Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
حين نقرأ أقدم أسطورة أنتجها العقل البشري على الإطلاق، ألا وهي أسطورة الإينوما إيليش المنسوبة إلى الشعب البابلي العريق -كتبت على وجه التقريب عام 1800 ق.م- تنتابنا الدهشة التامة من الجمال الأدبي الفائق لهذه الأسطورة، وقوتها الرمزية البالغة العمق، حيث الرمز متعدد الطبقات، والمعاني الخفية متفجرة الدلالات، وكأننا في موكب عظيم ليس له طرف أو حد نهائي.

فهي أسطورة تلخص المبادئ الأساسية لكافة العلوم والآداب والفنون على وجه الأرض. هل هذا ممكن؟ هل تستطيع أسطورة محدودة الكلمات أن تختزل كافة علومنا البشرية في جمل قليلة مكثفة؟ إن الذي يقرأ أسطورة الإينوما إيليش بتمعن يدرك كم هو جبار العقل البشري، حين استطاع الحدس بأعمق أسرار الوجود، متفوهًا بها في أسطر مقتضبة.

تم اكتشاف هذه الأسطورة موزعة على سبعة ألواح فخارية، في الحفريات التي كشفت عن قصر الملك آشور بانيبال في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد احتوت مكتبة الملك الآشوري على مئات الألواح التي تتطرق لمواضيع عديدة، أدبية ودينية وقانونية وتوثيقية لسيرة هذا الملك المستنير المحب للثقافة الذي أسس أول مكتبة في التاريخ. 

وتحكي الأسطورة عن خلق الكون، وكيف نشأ العالم، وكيف بدأت الحياة على كوكب الأرض. ونكاد نلمح تطابقًا بين نظريات العلم الحديث حول نشوء الكون -نظرية الانفجار العظيم- وتكّون المجرات من سحب غازية، وبين الترميز الذي تلجأ إليه الأسطورة للدلالة على الأحداث الكونية.

وينبغي أن نأخذ في الحسبان أن الإنسان المعاصر يمتلك ثروة لا تنضب من المصطلحات العلمية، وهو ما لم يكن متاحًا للإنسان في العصور الغابرة. ونحن اليوم على سبيل المثال نتداول “الانفجار العظيم” كنظرية علمية، بينما قد تبدو هذه النظرية بعد خمسة قرون خاطئة، ولا ترقى حتى إلى مستوى الأسطورة! معظم النظريات العلمية تهوي بالتقادم، وتبزغ نظريات علمية أخرى جديدة تؤسس لقفزات تطورية لمدى معين، كما هو الحال مع نظرية الجاذبية لإسحاق نيوتن التي طواها الزمن، فانشغل علماء الفيزياء في القرن العشرين وقرننا هذا بالنظرية النسبية لآينشتاين وبالنظرية الكمومية لماكس بلانك. كما تفتقر النظريات العلمية إلى الخلق الأدبي، عكس الأسطورة، ما يجعلها بعد مرور قرون قليلة، وظهور نظريات مستحدثة تالية لها، ضئيلة القيمة، وفانية غير قابلة للخلود، وذلك لخلوها من الرمز والاستعارات الميتافيزيقية.

تبدأ أسطورة الإينوما إيليش بهذا المقطع الجليل: 

“عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء، وفي الأسفل لم يكن هناك أرض، لم يكن من الآلهة سوى آبسو أبوهم، وممو، وتعامة التي حملت بهم جميعًا. يمزجون أمواههم معًا. قبل أن تظهر المراعي وتتشكل سبخات القصب، قبل أن يظهر للوجود الآلهة الآخرون، قبل أن تُمنح لهم أسماؤهم، وتُرسم اقدارهم”(مغامرة العقل الأولى، فراس السواح، دار علاء الدين، دمشق، 2002). 

ونلاحظ التقارب اللغوي العجيب بين لفظة (تعامة) الواردة في النص البابلي، ولفظة “عماء” في اللغة العربية. وفي الحديث الشريف أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاب عن سؤال: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: كان في عماء. والعماء هو الغيم الرقيق.

ويميل فراس السواح مؤلف كتاب “مغامرة العقل الأولى” إلى أن (آبسو) المذكور في النص هو الماء العذب، وأن (تعامة) هي الماء المالح، وأن (ممو) هو الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها. ولكن الدور المناط بـ(تعامة) في الأسطورة يخالف رأيه ذاك، والأرجح أن المقصود بـ(تعامة) هي السحب الغازية التي تشكل منها الكون.

وتتحدث الأسطورة عن حرب هائلة بين تعامة والإله مردوخ، انتهت بانتصار الأخير وقيامه بشق جثتها نصفين، فرفع النصف الأول فصار سماء، وسوّى النصف الثاني فصار أرضًا. وهذا تمثيل رمزي لتشكُّل الأجرام السماوية وانفصالها عن سحب الغاز. كما تشير الحرب إلى القوى الجذبوية في الكون.. 

وعندما ننتقل إلى حقل آخر من حقول العلم، وهو علم النفس الحديث، يلفت نظرنا التطابق بين رموز الأسطورة، ومفردات علم النفس ومصطلحاته الشائعة. وإذا قمنا بقياس الإينوما إيليش بمقياس علم النفس التحليلي، فإننا سوف نتعرف على تلك اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية، وهي لحظة انتصار مردوخ -الذي جلب النظام للكون- على تعامة الأم المتسببة في الفوضى، والتي أنجبت أحد عشر مسخًا لإثارة ذعر أبنائها! يمكن القول إن مردوخ يقابل “الواعية” وتعامة تقابل “الخافية”. ويبدو أن الإنسان البابلي بتأليهه لمردوخ قد غيّر مجرى التطور البشري، فهو ينحاز للعقل ضد الخرافة، وللوعي ضد اللاوعي، وللنظام ضد الفوضى، وللأب ضد الأم، وللظاهر ضد الباطن، وللذكورة ضد الأنوثة.. إن الإينوما إيليش توثق لحدث جلل، هو لحظة تحول البشر من التفكير الميتافيزيقي إلى التفكير العقلاني، وبدء تأسيس الحضارة.

ويستخدم المحلل النفسي كارل غوستاف يونغ مصطلح الأنيمة -لاحظ التقارب اللغوي مع لفظة الإينوما- للإشارة إلى عنصر الأنوثة في التكوين النفسي للرجل، وهو يعرفها بأنها: “جماع اختبارات الرجل للمرأة”(سر الزهرة الذهبية، كارل غوستاف يونغ، دار الحوار، اللاذقية، 1988).

وأما الفنان التشكيلي فإن له أن يغترف ما شاء من الصور السوريالية، والرموز البدئية، والمواضيع الخارقة للعادة ذات الإسقاطات النفسية العميقة، وغير ذلك من الفلذات الفانتازية الغنية بالدلالات التاريخية والأنثروبولوجية. وهناك العديد من الرسامين العالميين ممن تأثروا بهذه الأسطورة البديعة وتمثلوها في أعمالهم، وعلى رأسهم الفنان الشهير بيكاسو الذي طوّر أسلوبه الفني من وحي الصور والأوصاف الخيالية التي تعج بها الإينوما إيليش.

وأما المسرح، فإنه مدين بظهوره في بداياته للإينوما إيليش وغيرها من الأساطير الدينية التي كانت تعرض ممسرحة للشعوب القديمة في أعيادها، فالأسطورة أصل المسرح، ومن رحمها خرجت شموس الفنون لإثارة كوامن الإبداع لدى البشر، فيما يشبه عملية تحويلية بارعة لمسوخ (تعامة) الأحد عشر إلى سياقات جمالية تتكامل بها الشخصية الإنسانية.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات