسانية.

   
 
إعلان

تعليقات