Accessibility links

إعلان

أحمد محمد يحي العرامي
كان القط عبقور قد عبر حدود الزمن آتيًا من القرن الثاني والعشرين، متوجهًا إلى القرن التاسع عشر كي ينقذ عامر الذي يقطن في مدينة طوكيو من مستقبله المريع.. لكن وأثناء عبوره أجواء اليمن، وتحديدًا عندما صار في مدينة صنعاء أصاب طلق ناري من أحد الأعراس خزان الوقود الخاص بآلة الزمن، أفرغها تمامًا، وبدلاً من اليابان.. هبط  في اليمن في القرن الحادي والعشرين..!

كان عبقور حينها في وضع السبات، لكنه أفاق نتيجة ارتطام آلة الزمن بالأرض فاعتقد أنه وصل إلى اليابان.. راح يطالع الشاشات الخاصة بأجهزة التحكم، فوجد أن خزان الوقود فارغ تمامًا، وما يزال هناك ثانيتان حتى يصل إلى اليابان.. فقط ثانيتان ..!!!

فزع عبقور، وقال محدثًا نفسه:

– ما هذا الحظ، أين أنا؟

ترجّل عبقور من آلة الزمن وأجال بنظره في المكان فوجده مظلمًا للغاية.. فارتعب ظنًّا منه أنه تاه في إحدى الفجوات الزمنية.. حينها لاح له ضوء من بعيد كان قادمًا باتجاهه، وعندما صار ذلك الجسم قريبًا كفاية رأى عبقور قطة تضع مصباحًا كهربائيًّا حول رأسها، مرت بجانبه فاستوقفها قائلاً:

– المعذرة سيدتي..

لكن القطة تجاهلته وواصلت مشيها.. استغرب عبقور، وظن أنها لم تسمعه، فتبعها واقترب حتى صار بمحاذاتها وجعل يقول:

– معذرة سيدتي أنا واقع في مشكلة.. هلّا أخبرتني أين أجد…

قاطعته القطة غاضبة:

– “أنت ما بتستحيش على نفسك، ما بش معاك خوات؟ يخو لقلة الحياء”

قالت ذلك وقلبت عيناها وأكملت طريقها.

تسمّر عبقور في مكانه وظل يراقب القطة من الخلف، وهي تبتعد، وذيلها المتسلل من تحت الستارة يترنح بخيلاء..

لم يعرف عبقور ماذا سيفعل، فجلس يفكر.. أخرج مصباحًا من جيبه، وظل ينيره ويطفئه.. ما كانت القطة متجهة إلى منزلها بعد أن كانت في حفلة زفاف إحدى صديقاتها، أحست بشيء من الندم كونها لم تعطِ فرصة لذلك القط الغريب الذي يبدو وكأنه ليس من الحيّ، رجعت إليه وهو جالس شريد البال، فاعتذرت وسألته عن حاجته فأخبرها بقصته، قالت له:

– “كم تشتي؟”

– “عشرين لتر.. أصلاً باقي شوية وأوصل.. عشرين لتر يكفوا”

ذهبت القطة مسرعة وعادت على الفور حاملة “دبة صفراء فارغة من حق الزيت” سعة عشرين لترًا، وقصدت بصحبة عبقور إحدى المحطات القريبة.

عندما وصلا إلى المحطة كان هناك طابور طويل من السيارات في انتظار الدور لتعبئة الوقود.. وقفت القطة بصحبة عبقور في نهاية ذلك الطابور.

استغرب عبقور وقال للقطة:

– “أيش؟ وين المحطة؟”

– “إحنا في المحطة ذلحين بس ضروري نسارب لما يجي دورنا ونعبي”

– ” ليش هكذا.. يعني معاكم محطة واحدة في البلاد كلها؟”

ابتسمت القطة وشرعت تحكي لعبقور طبيعة الوضع في اليمن.. وطوال القصة كان عبقور يستمع إلى القطة وهو فاغر فاه.. مبلود يعني.. وعندما أنهت القطة حديثها قالت له ممازحة:

– “أقدر أقولك ذلحين أهلاً وسهلاً فيك في ج** الحمار” قالت ذلك وأتبعتها بضحكة لطيفة.

عندها، وبدون أن يشعر، صاح عبقور:

– “يا جنااااااااااااه”

عرف عبقور أنه تورط، لم يكن يعرف ج** الحمار، بل لم يرَ حمارًا في حياته لأنها انقرضت جميعها في المستقبل، لكنه فهم أن القطة استخدمت هذه الإستعارة لتبيّن له أنه عالق فعلاً، المسكين.. كان يظن أنها مجرد استعارة.

حاول عبقور، كما تم تعليمه في المستقبل، حاول أن يلتفت إلى الجانب الإيجابي في ما حدث له، وفكر أنه ربما ساقه القدر إلى هذه البلاد كي ينقذها مما هي فيه.. عندها لوّحت القطة بإحدى قوائمها في وجهه، وهي تقول:

– “ييي، مالك طننت؟”

– “هه.. ولا شي مابش حاجة”

ضحكت القطة وسألت عبقور مستغربة عن كيفية إتقانه لهجتها.. فأجابها أن ثمة جهازًا مزروعًا بداخله يجعله قادرًا على التحدث بلغة ولهجة البلاد التي يحل فيها، ثم أطرق يحدثها عن المستقبل وجيبه الممتلئ بالاختراعات، وأخبرها أيضًا عن عامر الذي ينتظره هناك في المسلسل.

بعد ثلاثة أيام من “المساربة” جاء دورهم أخيرًا.. وضعت القطة “الدبة” وعندما فرغ العامل من تعبئتها قال وهو يرجع الأنبوب إلى مكانه:

– “خمسة ألف وميتين”

تبادل عبقور والقطة النظرات، فلكزته القطة وقالت:

– “هيا حاسبه للطنان”

اقترب عبقور منها، وهمس في أذنها:

– “مممم.. مابش معي زلط”

اقترَبت منه، وهمست له:

– “هيا قرح أرجلك يا بطل”

لم يفهم عبقور.. فأمسكت القطة يده، وهربا على الفور.. عندما صارا بعيدين  توقفا ليستريحا.. حينها قال عبقور بأنفاس متقطعة:

– ” ابسري.. جيبي هذا فيه اختراعات خيرات.. عنبيع اختراع ونشتري بالزلط بترول، وعتبقى زلط خيرات اشتريلش بها فستان وأي شي تشتيه”

على الفور تعلقا بمؤخرة سيارة هيلوكس وقصدا سوق السرق في باب اليمن.. باعا ثلاثة اختراعات بستة آلاف ريال.. بخسوه.. وفي طريق العودة استقلا تاكسي بثمان مائة وقصدا محطة أخرى بعد أن غابت القطة لتعود حاملة “دبة” صفراء أخرى فارغة سعة عشرين لترًا.. تلك المحطة كانت مزدحمة أيضًا.. ظلا في الطابور أربعة أيام..  فأكملا حديثهما من حيث توقفا، وعندما وصل دورهم… وضعت القطة “الدبة”.. فرغ العامل من تعبئتها، وقال:

– “ثمانية ألف ريال”

انفجرت القطة، وقالت:

– “عذا كانت بخمسة وميتين من المسراقة!!”

– “ارتفع سعرها.. وين انتي راقدة”

– “طيب عنسير ندبّر الزلط ونرجع فيسع.. قوى لا تبيعهاش الله يحفظك”

– “ناهي.. لكن اقطبوا”

وبسرعة قصدا مجددًا سوق السرق.. باعا اختراعين بأربعة آلاف وعادا إلى المحطة، لكن العامل كان قد باع “الدبة” لشخص آخر بضعف المبلغ وأنكرهما؛ فاضطرا للوقوف في الطابور.. ظلا مجددًا يتبادلان الأحاديث.. وعندما وصل دورهم بعد “مساربة” دامت ليومين حدث تبادل لإطلاق النار في المحطة، فتم إغلاقها على الفور..!

يئس عبقور.. يئس تمامًا..

أشفقت القطة على عبقور كثيرًا.. أخبرته بألّا يبارح مكان،ه وغابت ساعة من الزمن، وعادت بعشرين ألف ريال وضعتها بين يدي عبقور.. دهش عبقور، ولاحظ اختفاء الطوق الذهبي الذي كانت ترتديه القطة.. كانت قد أخبرته سابقًا أنها ورثته من أمها التي كانت ملكًا لأحد الأثرياء.. تأثر عبقور عندما لاحظ اختفاء الطوق، واغرورقت عيناه.. ثم قال لها وقد فاض به الكيل:

– “ما عنفعل بالزلط.. قسمًا بالله ما ازيد أسارب”

– “جي معي.. ما عليك”

حينها قصدا السوق السوداء واشتريا “دبة” بترول بخمسة وعشرين ألفًا..  وفي طريق العودة كان عبقور سعيدًا للغاية.. وطوال الطريق كان “بيتحيلا” للقطة من أعماق قلبه.. وعندما وصلا إلى المكان الذي هبط فيه عبقور.. كانت آلة الزمن قد اختفت.. تم سرقتها..!!!

تهاوى عبقور وأسقط بين يديه.. ظل “يتجعور” في الأرض، وهو ينتحب ويقول:

– “ما هي هذه البلااااااد.. ما فعلت يارب عسِب يقع بي كذيّه”

لم تتحمل القطة مشاهدة عبقور في تلك الحالة، فأمسكت بيده، وساعدته على الوقوف، وظلا يمشيان حتى وقفا أمام هيكل لسيارة “مازدا” قديمة، كانت القطة قد بخرته وزيّنته ببعض شرائط الكاسيت.. ذهل عبقور عندما رأى كل ذلك.. فقالت القطة، وهي تنظر إلى الأرض، وقد تورّدت وجنتاها:

– “قد كنت جهزت المكان عسِب نسمر أنا وانت قبل ما ترحْلك.. يعني…”

ارتبكت القطة، وعادت لتكمل كلامها:

– “قصدي أقل شي عسِب تفتهن يوم واحد في تيّه البلاد، وتذكرها بالخير لخُبرتك في المستقبل عسِب يدروا أن عاد به هانا كائنات حالية، ويجوا ينقذونا”

قالت القطة ذلك، ثم نظرت إليه بابتسامة تخفي الكثير من الأسى، وتابعت كلامها محاولة التخفيف عنه:

– “ما ذلحين والله مانا دارية ما اقلك.. صح الحياة هانا صعبة قوي.. قذا ابسرت كيفي.. بس صدقني انت عتتعود سعما انا.. وهوذا انا جمبك ماشفلتكش.. والله ما افلتك، وشاوبهلك ساع عيوني.. خلينا ذلحين ندخل نخزن ونفتهن.. وغطوة ان شاء الله عنبكر نقطعلك جواز.. هانا ما بنقطعش الجواز للسفر.. مشو للدنيا حتى.. بنقطعه للآخرة.. عسب يوم القيامة يثبت ان احنا يمنيين ويدخلونا الجنة ع طول.. أهم شي ذلحين لاتغثاش انا فدالك”

لم يتمالك عبقور نفسه.. وسقطت من عينه دمعة أزاحتها القطة فورًا بكفها التي لم تبارح خد عبقور.. نظر عبقور في عينيّ القطة.. وجد في عينيها شيئًا لن يجده في أي زمان ومكان.. طوقها بكلتا ذراعيه، وقبّلها قُبلة حانية.. تنهدا وحرّكا ذيليهما بسعادة، وصعدا إلى هيكل السيارة.. كانت القطة قد أعدت كل شيء.. القات، والمداعة، والحليب المبخر..

في تلك الليلة خدر عبقور نتيجة مضغه للقات.. وبدأ يحكي للقطة عن خطته في إنقاذ اليمن.. عرفت القطة أن تأثير القات قد بدأ.. لم تود أن تحبطه؛ لذلك أخذت تستمع إليه.. أخبرها أنه سيزور جميع الوزارات بدءًا بوزارة الصناعة، وسيعرض عليهم تلك الاختراعات، ويعرض عليهم أفكارًا من المستقبل ستساهم في تنمية اليمن.

طوال الشهرين التاليين ظل عبقور يذرع في جميع الوزارات، لكن أفكاره قوبلت بالتجاهل.. وفي كل مرة كان المسؤولون في تلك الوزارات يسألونه عن العائد المادي، وحصتهم من كل ذلك.. وعندما لم يجد جوابًا كان يخرج إحدى الاختراعات ليريهم، فيعدونه أنهم سيتواصلون به، وفي كل مرة كان يغادر دون أن يسمحوا له بأخذ الاختراع بذريعة أنهم يودون دراسته.. وبعد شهرين تيقّن عبقور أنهم مجرد لصوص، وتساءل بحرقة لماذا لا يود أحد الخير لهذه البلاد.. أصابه ذلك بالجنون، وكان يؤلمه التعب الذي تعانيه القطة في سبيل توفير المصروف.. كانت تنظف البيوت، وتتقاسم اللقمة مع عبقور.. لذلك قرر أن يفعل ما بوسعه من أجلها.. من أجل سعادتها.. فقرر أن يصنع بسطة في حراج الصافية، ويبدأ بالعمل في بيع الاختراعات.. وبعد مدة قصيرة صارح القطة برغبته بالزواج منها، ففرحت كثيرًا، وأقاما زفافًا كبيرًا، واستقرا في الهيكل القديم لسيارة المازدا.

على غير عادته.. استيقظ عبقور مبكرًا في صباح اليوم التالي للزفاف.. كانت القطة ما تزال نائمة، فقرر مفاجأتها.. قبّلها وقصد السوق ليشتري كباب.. وعندما عاد حاملاً الكباب قطع الطريق غير منتبه فدهسته إحدى السيارات، وطار كيس الكباب حتى سقط بجانب السيارة المازدا.. كانت المازدا مركونة على الرصيف المحاذي للطريق العام.

لم يشعر عبقور بجسمه.. بالكاد رفع رأسه وهو ينظر ناحية المازدا.. أراد أن ينادي القطة.. أن يودّعها.. أن يشكرها على كل شيء.. أن يعتذر كونه سيتركها وحيدة.. وحين لم يستطع مناداتها بكى كثيرًا..  وأثناء بكائه لاحت له حياته التي عاشها في اليمن فرآها رأي العين.. وفي لحظة ارتعد وانتفض جسمه.. لقد تذكر شيئًا ما.. الجواز.. نسي الجواز فوق “طبلون” سيارة المازدا.. ارتاع  وشعر لأول مرة بخوف حقيقي.. حاول جاهدًا الحراك، ولم يستطع.. فقد كان جسمه ملتصقًا بالأرض.. حينها أتت سيارة أخرى دهسته، وجعلت جسمه كله جزءًا من الأسفلت.. خدّه الأيسر صار ملتصقًا بالأرض.. وبأنفاس ثقيلة، وعين نصف مغلقة صار يرقب السيارات التي تمر بجانبه، وتتفادى دهسه.. لم يعد خائفًا.. فقط كان منزعجًا من أشعة الشمس التي تجعل مشهده الأخير غير واضح.. أحس بشيء من الراحة؛ فقد عرف لتوّه أن الشيء الوحيد الأكثر منطقًا على الإطلاق في بلد كهذا هو الموت.. حينها لاحت له القطة بكامل بهائها.. قبّلها.. وتهاوى جفنه أخيرًا ليُسقط دمعة وحيدة كانت عالقة في مقلته.. وظلت السيارات تدهسه حتى تماهت جثته بالأسفلت.

استيقظت ايفا مرعوبة، وكأنها رأت كابوسًا ما، ولم تجد عبقور بجانبها..  كانت تدعى ايفا.. لم تكن يمنية.. فقد كانت ملكًا لأحد الموظفين الأجانب الذين يعملون في شركة توتال الفرنسية.. ذات يوم أحبت قطًّا يمنيًّا يدعى بجاش أغواها وهربت بصحبته.. وفي أحد الأيام تركها بجاش عندما كانت نائمة..  تركها دون أن يودّعها.. تذكرت ايفا كل ذلك، وهي تتحس مكان عبقور الفارغ.. كانت المرة الأولى التي يستيقظ فيها عبقور قبلها.. وعندما رأت جوازه فوق “الطبلون” عرفت أنه وجد طريقة ما وعاد إلى المستقبل وتركها لوحدها.. فهذه هي المرة الأولى التي يغادر عبقور المازدا دون أن يأخذ جوازه.. لطالما نبهته ايفا بأنه قد يموت في أي لحظة، ويخسر الدنيا والآخرة..

تنهدت ايفا من أعماقها، وتيقنت أن جميع القطط في كل زمان ومكان عيال كلب.. تألمت كثيرًا، وشعرت بالاحتقار من ذاتها.. استلقت شريدة البال،  فلمحت كيس الكباب ملقى في الأرض.. ترجلت من المازدا والتهمته دفعة واحدة.. تثاءبت… وعادت لتكمل نومها.

“النهاية”

   
 
إعلان

تعليقات