Accessibility links

صالح الحامد القاضي والمؤرخ والشاعر  1320-1387ه/1903- 1963م


إعلان

وضاح عبدالباري طاهر* 

صالح بن علي الحامد شاعر مبدع، ومؤرخ واسع الاطلاع على التاريخ الإسلامي بشكل عام، وتاريخ الجزيرة العربية، وحضرموت بشكل خاص، وهو قبل كل ذلك فقيه وقاضٍ شرعي، له آراء واجتهادات تنُم على معرفة عميقة، وعلم غزير. 

ولد شاعرنا في سيئون – حضرموت، اليمن في العام 1903م، وأخذ العلم على يد العلامة محمد بن هادي السقاف، والعلامة مفتي حضرموت عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف، وتزامل في الأخذ مع الشاعر والأديب الكبير علي أحمد باكثير، ومحمد بن شيخ المساوى، وعيدروس بن سالم السقاف (السوم)، ومصطفى بن سالم السقاف.

هاجر منذ صغره إلى إندونيسيا وسنغافورة، وظل يتردد عليهما في الأعوام 1346ه، و1350ه، و1354ه، للإشراف على أعمال والده وعقاراته، فقد كان المهاجرون الحضارم في تلك الفترة في قمة نشاطهم وازدهارهم، فقد أقاموا النوادي الأدبية، وأسسوا المدارس العربية، وأصدروا الصحف والمجلات، وظهر فيهم زعماء دينيون، وعلماء، وأدباء، وشعراء على درجة عالية من الثقافة والموسوعية.

وقد أثمرت رحلته إلى إندونيسيا كتابًا أسماه “رحلة جاوا الجميلة”، سجل فيها بأسلوبه الفياض جميع مشاهداته، وأسهب في تصوير مناظر تلك البلاد، وطبيعتها الآسرة، ووصف رقة نسائها، كما بين حالة المهاجرين الحضارم، وذكر لقاءاته بأصدقاء له، وشخصيات عربية بارزة، ثم زار بعد ذلك مصر عام 1953 بدعوة من صديقه الأديب علي أحمد باكثير، والتقى بأدبائها وشعرائها.

وعندما طبع الأستاذ الحامد ديوانه الأول “نسمات الربيع”، قام الشاعر الكبير أحمد رامي بتقديم الديوان بأبيات له، رغم عدم سابق معرفة بين الشاعرين الكبيرين، فشعر الحامد بالامتنان لمصر وأبنائها، وانعكس ذلك في قوله: ” لا غرو؛ فليست أول منّة مصرية تُطوق بها الأعناق”.

لم يمنع الحامد، وهو الفقيه والقاضي الشرعي، أن يتغنى بالمرأة، والافتنان في وصف محاسنها شأنه شأن العلامة أبي بكر بن شهاب، وهو ينعى على المتزمتين الذين يرون في مثل هذا الصنيع منافاة للوقار، فيقول: “قد ينفر البعض من التغني بالجمال الإنساني، والشدو به، ويعد ذلك منافيًا للمروءة والوقار، وذلك خطأ، وتصنّع يأباه الحق… وإذا كان أصدق الشعر ما نشأ عن فيض الشعور وأخلصه؛ إذ هو ناتج عن أقوى الانفعالات العاطفية، وأشدها أثرًا، بل ربما يصح لنا أن نجعل ما لدى الشاعر من عاطفة الحب مقياسًا لما له من حدة الشعور، وإرهاف الوجدان، فلا لوم ولا عبث على الشاعر، وهو الفنان المرهف الشعور، الصادق الوجدان، إذا استهام بالجمال الإنساني، وافتتن به في ألطف مظهر له؛ وهو المرأة، فهام بسحرها، وانقاد لفتنتها، مفقود الحس، مذهوب الفؤاد، ولا عجب إذا نظم في تقديسها وتمجيدها أروع الشعر وأبقاه للخلود”.

للحامد العديد من الدراسات والكتابات، والمشاركات الشعرية في العديد من المجلات المصرية: كـ “الرسالة”، و”المعرفة”، و”أبولو”، و”الآداب”، وكذا في الصحف والمجلات العربية بسنغافورة وإندونيسيا كـ “النهضة الحضرمية”، و”العرب”، وغيرها، وكذا الصحف التي تصدر في سيئون مثل “زهرة الشباب”، و”التهذيب”، و”القلم”.

كما أن للأستاذ العلامة صالح الحامد إلمامًا كبيرًا بالحديث ورجاله وأسانيده، وأثناء إقراء صحيح البخاري الذي كان يعقد في شهر رجب من كل عام في حضرموت، حيث يروى أنه ربما بلغ استماعه لصحيح البخاري قرابة أربعين مرة، كان في أثناء القراءة يحاور شيخه في درجة قوة بعض الأحاديث؛ لمعرفته بالرواة، وتاريخهم، وما قيل فيهم من جرح وتعديل، وقد أثمرت هذه التعليقات والمحاورات عن كتاب في مجلدين سماه “تعليقات على فتح الباري في شرح صحيح البخاري”.

كان الأستاذ الأديب صالح الحامد في أول حياته ميسور الحال، فقد كان والده يمتلك عقارات في إندونيسيا وسنغافورة تدر عليه وعلى أسرته دخلاً طيبًا، حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، فانقطعت واردات العقارات التي كانت تساق إليه، وبسبب توسع أسرة الأستاذ الحامد اضطر للعمل كمستشار شرعي للدولة، وقاضٍ استئنافي، حتى توفي – رحمه الله – فجأة عن سبعين عامًا. 

للعلامة الحامد من الأولاد الذكور خمسة، هم: علي، ومحمد، وأبو بكر، وحسين، وغالب، ومن البنات ست، هن: خديجة، ونور، وعلوية، ومزنة، ومنى، وفاطمة، وهي أكبر أنجاله من مواليد سنغافورة، وما تزال فيها.

صدرت له ثلاثة دواوين، هي:

  1. نسمات الربيع 1936م.
  2. ليالي المصيف 1950.
  3. على شاطئ الحياة 1984م.
  4. رحلتي إلى أندنوسيا (جاوة الجميلة).
  5. تاريخ حضرموت، طبع بدار الأدب – بيروت، عام 1968م، وأعيد طباعته في 2002م، وقد وصل فيه إلى القرن التاسع الهجري.
  6. على شعاع القرآن – رد به على كتاب توحيد الأديان. 
  7. بحوث في الفقه المقارن، ومنها بحثه حول الفقه الإسلامي والفقه الروماني. هنا أود الإشارة إلى أنه قد تبنّى بعض المستشرقين ومن تبعهم تأثُّر الفقه الإسلامي بالقانون الروماني، وقد فنّد الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (نقد العقل العربي) هذه الأطروحة، ونتمنى أن نقرأ ما كتبه أستاذنا الكبير الحامد بشأن هذه القضية.

أثنى الأستاذ المؤرخ محمد الشاطري- رحمه الله – في كتابه “أدوار التاريخ الحضرمي” على شعر الحامد، ووصفه بأنه مشهور بالجودة في المعنى، والبلاغة، والسلاسة في الأسلوب.

والجدير بالذكر أنه كان للحامد ملحن في جزر الشرق الأقصى، وهو شيخ البار الذي لحن له أغنية “قف معي نشهد جمالاً”، والتي غناها الفنان محمد جمعة خان، وكذلك أغنية “المناجاة” التي غُنيت في المجمع الحضرمي بإندونيسيا، وأغنية:

” أقبلت في الحرير غصنًا رطيبا * تخجل البدر والغزال الربيبا”

التي لحنها يسلم دحي، وسجلها الفنان محمد بن شامخ، وأغنية:

“ارحمونا يا هل الشنف والمداره سقونا* من طشكم والمطر

واطرحونا في حيْد عالي وبا شوف خلي* والقلب على الزين محنون

وقد غناها محمد سعد عبدالله.

وأغنية:

يا نسيم الصبا والأنس حيا قبالك* وانت يا قلب شف بحر المحبه صفا لك

مجلس الأنس عندي طاب شربه* والعنق والبلابل فوق لغصان سجعت بالتلاحين

التي غناها أبو بكر سالم بلفقيه.  

مختارات من شعر الحامد:

سمراء كم لك هام قلبي راجيًا* لو عاش كالعصفور بين يديكِ

جذلاً يلذ الأسر عندك راغبًا* عن عيشه بين الربى والأيكِ

ولئن نئيت فكم بعثت على النوى* روحي على ظهر الخيال إليكِ

ترعاك من مقل النجوم وتارة * تهوي إذا يهوي الصباح عليكِ

وبعثت شوقي في النسيم لعله * عني ينال الضم من عطفيكِ

أودعته قبلي إليك فهل أتى * ليزف قبلاتي إلى شفتيكِ

لم أدر تقديس المجوس لنارهم * حتى رأيت النار في خديكِ

فاحني على قلبٍ تعذب في الهوى * وأتاك مرتميًا على قدميكِ

أيا ثمل الجفون بغير سكرٍ* ألا تدري بطرفك ما جناهُ

بقلبٍ لا يلين صفاه لكن * لهذا السحر ما قويت قواهُ

وهل تغني الوقاية منه لما * تدفق في دمائي كهرباهُ

أغانٍ في إزارك أم ملاك؟ * لفتنةِ خلقهِ الباري براهُ 

نزلت من السماء سنًا وسحرًا * لكي تغزو ابنَ آدم في ثراهُ

هنا لهواك في الأحشاء قرحٌ * مضى عنه الطبيب وما شفاهُ

محالٌ برؤه إلا إذا ما * تلاصقت الجوانح والشفاهُ

وله القصيدة التي ألقاها في النادي العربي بسنغافورة في حفلته التكريمية بمناسبة صدور ديوانه نسمات الربيع:

دائي لأنت فهل لديك دوائي * أين المفر وأنت في سودائي

يا منية شام الفؤاد بروقها * ما بين يأس دونها ورجاءِ 

أحيت موات الشعر في خلدي وما * برحت تشب الحب ملء دمائي

طال الجفاء فهل تراك وشيكة    أن ترحمي سهري وطول عنائي

وفيها يخاطب المحتفين به:

أثقلتمو عنقي بكل ثناءِ ** ورفعتموني فوق كل سماءِ

فلكدت أذهب في الغرور * لنشوةٍ هزت كياني هزة الصهباءِ

مهلا رويدًا إنني أنا عارف * نفسي بما يخفى على الخلطاءِ

لا تثقلوا بوفائكم وثنائكم *  عنقًا ينوء بهذه الأعباءِ 

أغرقتموني في عواطفكم فما   * يجدي على شخصي جميل وفائي

ومتى درت نفسي حقيقتها سمت * عن خادعات النقد والإطراءِ 

لم يزهني مدح المحب ولم يكن  * قدح العدو يغض من خيلائي 

فلقد عرفت حقيقتي ودخائلي  *  أيكون فضلي فوق ما أنا رائي؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في رثاء خفيف الظل حسين بن أحمد الحامد رحمه الله:

ماذا أصابك يا حسينْ* أين الفكاهةُ منك أينْ؟

قد كنت تضحك كل ســـــــ*نٍ؛ فصرت تُبكي كل عينْ

ذهبت رفاقك عنك من * آمالهم صفر اليدينْ

ثوت الهموم بهم فمن * يجلو الهموم إذا ثوينْ

أعلمت أني كم ليا*لٍ بت أرعى الفرقدينْ

أبكي لفقدك أي آما*لٍ وأحلامٍ هوينْ

يا ويح منزلك الحزيــ*ن فما المصاب لديه هينْ

كسفت مراسمه وكا* ن يشع من لطفٍ وزينْ

كالزهر دارك قد ذوت* يا من رأى دورًا ذوينْ

يا ليت شعري هل ترى الأ *يام مثلك أو رأينْ؟

من لطف روحك قد سقيت* ظمأى النفوس وما ارتوينْ

يكفي المسامع سمعها * لك نكتة أو نكتتينْ

تغدو بها الأرواح نشــ * وى من فكاهةِ ما وعينْ

تلقى الحوادث باسمًا * مهما مررن وإن حلينْ

ولقد تغالب جرحك الـــ * دامي فتبسم بسمتينْ

فكأنما بث المسر* ة في الرفاق عليك دينْ

لك قيمة الفنان أو * لك مثل ذلك مرتينْ

لا تعرف الأتراح أفــــــ* ئدة بجانبك احتمينْ

وحييت طفلاً لا يبا * لي بالنضار وباللجينْ

صدر شبيه الفجر صا * فٍ لا يشوب سناه رينْ

لم يعرف الحسد الذميــ * م ولا به الأدوا دوينْ

وعبادة والله يشـــ *هد والنجوم إذا سرينْ

في يقظة الأسحار * تعمرها ندي المقتلينْ

ما إن تعاب بأي عيــ *بٍ أو تشان بأي شينْ

فتعال متعنا برو * حك ساعة أو ساعتينْ

داء الثقال بنا فرو * ق من دوائك جرعتينْ

كم من حمار بين أظــــ *هرنا يسير على اثنتينْ

يُدعى الذكي سفاهةً* وهو الحمار بغير مينْ

أدعوك زورًا لا تبن* هل بعد هذا البين بينْ

غالبت ذكرك يائسًا* واليأس إحدى الراحتينْ

نم في ضريحك بعد صحـــ * وٍ واسترح من بعد أينْ

أدريت ما ذمم الليا* لي إذ رعيت وما رعينْ

أخلصت للباري فنم* والق النعيم قرير عينْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وله مهنئًا بالسلام ابتهاجًا بانتهاء الحرب العالمية الثانية، وألقاها في ميدان شيخان بضواحي سيئون:

هللي للسلام يا أمم الأر*ض أفيقي من سكرة الهيجاءِ

واطرحي ما عليك من عدد الحر* ب وما حملتك من أعباءِ

قد تقضى عهد الخراب فهيا * لبناءٍ هذا أوان البناءِ

أنشئي عالمًا جديدًا من السل* م بديع الجمال جم الرواءِ

واستعيدي للناس عهدًا سعيدًا * ناعم العيش وراف الأفياءِ

ويبث الإخاء والدين والأخــ * لاق في الأقربين والبعداءِ

ينصب العدل بينهم ويقيم الح* ق بين الضعيف والأقوياءِ

رافعًا مشعل الهدى مرشدًا من * ضل منهم عن الطريق السواءِ

واغسلي بالرفاه والعطف والتع * مير ما قد لوثته بالدماءِ

وأمري كف السلام لتمحو * إثم كفٍ من الوغى رعناءِ

رحم الله أستاذنا وعالمنا وشاعرنا ومؤرخنا صالح الحامد، فقد كان نبراس نور، شع بالعلم والأدب والشعر والحب لكل ما هو جميل في هذه الحياة.

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات