Accessibility links

شارات المسلسلات اليمنية.. تاريخ مهمل وتطور يسابق الزمن


إعلان

ذكريات البرام*

هل تخللت إلى أذنيك يومًا موسيقى لمسلسل كنت تسمعها في الماضي فتأثرت بها، وشعرت مع موسيقاها بالحنين، وتركتْ في نفسك عظيم الأثر، رغم أنك في أحيان لم تشاهد ذلك المسلسل لصغر سنك ربما، أو حتى لا تتذكر أحداثه؟ هل جالت في نفسك خواطر عجز لسانك عن إبرازها؛ فأسعفتك الألحان وبلغ بك التأثر منتهاه؟

إنها الذاكرة الموسيقية التي يبدأ الإنسان في تحصيلها منذ زمن (الهدهدات) قبل النوم، ودندنات الأمهات في المطابخ، والآباء على مشارف البيوت، إلى موسيقى أعراسنا ورقص جداتنا. الألحان التي تلتصق بين خلايا أدمغتنا وتعيش في زواياها كجزء لا يتجزأ من رحلتنا في هذه الحياة. بل إن هناك دراسة نشرتها المكتبة الأميركية للعلاج في 2005 تشير إلى أن الذاكرة الموسيقية المألوفة هي الناجي الوحيد من صراع مرض الزهايمر. 

وموسيقى المسلسلات أو الشارات أو المعروفة بفن التتر، من الفنون المميزة والصعبة، والتي تعمل في عدة اتجاهات في الوقت نفسه: كلحن منفصل مستقل بحد ذاته، ولحن يمثل عملاً دراميًا يعبر عن طبيعته وبيئته، لا يكاد يتخطى فيه اتساع جماله، وبريق أنغامه، وتعدد أدواته. بل إن شارات المسلسلات تعد فنًا قائمًا بحد ذاته يتنافس فيه النجوم وصناع العمل لجذب المشاهد والتأثير عليه.

بدايةً، ظهر هذا الفن من بداية ظهور التلفزيون الملون أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، وظهرت فيه الموسيقى التصويريةُ المرافقة للأعمال الدرامية كرفيق مساعد يعكس نوع المادة المقدمة إن كانت تراجيدية أو كوميدية، وترافقت مع البرامج ونشرات الأخبار والفواصل الإعلانية. 

لاحقًا ، سطع نجم شاعر الفقراء سيد حجاب، مؤسس الأغاني الدرامية في فترة الثمانينيات، وولد ألحانًا لم يأت بها من قبله، وكان لها النصيب الأكبر، والحظ الأوفر من الأثر الطيب في قلوب الناس والعامة، وأنتج أروعَ الشارات الغنائية حتى يومنا هذا، أمثال مسلسلات: ليالي الحلمية، الشهد والدموع، بوابة الحلواني، والأيقونة الدرامية الغنائية المال والبنون، وغيرها من الأعمال الشهيرة والخالدة. وبطبيعة الحال فقد تأثرت اليمن بالنهضة الفنية حالها حال بقية دول المنطقة. وإن كانت عدن قد سبقت صنعاء والمناطق الشمالية بمراحل بسبب ظهور التلفزيون في عدن منذ بداياته في الستينيات. إلا أن فترتي السبعينيات والثمانينيات كانت فترة التألق الحقيقي للفن بشكل عام في مصر واليمن والوطن العربي، وفن التتر كجزء منْ منظومة الفنون الواسعة في مساحتها، وخصوبة تربتها. 

ظهرت تترات المسلسلات اليمنية في بداية الثمانينيات، وقدْ أظهرت بعدا ثقافيًا يحسب لصالح صناع الأعمال الدرامية في تلك الفترة المتواضعة من تاريخنا الفني، مثل مسلسل (وريقة الحناء) 1981، حيث كانت شارة العمل أقرب إلى الأعمال المصرية نتيجة لتعاون التلفزيون المصري في إنتاج العمل. ولكن جاء مسلسل (الفجر) في 1983، بشارة فنية يمنية خالصة تعبر عن الثورة والأرض والحرث بزامل يمني أداء الفرقة الوطنية للموسيقا لوزارة الاعلام والثقافة، وختام المسلسل بصوت مغرد يمني شجي يعكس طبيعة المكان والزمان لتصوير العمل. إضافة لمسلسل (المهر) في 1989 الذي لم أجد له أي معلومات كافية للأسف. 

وفيما كانت التسعينيات العصر الذهبي للدراما عربيًا وخصوصا في مصر، وأنتجت أفضل الأعمال على الإطلاق، وساهم كل صناع الفن والثقافة حينذاك في خلق صحوة فنية كبيرة، كانت اليمن تعيش في فترة انقسام مربكة للفن. ونشأت الفجوة التي حفرتها السياسة، وتغلغل الفن في اليمن مثل طائر محلق غاب بين غمار السحب. ففي بداية التسعينيات، تعددت الأعمال الدرامية وتنوعت كتنوع قضايا اليمن المولود حديثًا بعد الثورة المجيدة. كمسلسل (حكايات سعدية) 1994، والذي تناول قضية المرأة في الميراث، والثأر في مسلسل (الثأر)، إلا أنهما لم يحظيان بشارات مميزة أو لافتة على الرغم من الجهد الواضح للعملين كتابيًا. فيما حصد تتر المسلسل الكوميدي (حكايات دحباش) بداية التسعينيات على شعبية واسعة دلت على نجاح المسلسل وأغنيته رغم الانتقادات التي طالت العمل، والتصقت كلمات الأغنية في ذاكرة اليمنيين كأول عمل كوميدي يعرض الحياة اليومية ومشاكل المجتمع في زمن العولمة الجديد في تلك الفترة.

ومعَ الأسف ، ومن بعد 1995، جاءت فترة الانهيار الفني السريع، والذي لم يستقم بعد على قدميه ليقف مواز لما يحدث في المنطقة العربية، فجاءت حقبة فنية باهتة تجارية لا روح فيها ولا ابتكار. غابت الدراما الاحترافية، وأنتشر وباء السطحية والابتذال الفكاهي الذي رفضه المشاهد اليمني الواعي وعانى منه.

 معَ أنها لاقت استحسانًا شعبيًا على مستوى الشارع البسيط مثل مسلسلات (كيني ميني)، (همي همك)، (شر البلية)، (يا فصيح لمن تصيح)، وغيرها. صحيح أنها عبرت عن معاناة المواطنين الاقتصادية والصراعات الاجتماعية بشكل مبسط، لكنها لم ترق إلى مصاف أعمال الصحوة المنتشرة عربيًا في مصر وسوريا والعراق. ويعود هذا لعدة أسباب منها: قصور الدولة في تأهيل الممثلين، وخلق معاهد أو مؤسسات فنية أسوة ببقية الدول. والسبب الثاني حصار الفن دينيًا وقبليًا نتيجة التحريضات الدينية من قبل الأحزاب الحاكمة وصراعاتها بينها البين. 

وقف الفن مواربًا على الأبواب لم يغادر اليمن ولم يدخلها دخول الفاتح المنتصر. فما أمر مذاق التردد، وما أثقل مؤونته! توجهت الأقلام لكتابة سيناريوهات تعبر عن انتقاد المواطن للحكومة، وتلاعبت الحكومة ومعارضوها في اتجاه الفنون وغيرت مسارها. فغابت الدراما الحقيقية، والأعمال الروائية والقصصية. وكل ذلكَ ليس لضعف القدرات، وانعدام المواهب، بل كانت مقتضيات الظروف، وفترة الشتات التي حالت بين تحويل الأفكار الإبداعية إلى أعمال تلفزيونية أو سينمائية في حينها. والنتيجة اتجاه صناع الدراما للارتزاق عن طريق أعمال فنية بسيطة الفكرة والمحتوى. ولكن وعلى صعيد معاكس سطع نجم الإذاعة وزانت سماؤها. وعاش الإنتاج السمعي في أبهى عصره وزمانه، وحقبة فنية ثرية ولافتة سواء دراميًا وفنيًا أو برامجيًا.

نتيجة هذه الرحلة الشاقة في الحياة الفنية اليمنية، والتي قاوم فيها الفن محاولاً التماسك في وجه كل التحديات، وتحمل فيها الممثلون الجانب الأكبر في النقد والهجوم الذي وجهه اليمنيون لأعمالهم رغم قلة حيلتهم وإمكانياتهم في رفعِ مستوى الفن بشكل عام نتيجة القيود التي فرضها المجتمع القبلي والديني، حتى جاءت السنوات الأخيرة مبشرة بالخير، وبظهور القنوات الفضائية والشركات الخاصة وتطور تقنيات الصورة والصوت وبرامج التعديلات المتاحة واكتساح عالم السوشل ميديا للعالم, فتحت الأبواب المغلقة للمبدعين في اليمن في إظهار مواهبهم وقدراتهم ومكامن قوتهم.

وعاد فن التترات إلى الصدارة، ولاقى الاهتمام المطلوب من مروجي الأعمال الفنية يقينًا منهم بأهميتها كجزء لا يتجزأُ من التسويق والإعلان للعمل. ومثلما ارتفعت الذائقة الفنية العامة لدى الجمهور اليمني نتيجة الانفتاح العام في العالم ككل، تطورت الشارات اليمنية، ودخلت السباق الفني اللائق باليمن وثروتها الفنية العريقة. وتسابق نجوم الفن في التنافسِ في عملية الإثراء الفني الكبير سينمائيًا أو دراميًا، منهم حسين محب في (دار ما دار) الكوميدي و(سد الغريب) الدرامي، وعمار العزكيِ في (غربة البن)، والتتر المميز لمسلسل (ليالي الجحملية) أداء الفنان صلاح الأخفش، والبالة اليمنية الشهيرة في شارة مسلسل(قرية الوعل)، والأداء العالي لهاني الشيباني في (ماء الدهب). ولم يكن (دكان جميلة) محظوظًا في سباق هذا التميز. أما دخول الموسيقار اليمني محمد القحوم حلبة المنافسة وتقديم أجمل وأفضل تتر يمني لمسلسل (العالية) ومسلسل (ماء الدهب) فكانت إضافة فنية فارقة في تاريخ الأعمال اليمنية على الإطلاق.

كل ذلك ينبئ بمستقبل خصب ومثمر على صعيد الفن والدراما. وأكاد أجزم بأننا في بداية نهضة فنية كاسحة في كل مجالات الفنون. وعلى رأسها فن التترات وصناعة موسيقى درامية عالية المستوى، رفيعة الذوق، عالية المقام، تليق بدخول كل بيت عربي ويمني. ألحان ستروي تاريخ حقبة صحوة فنية واسعة وشاملة ساهم فيها نجوم الفن اليمني ومثقفوه وجمهوره في تشكيل وجدان أجيال متتابعة، كما فعل سيد حجاب ونجوم النهضة الفنية في مصر الكرام.

القادم أجمل، وللحلم اليمني بقية!

* كاتبة يمنية

   
 
إعلان

تعليقات