Accessibility links

إعلان

الأسطورة مارادونا.. خلطة من السحر.. الفوضى.. والجنون..!!

 

عبدالله الصعفاني*

أيُّ نوعٍ نادرٍ في كرة القدم أنت يا مارادونا؟.. أيّ إثارة أحاطت بكَ حيًّا وميتا؟، وأيّ مسيرة جعلتكَ تتحولُ إلى خلطة من الإمتاع.. الإبداع.. الجنون.. الفوضى.. والحزن؟!.

هذا فيضٌ من أسئلة حول مسيرة أُجزمُ في الاعتقاد أنها تُمثِّلُ تعريفًا جديدًا للإبداع والإمتاع، والجنون.

كنتَ يا مارادونا، وستبقى مُثيرًا للجدل والنِّقاش، خاصة بعد أنْ طاردتكَ النجومية، وطاردتكَ معها سمعة الإدمان السيئة.. وكأنكَ تختزلُ الإثارة المجنونة للعبة كروية تعبثُ بكوكب الأرض، وتجعله لا يقفُ على قرءن ثور، وإنما على قدمِ لاعبٍ هو في الحقيقة أسطورة عجيبة.

حتى وأنت مسجَّى مغادِرًا الحياة لم يجدْ أحدُ منظمي جنازتك إلا انتزاع غطاء وجهك ليشارِكَ العالم (سيلفي مع ميِّت)، متحمِّلاً قرار إقالته بتهمة استفزاز الرأي العام في الأرجنتين، مُخالفًا قرار أنْ تكون آخر نظرة لمارادونا فقط وهو في القصر الرئاسي كبطلٍ قومي للأرجنتين، وأسطورة مثيرة للجدل حيًّا وميتًا على مستوى العالم.


وداعٌ لافت

حالة نادرة أنْ يخرجَ مودِّعون للاعبِ كرة على هذا النحو، وأنْ يتم إضاءة ملاعب الأرجنتين مجتمعةً في الساعة الـ10، مذكِّرين بأخطر مَن حمَل هذا الرقم وأكسبه الهيبة، فيما مليون أرجنتيني تحدَّوا فيروس كورونا، محاوِلين إعادة ساعة الزمن في شوارع وأرصفة الحزن، ولكن… لِمَ الدهشة والأرجنتين تبكي فتاها المدلَّل حتى وقد بلغ الستين، وصارَع 128 كجم من وزنٍ جاثمٍ على جسد لاعب  كان في الحقيقة أسطورة في المهارات الكروية، مُبْهِرًا في التسجيل بنشاطٍ بدني لم يتأثر بقُصْر قامة، لكنه المكِّير الداهية الذي سيكون تسمية مسابقة الدوري الحالي باسمه؛ لإضافة خصوصية صراعية تكريمية بين المتنافسين..

 

وفقط لأنه مارادونا..؟!

لعلّ بعضكم يتذكرُ مونديال 1986، وكيف اجتمعت في رأس مارادونا وقدميه ثُلاثية النجومية والمكْر والنزعة القومية لبلده، وهو يخدعُ الحارس والحَكَم والمدرجات والمشاهدين بهدفٍ في مرمى انجلترا بلمسة يدٍ ورأسٍ لم يجِدْ لها من تفسير سوى الإشارة – أيضًا – إلى يد القدر، وبعد 4 دقائق فقط سجَّل ما وُصِفَ حينها بهدف القرن الـ20، مُلتقِطًا كرة من منتصف ملعب فريقه، منطلِقًا بهجمة ساحرة تجاوزَ فيها عددًا من اللاعبين، وخادَعَ حارس المرمى شيلتون، ويهزُّ شِباك انجلترا لترتعشَ فرحًا جُزر فوكلاند كمحلٍّ لخلافٍ وحربٍ بين الأرجنتين وبريطانيا، حينها لم يجد مُعلِّق “بي بي سي” إلا القول: (إنّه هدف هائل لا شكّ في صحته.. هدفٌ نتاج عبقري كرة قدمٍ خاص..)، وهنا كان مارادونا ينتصرُ لنزعته القومية وهو يوشم ساعده بصورة جيفارا، ويعتزُّ كثيرًا بعلاقته بقامات تحررية عالمية، كما هو الحال بصديقه الرئيس الكوبي فيدل كاستروا، ورئيس فينزويلا هيوغو شافيز، وكليهما سبقاه إلى الموت.



النهاية المحتومة لكلِّ حيّ

كان مارادونا كثير التردُّد على كوبا وصديقه كاسترو، وهو ما قد يعكسُ الروح التحررية عنده.

عن مهارات مارادونا الأسطورية يقولُ المدافع الإيطالي الرهيب الجزار باولو مانديني: (لقد اعتبرتُ نفسي مُدافعًا مقبولًا للغاية، لكن يجبُ الاعتراف بأنني كنتُ أرتكبُ بعض الأخطاء الفظيعة ضد مارادونا؛ لأنه كان يسبقني دائمًا، وبالتالي أكون متأخرًا..!).

حتى دولة الفاتيكان التي تذكرتْ مارادونا وَصَفتْه في وسائل إعلامها بلسان بابا الفاتيكان بأنه شاعر كرة القدم.

وبالمناسبة بقِيَتْ مواقف مارادونا إنسانية بشرية متضاربة، حيث يزورُ الحكَم علي بن ناصر في منزله بتونس، ويعتذرُ له عمّا سبَّبه له من حرجٍ بالهدف المخادِع في مرمى المنتخب الإنجليزي، ويدافعُ بصلابة عن القضية الفلسطينية، ويعتبرُ مهادنة احتلال فلسطين جريمة، لكن الإعلام الإسرائيلي نشَرَ له صورة مصافحة مع إسحاق رابين.. وأودُّ بأثرٍ رجعي لو أنّ مارادونا نقلَ قناعاته ضد احتلال فلسطين قبل وبعد التقاط تلك الصورة، ويهنِّئ مارادونا مواطنه (ليو ميتسي) بهدف على نيجيريا، ثم يسارعُ إلى الرقص مع مشجِّعٍ نيجيري.

 

مارادونا والإدمان 

لم يكن مارادونا مُلهمًا ومبدِعًا كرويًّا عاش حياة حافلة بالنجومية الأسطورية فقط، وإنما كانت له سقطاته الكبيرة التي تصلحُ لِأنْ تكون عِبرة لكلّ من يُسلِّم رقبته لمافيا المخدرات وأقطاب الإدمان، وحياة الفوضى التي أوصلته إلى تجريف سمعته، وإلى جلطات وضعتْ نهايةً مأساوية لحياته.

غير أنّ مدمِن المخدِّرات وسيِّئ السُّمعة الذي تطارده الفضائح لم يبخلْ بنصائح تُجنِّبُ الناس كلّ سلوك ينالُ من السُّمعة، ويضرِبُ الصحة في مقتل.

وكانت نشأتْ علاقة بين مارادونا وبين عصابة مافيا، ربما خدمت رغبات مكاتب المراهنات القذرة، حتى أنّ اختبار تعاطي المنشطات عقِب خسارة بلاده من ألمانيا في مونديال إيطاليا عام 1990 أفضتْ إلى إيقافه عن اللعب 15 شهرًا، ولا يُمكِنُ إغفال صدور حكم على مارادونا بالحبس عامين و10 أشهر مع وقف التنفيذ بسبب إطلاقه النار على صحفيين ببندقيته الهوائية؛ لِأنه لا يهوى صحافة الإحراج وملاحقة الفضائح.

 

رحلة الأسطورة

كان مارادونا خامس أشقاء ثمانية.. لمعت نجوميته مبكرًا، فكان أصغر لاعب في منتخب الأرجنتين لعب أمام المجر، ولا يزال في الـ16 من عمره، ولم يشارك منتخب بلاده مونديال 1978، لكنه قادَ شباب بلاده للفوز بكأس العالم للشباب في اليابان، وقاد الأرجنتين للفوز بكأس العالم في المكسيك عام 1986، وسجَّلَ في هذه البطولة 5 أهدافٍ مصيرية ومؤثرة.

ومِن بعدها صارت الأرجنتين مرشَّحًا دائمًا للمنافسة على كأس المونديال، لكنه لم ينجح في موقع المدرِّب ليؤكد القول بأنَّ النجومية في التدريب قد تكون مقطوعة الصِّلة بالنجومية من موقع اللاعب.

 

حكاية مدهشة

كان نادي نابولي الإيطالي متواضعًا تمامًا، كما هو حال المدينة الفقيرة.. وحكاية مارادونا مع نابولي النادي والمدينة حكاية ظريفة، ومدهشة.

عَرَضَ رئيس نابولي فيرالينو على عمدة مدينة نابولي فكرة أنْ تتميَّزَ المدينة بشيء أمام مدن إيطاليا من خلال مشروع يُدِرّ على المدينة عوائد مادية، فردَّ عليه العمدة قائلاً: (مِنَيْن يا حسرة)، وباليمني (الميزانية لا تسمح)، فقال رئيس النادي قيامنا بجلب مارادونا سيزحم مدينة نابولي بالسيّاح.

وفعلاً تمّ جلبه إلى النادي، وقاد مارادونا نابولي، صاحب التاريخ المتواضع، إلى إحراز بطولتين في الدوري الإيطالي عامي (1987 و1990)، وامتلأت مدرجات النادي بالجمهور، وازدحمتْ الفنادق بممثلي وسائل الإعلام، حتى قِيلَ

لقد لحقَ العالم مارادونا إلى نابولي، وتعافتْ نابولي من الفقر بانتعاش السياحة، ولا غرابة.. وقد أصبحت كرة القدم جزءًا مهمًّا من الحياة الإنسانية في المجالات كافة.. من البزنس الطبيعي إلى الرشاوى والفضائح والمراهنات والمنشطات.. ومما قاله مشجِّعٌ أرجنتيني: (لم نكنْ نملكُ العَشاء، لكننا كُنّا ننامُ سعداء لرؤية مارادونا بقميص الأرجنتين).

 

وداعٌ مختلف

لم يكن وداعُ مارادونا لجمهوره في العالم وهو يموت بالجلطة، وإنما اختار أنْ يودِّعَ محبيه قبل 19 عامًا في كلمة مشبَعة بالبكاء والإيحاءات المثيرة، وهو يقول: (آمل ألّا ينتهي حبُّ كرة القدم الذي أشعرُ به أبدًا.. أشكركم بالنيابة عن بناتي.. بالنيابة عن أمي وأبي.. بالنيابة عن جميع لاعبي العالم.. كرة القدم هي أجمل رياضة في العالم، وأكثرها صحةً.. لا شكّ في ذلك.. إذا أخطأ شخص – يقصدُ نفسه – فليس على كرة القدم أنْ تدفعَ الثَّمن.. كرة القدم ليست ملطّخة بالعار.. والحبُّ الذي يُكنَّه الناس لي لا ينتهي أبدًا…).

 

وماذا يا مارادونا..؟

سأقولُ لك يا (دييغو ارماندو مارادونا): هل كان عليك أنْ تموتَ ليستعيد جمهورك ومُحِبُّوك في العالم ذكرياتهم معك.. نجوميةً وسقوطًا.. وبكلّ هذه الهزة العنيفة.. رغم كلّ سقطاتك تبقى الأسطورة التي أبدعتْ وأمتعتْ، حتى وهي تُكرِّرُ مع الذات عمليات أجزمُ بالقول إنها ليست عملية انتحار فحسب، وإنما عملية شروع مستمر بالقتل..!!

كاتب يمني*

   
 
إعلان

تعليقات