Accessibility links

إعلان

فكري قاسم*

إلى ما قبل توسُّع نشاط الجماعات الدينية المتزمتة، مطلع التسعينيات، كان لدى اليمنيين اهتمامات أنيقة.

على سبيل المثال فحسب، كانت الأستريوهات تصدح بكل جديد للطرب، وكان المجتمع يعرف الله، ويعرف الرسول، ويعرفون الآنسي والسنيدار والمرشدي وفيصل علوي وأمل كعدل ومحمد سعد عبدالله وأيوب والحارثي.

واليوم، وأمام كل هذا الدمار الحاصل باسم الله، لا يعرف المجتمع أين الله من بين كل هذه الدماء، ولا يعرفون “أحمد بن أحمد قاسم”، ولكنهم يعرفون جيدًا “قاسم الريمي”، و”جلال المرقشي”، و”العولقي”، وبقية شلة صناعة الوحشة.

كان سوق الأغنية اليمنية لوحده يمطر الذائقة، بداية كل عام، بأكثر من ألبوم غنائي لأكثر من فنان محلي، وكانت ذائقة الناس حلوة، والفرح ينط من شبابيك البيوت، ومن يوم تسربت إلى حياتنا اليومية فِرق الجهاد وجماعات الدين المتزمتة، اندثرت الأستريوهات، وخرست الأغنيات.. مات الفرح، وارتفعت أصوات كاسيتات الوعظ المتشنج، وصدى الملاحم في رداع.

والآن تسأل كثرة من الناس: من هو أحمد بن أحمد قاسم؟ والله ما لي علم، ولكنهم يعرفون جيدًا “قاسم الريمي”، و”جلال المرقشي”، وبقية شلة صنّاع الوحشة.

بعد حرب صيف 1994 تحديدًا، خاضت فرق الدين المتزمتة حربًا ضروسًا ضد الفنون، وضد ذائقة المجتمع، وفي سبيل إحلال أصواتهم الموحشة مكان أصوات فنانين غنّوا للأرض وللحب وللإنسان، دقوا باب كل بيت يوجد فيه مكتبة غنائية أو كرتون أشرطة، طلبوا منهم باسم الله وباسم الجنة وباسم النار استبدال تلك الأشرطة “المنكرة” بأشرطة تحكي عن عذاب القبر وعن دين كمّل الناس فجايع.

في الأسواق أيضًا فرشوا البسطات على جنبات الطريق وملأوها بكاسيتات وعظية من حقهم، ووضعوا إلى جانبهم أكياس قمامة، ونادوا في الناس جهارًا عيانًا: هاتوا أشرطة الأغاني المنكرة، واستبدلوا الواحد منها بخمسة أشرطة للشيخ زعطان، والناس غلبانة استبدلت صوت الحياة بأصوات كلها تدعو إلى الموت، وتصنع الوحشة.

في مرة من أيام العام 1995 تقريبًا، ذهبت إلى بسطة لاستبدال الكاسيت في سوق الصميل بتعز، ومعي كاسيتات كثيرة لأغانٍ هندية والله ما كنت داري مو يقولوا داخلِه، لكنني ورثتها من أيام المراهقة.

المهم كانت بسطة الرجل ذي اللحية المشعبكة مليئة بكاسيتات عن الشجاع الأقرع، ومن هذا الهدار، وإلى جواره كرتون لاستقبال أشرطة الغناء واستبدالها بخمسة كاسيتات من فوق البسطة، ولما لمحت في الكرتون كاسيت “آه لو الأيام بتتكلم” للفنانة وردة الجزائرية نكعت نفسي فوقه، وطلبت منه استبدال أحد الأشرطة الهندية الكافرة بكاسيت وردة المسلمة، وعادنا ما كملتش كلامي إلا وقد الرجال يشقدف وردة ويشقدفني ويشقدف الهنود، وبينصحني أبطّل من هذا المنكر الهندي.

قلت له أين المنكر فيه وأنا وأنت أيضًا مش دارين مو يقولوا الهنود.. ما هو المنكر في الموضوع؟، رد بسرعة كمن وصل إلى الخلاصة: الهنود يعبدون الأبقار..!

ومن يومها وأنا أحترم الأبقار، وأُشفق على الحمير.

* كاتب يمني ساخر

   
 
إعلان

تعليقات