Accessibility links

إعلان

أحمد الأغبري

مما لا شك فيه أن معاناة المُنتج الإبداعي في حقل الأدب في مجتمعاتنا العربية هي أكثر مما هي عليه في مجالات أخرى. وسائل الإعلام ودور النشر التقليدية كانت وما زالت تمارس دور الوسيط في شُهرة الكاتب؛ فعلامَ تعتمد هذه الوسائل في صناعة هذه الشهرة؟ من الطبيعي أن تمتلك هذه الوسائل خبرات تكون من خلالها قادرة في الحُكم على جودة المُنتج (الأدبي) قبل منحه جواز عبور وصولاً إلى منصة الاحتفاء.. وهنا لا ننكر ما تعانيه بعض هذه المنصات في مجتمعاتنا من قصورٍ في الالتزام بقيم الجودة بفعل معاناتها مما يعانيه المجتمع من أمراض ترفع من قيمة السائد على المغاير، وترقى بالمجاملات إلى مستوى تتجاهل معه المسؤولية الأخلاقية، بالإضافة إلى ضعفها عن تجاوز سطوة السياسة وتأثير السلطة بمستوياتها وأشكالها المختلفة؛ ما يجعلها (أي وسائل الإعلام والنشر) تتجاوز بعض ضوابط ومعايير النشر الثقافي، فيفوز بالضوء مَن ليس جديرًا به ويُحرم منه مَن هو أهلاً له، وهو لا يعني أن كل مَن يفوز بالضوء هو غير جدير به، فثمة أسماء فرضت نفسها بقوة على مدى عقود من الإنتاج؛ لكن للأسف ظلت هذه الأسماء تُكرَّس على حساب تغييب غيرها أو إبقاء غيرها في الهامش.. (الأمر يمكن قراءته على مستوى كل بلد عربي).

لكن هذا ليس تبريرًا بقدر ما هو توضيحًا لإشكالية يتوجب على مؤسسات الإعلام والنشر لدينا تجاوزها والالتفات لمسؤولياتها تجاه القارئ الحُر وقيم الإبداع الجديد في عصر طوى صفحة الإعلام الموجه لخدمة السياسة والعلاقات العامة والتقاليد المتوارثة بشكل فاضح دون مراعاة لقيم العصر.

في مقابل هذا قد ينبري أحدهم ليقول: لا تمثل وسائل الإعلام والنشر سوى ناقل ليبقى الحكم النهائي على جودة المنتج الابداعي للقراء؛ وبالتالي (وفق هذا الرأي) فإن مَن يصنع الشُهرة ليست وسائل الإعلام أو السياسة أو السلطة وإنما القراء والمتلقون. مَن يطرح هذا الرأي ربما يقصد أن من حق وسائل الإعلام والنشر أن تنشر ما تريد؛ لأن القارئ هو المحك الحقيقي للشهرة.

مقابل هذا الرأي نسأل: هل تهتم معظم وسائل الإعلام في مجتمعاتنا بعد النشر باهتمام القارئ بما نشرته؟ وفي حال كان كذلك؛ لِمَ نجد هذه الوسائل تستمر في تكريس أسماء لا يقرؤها معظم الناس؟ من هكذا واقع فإن الشُهرة قد لا تكون سوى فسحة الضوء الممنوحة لهذا الاسم دون ذاك.

بمعنى آخر أن الشهرة قد لا تعني المكانة الإبداعية لهذا الاسم لدى القراء، وإن كان يُفترض أن تكون الأولى تبعًا للثانية، بينما تجربة الواقع، في معظمها، تقول عكس ذلك.

إلى ذلك، وقبل أن نقرأ في عوامل الخلل؛ لا بد من الإشارة إلى أن الشُهرة ليست سوى وسيلة لتعزيز الحضور وإيصال الرسائل مقابل ما تلقيه على كاهل الكاتب من مسؤولية يزداد معها إصراره على تقديم الجديد ضمن مشروعه.

ما زالت الشهرة في بلدان العالم الثالث مختلفة كثيرًا عمّا هي عليه في الغرب، فهناك ما زالت الشهرة فن أداته الإبداع، ويعمل في هذا المجال محترفون، ويشارك المُبدع وكيلاً يتعهد كتابه ويسوقه وتكون الشُهرة إحدى محصلات الحقوق المادية والمعنوية.. وهو الدور الغائب كثيرًا في مجتمعاتنا؛ ولهذا نجد (بين) مَن يفوزون بالضوء (هنا) مبدعين موهوبين في تقديم تجاربهم وصناعة شهرتهم؛ وهؤلاء هُمّ مَن يفوزون بمعظم الضوء كافتراض؛ أما مَن لا يُجيد ذلك واكتفى بالعمل على إبداعه دون الركون إلى العلاقات وأدوات التسويق وغير ذلك.. فيخسر كثيرًا للأسف، ويبقى بعيدًا عن الضوء على الرغم من استحقاقه له.

بالإضافة لمهارة المُبدع في نسج العلاقات والتسويق للتجربة؛ ثمة عامل آخر يتدخل في صناعة الشهرة في مجتمعاتنا بعيدًا عن قيمة الإبداع وفق أحدهم الذي يشير إلى الموقف السياسي والفكري والأخلاقي والإشكالي للكاتب والمؤسسة الإعلامية والثقافية والسياسية، “ومتى ما انصهر المُبدع بموقف المؤسسة فاز بالضوء الذي تمنحه، وكلما كان موقف المبدع أكثر إشكاليه وصدامية مع المجتمع كان عرضة للشهرة”.

بل لقد عاد، الناقد اليمني الراحل، عبدالله علوان، بقراءة هذه المشكلة لقرون غابرة باعتبارها مشكلة ممتدة عبر تاريخنا وليست وليدة عصرها.. ما يؤكد أن الشُهرة في مجتمعاتنا لا تتلازم، في الغالب، مع الجودة، وإنما مع الموقف السياسي أو الفكري الإشكالي أو الأخلاقي، وهو ما يفسر– أيضًا – أسباب غياب أسماء كثيرة عن قراءاتنا من المبدعين المُجيدين والمغمورين في الحواف. وهنا تلعب وسائل الإعلام والنشر دورًا خطيرًا بإسهامها في تلميع وإبراز المثقف الموالي لمواقف السلطة بما فيها السلطة الثقافية التقليدية.

مقابل التزام بعض وسائل الإعلام والنشر بالتعامل مع ما يتفق مع موقف السلطة؛ فثمة وسائل إعلام ونشر أخرى تهتم كثيرًا بالتعامل مع ما يتعارض مع موقف السلطة، ويلتزم موقفًا إشكاليًّا بصرف النظر عن قيمته وصحته، وكم يكون الناشر والكاتب سعيدين لو قامت السلطة بحظر توزيع الكتاب أو اعتقال الكاتب أو تهديده؟! فإنها بذلك تكون قد منحت الكاتب والناشر فرصة كبيرة للشُهرة. وللأسف فإن بعض الكُتاب يضطر، بسبب البيئة غير الصحية لصناعة الشُهرة، للجوء إلى إثارة ما هو إشكالي حتى لو كان على حساب الهُوية والذوق والمعنى الوطني أو الإنساني، وذلك من أجل الفوز بالشُهرة، يساعده على هذا عدم وجود حركة نقدية موازية وموضوعية، وفي ذات الوقت بالإضافة إلى وجود دور نشر تهتم بهذا النوع من الكتابة الإشكالية المفرغة من المهني الإنساني، وأشدد على ذلك؛ لأن الكتابة الإشكالية ليست محظورة، ولا يجب أن تكون كذلك؛ بل هي ضرورية في تناول ما هو مسكوت عنه ويعيق تقدم ونهضة المجتمع، لكن في سياق واقعي منطقي يرتقي بإنسانية المجتمع ويحترمه.

هذا الخلل هو جزء من خلل قيمي في ثقافة المجتمع، كما ينسحب على السلطة بكل أشكالها في علاقتها بالإبداع والمبدع في الأدب. وهي مشكلة، كما سبقت الإشارة، ممتدة عبر تاريخنا العربي، وتسببت ونتجت، في آن، عن تراجع قيم العدل والإنصاف والحرية في الوعي الجمعي؛ ونتيجة لذلك تختل العلاقة بمعظم الأشياء من حولنا، في ظل سطوة السلطة التي تحافظ على السائد وترفض المعاير الذي يهدد استقرارها؛ فتأتي مواقف الآخرين في معظمها امتدادًا لموقف السلطة.. وهو ما ينطبق، في العصر الراهن، على علاقة الإعلام والنشر بجوهر مهامهما كقيمة ومسؤولية في منح الاستحقاق، كما ذهب إلى ذلك بعض المفكرين.

إن بقاء مجتمعات العالم الثالث خارج اقتصاد إنتاج واستثمار المعرفة حتى الآن؛ يعني إبقاء المُنتج المعرفي عمومًا خارج حسابات فوائدها وأولويات سياساتها، وبالتالي استمرار خسائرها غير المنظورة، وهو ما ينعكس في تأخر تطور جميع مؤسساتها، كمؤسسات الإعلام والنشر.

ماذا عن منصات التواصل الاجتماعي؟

سؤال في غاية الأهمية؛ لما بات لهذه المنصات من دور فاعل ومؤثر، بل أصبحت تمتلك سطوة في تحقيق الحضور يفوق ما تمتلكه وسائل الإعلام والنشر التقليدية.

لكن هذه المنصات، أيضًا، لا تمنح الشهرة لمن هو جيد في منتجه الإبداعي في الغالب، إذ لها مقتضيات في منح الشهرة؛ لأن ثمة خوارزمية معينة تستجيب لاهتمامات الجمهور في الحيز الجغرافي الذي يستخدم تلك المنصات. وفي المجتمعات العربية ما زال الجمهور بسيط الثقافة ومحدود المعرفة؛ وبالتالي فتفاعله مع النص الأدبي أو المقال لا يستند، في الغالب، لاعتبارات فنية ونقدية اكتسبها من تراكم القراءات؛ ما يجعل من الشعبوية هي المتحكمة في المرسل والمتلقي في الغالب للأسف، وبالتالي هي ما يحدد مساحة رواج المنشور.. بل لقد جعلت هذه المنصات من السهولة بمكان لاسم ما تحقيق شهرة ما من خلال تواصل النشر والظهور عبر أساليب تدهش المتلقي الذي هو في الغالب غير مدرك لفحوى ما يتفاعل معه، فهو لا ينجذب لأي منشور فيه عمق بسيط يستدعي إجهاد العقل والتفكير.. بل يتجه صوب المنشورات السطحية، وفي الغالب تلك المنشورات التي تناوش عواطفه وغرائزه أحيانًا، وتضحكه أيضًا، وحبذا لو كانت مرفقة بصور أو فيديو.. بدليل أنك قد تجد صفحة لكاتب كبير، لكن منشوراته لا تحظى بمتابعة سوى بضع مئات أو آلاف من المتابعين، بينما صفحة مدون مغمور لكنه يشتغل على المفارقات اليومية بلغة دارجة وجريئة في التعرض للمواقف اليومية بسطحية وبساطة ظريفة، وأحيانًا بعصبية حزبية أو طائفية أو جهوية، وأحيانًا بدون هذا كله، إذ تبقى منشوراته تدوينًا لحالة مزاجه ويوميات حياته.. تجد المتفاعلين مع منشورات هؤلاء والمتابعين لصفحاتهم بعشرات ومئات الآلاف.

مقاطع (ريلز)

لقد كشفت نوعية ناشري ومتابعي مقاطع الفيديو القصيرة (ريلز) في منصة فيسبوك عربيًّا.. حقيقة الضحالة المعرفية لمعظم مستخدمي هذه المنصة في هذه البلدان؛ فما ينتجه العرب من هذه المقاطع مخجل.. فبين مئات المقاطع السخيفة تجد مقطعا توعويًّا وتثقيفيًّا، وفي المقابل تجد غالبية المقاطع تناوش الغرائز وتشتغل على الترفيه الخاوي من المعني.. وستذهلك مؤشرات المشاهدات لتلك المقاطع ومتابعة صفحاتها.. فالأرقام بمئات الآلاف أو الملايين للأسف!

لا توجد مقاييس منطقية لصناعة الشهرة في منصات التواصل الاجتماعي. ولا يمكن تجاوز خوارزمية هذه المنصات التي تساعد في رواج المنشورات التي ترى هذه المنصة أنها تتناسب مع اهتمامات معظم المستخدمين؛ وبالتالي لا يهمها إن كان المنشور تافهًا أو غيره. كل منصة تدرس معلومات المستخدمين وكلمات بحثهم وتحدد اهتماماتهم وتبرمج خوارزميتها على تلك الاهتمامات، وبناء عليها تتسع أو تضيق دائرة المنشور كما سبقت الإشارة.

لقد أثّرت هذه المنصات بشكل كبير على وسائل الإعلام والنشر التقليدية وقللت من أهميتها، وأصبح بإمكان أيّ كاتب أن ينشر نصه أو يبعث به لأي من المواقع الصحفية الإلكترونية، ويجد طريقه للنشر.. ولا ننسى هنا الإشارة إلى العلاقات العصبية بمستوياتها المتعددة.

 وهو أمر لا يقلل من قيمة ما ينشره البعض وما يمارسه آخرون من خلال هذه المنصات في إعادة نشر كتاباتهم وإتاحتها لأكبر عدد من القراء من خلال هذه المنصات.. لكن مساحة هؤلاء محدودة مقارنة بمساحة أولئك.

كما لا نقلل من دور هذه المنصات في إيجاد مستوى مختلف من الكتابة الأدبية.. بل لقد صار هناك قراءات لما ينشر في هذه المنصات من نصوص من قِبل نقاد يعيدون تقييمه وتشريحه بشكل منصف ومدرك لخصوصية منصات التواصل الاجتماعي.

نخلص إلى أن صناعة شهرة الكاتب في المجتمعات العربية يشوبها اختلالات كثيرة؛ وبالتالي لا يمكن التعويل كثيرًا عليها، لا سيما في المرحلة الراهنة التي أصبحت منصات التواصل الاجتماعي وسيلة متاحة للنشر لأي كان، وفي أي مجال.. بل إن سطوة التفاعل (اللايك) المحكوم بخوارزمية مختلفة تجعل المدون أكثر حرصًا على إثبات حضوره اليومي وتكريس التفاهة كقربان على باب الشهرة.. وهذا واقع طبيعي في مجتمعات لم تتحرر من قيود التخلف والعصبية التي بدورها تسند التفاهة كسلعة رائجة.

   
 
إعلان

تعليقات