Accessibility links

إعلان

تتكرس الهيمنة الثقافية للولايات المتحدة الأميركية في العالم يومًا بعد يوم وساعة تلو أخرى، ومردّ ذلك إلى عوامل كثيرة تظافرت فيما بينها لتخلق هذا النجاح المدوي «الفخور!» للثقافة الأميركية.
من أسباب هذا النصر الثقافي الكبير والمتواصل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، سبب قد لا يخطر ببالنا مطلقًا، وهو أن الولايات المتحدة تُقدم أكبر قدر من منح «الإقامة الإبداعية» في الكوكب، وعددها ينوف حاليًّا على الخمسة آلاف منحة سنويًّا، تذهب تحديدًا للروائيين وكتّاب القصة والشعراء والمسرحيين والموسيقيين والفنانين التشكيليين والنحاتين وأرباب الفكر والباحثين، وكلّ من يرغب في تأليف كتاب ويحتاج إلى أن يخلو بنفسه في مكان هادئ.
وتقوم فكرة منح «الإقامة الإبداعية» على توفير ملاذ في الريف يأوي إليه المبدعون، بعيدًا عن ضجيج المدن وصخب الحياة فيها. وتتفاوت المنح في مُددها، فبعضها قد يمتد لأسابيع، وبعضها قد يمتد لأشهر. ومنها منح تشمل توفير مصروف للجيب، ومنح أخرى تكتفي بتوفير الوجبات الثلاث.
وبواسطة هذه المنح السخية للأدباء والفنانين، يتم المحافظة على زخم التفوق الثقافي لأميركا على باقي شعوب الدنيا.
وبعيدًا عن التأويلات السياسية وألفاظها المفخمة، يمكن القول: إن الشعب في الولايات المتحدة يتمتع بنهضة ثقافية مطّردة، ويحظى بازدهار أدبي وفني وفكري دائم كنهر لا يكف عن الجريان. وتأتي فكرة مَنح «الإقامة الإبداعية» كوسيلة فعّالة للحفاظ على شباب الثقافة الأميركية وتجديدها باستمرار.
بالنسبة لنا نحن العرب، وبحسب علمي، لم توجد مِنح إقامة إبداعية قط، وليس واردًا في الحسبان أن توجد في المستقبل المنظور. علمًا أن فكرة توفير ملاذ للعلماء بغرض الانكباب على التدريس والتأليف كانت أمرًا شائعًا في شتى الأمصار الإسلامية، وعلى وجه الخصوص في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية. وفي القرون السالفة كانت الجوامع الكبيرة تُخصّصُ حُجرات وأجنحة لإقامة طلاب العلم، وتغطي نفقات إعاشتهم من ريع الأوقاف.
نحتاج في وقتنا الراهن، إذا أردنا أن نكف عن النواح على موت الثقافة العربية، أن نحيي تقاليد الماضي العلمية، وأن تتوسع الفكرة، فتنشأ دور معزولة في الريف، ومنقطعة عن وسائل الاتصال، تُخصص لحملة الأقلام ممن لديهم مشاريع كتابية، سواءً أكانت علمية أم أدبية، وللفنانين وأنصاف المجانين الذين يحملون أفكارًا غريبة قد تكون بعد التمحيص وبذل الجهد مفيدة للمجتمع.. ويُفترض أن توجد هذه الملاذات الإبداعية بالدرجة الأولى عبر وقفيات ثقافية، وهبات من أصحاب رؤوس الأموال، وشريطة ألا يكون للقطاع الحكومي شأن بها، لكيلا تنحرف الفكرة أو تتحول إلى كارثة تستنزف المال العام.
في صيف 2012 حصلتُ على منحة إقامة إبداعية في أميركا، وأقمت في كوخ ريفي يقع في ضواحي مدينة آن آربور، ورغم قصر مدة المنحة – حوالى ستة أسابيع- فإنني قد خرجت بمحصلة مهمة في تطوير عملي ككاتب.. لقد أتيحت لي الفرصة لالتقاط الأنفاس وتأمّل أشياء لم يسبق لي أن فكرت فيها، وأن أعيد النظر في أمور أساسية، من مثل: كيف أكتب، ولماذا أنا أكتب بهذا الأسلوب، وأين الإضافة فيما أكتبه… وغيرها من التساؤلات التي تحفز الكاتب على تطوير أدواته وتطوير طريقة تفكيره ذاتها.
ما زلتُ أتذكر بامتنان تلك السناجب الفضولية التي تفوهت بانتقادات لاذعة عن أسلوبي الأدبي وهي ترمقني أكتب عند باب الكوخ.

*روائي يمني

   
 
إعلان

تعليقات