Accessibility links

إعلان

قصة عمر العبد الحامد
(إلى روح مصطفى الريمي.. إلى كل من لم يجد له مكانًا على هذا الوطن).

“إنه أسطورة، أتذكرين حين عاد ذلك اليوم مغبرًّا.. أتذكرين؟ هاه، إنه الوحيد الذي نجا من ذلك التفجير الإرهابي.. لقد أخبرني صديقي محمد أن والده رآه ينبعث من تحت الأنقاض كالمارد”.

ابتلع لعابه، ثم أشار بأصبعه إلى عينه: “أقسم أنني رأيته بعينيّ هاتين يحمل اسطوانتيّ غاز بيديه، ويجري بهما فور سماعه بوصول الغاز، ولقد رأيته – بعد أن قضى ساعة في الطابور – يرجع بكيس من الدقيق يحمله على ظهره وبيده قنينة زيت يهرول بهما من منزل (عاقل الحارة) إلى منزلنا.

صحيح أن ظهره بدا منحنيًا، وخطواته متقاربة، وأنفاسه متسارعة، لكن من يقدر على فعل ذلك، وهو يبتسم، سوى الأسطورة؟ هاه، من؟”

كان ذلك سعيد ابن الثامنة ذو الرجل الواحدة يتحدث عن أبيه بحماس شديد، يذرع الغرفة طولاً وعرضًا يتكئ على عكازه، يقلد حركات أبيه. بينما كانت أمه تلاحقه بعينيها وتستمع إليه بإنصات مع ابتسامة هادئة تزيّن وجهها.

سكت فجأةً كأنما تذكّر شيئًا مهمًّا.. نظر في منتصف عينيّ أمه، وسألها: “قال أبي إن رجلي ستنمو؛ فهل حقًّا ستنمو؟”.

انقبض قلب أمه، واغرورقت عيناها.. ترددت للحظة، لكنها حسمت أمرها سريعًا، وهزت رأسها، وقالت: “نعم.. ستنمو”.

كان هذا التأكيد لسعيد بمثابة جرعة أمل استوطنت قلبه، وتربعت على عرش أولوياته.. إنه يتحسس فخذه كل صباح، يبحث عن أي نتوءات أو زوائد.. يشعر بحكّة في قدمه المفقودة، كأن ريشة تداعبها.. يشعر بمكانها مملوءًا.. يخيّل إليه أن فخذه ستنشق عن ركبة سمراء مستديرة، تُطل على استحياء، ثم تنبثق منها ساق بيضاء.. يتخيلها وهي تنمو يومًا بعد يوم، ثم تظهر لها أصابع صغيرة كالبراعم، يبتسم لها، يداعبها ويعدها: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة.. يطقطقها، ويعبث بها، ولكن في الواقع لم يحدث أيّ من ذلك.. قال لنفسه: “ربما تحتاج إلى عناية أكبر”، قام بنقعها في الماء لساعات، عرضها لأشعة الشمس، دعكها بفضلات الأغنام، وربط عليها بقماش ليلةً كاملة.. تحرّى ذلك في المواسم كلها: مواسم الخضار والفواكه والبن، وحتى أفضل مواسم القات،؛ لكن لا جدوى.. يفكر “ربما المشكلة في الموطن، كبعض النباتات التي لا تنمو إلا في مواطنها.. نعم؛ فقد سمعت أبي ذات يوم يقول: إن هذا الوطن لم يعد يصلح لشيء”.. ولكن السؤال الذي ظل عالقًا في ثنايا عقله، أين تنمو الأرجل المبتورة؟!!

سؤال تلقّف إجابته حين سمع أباه يقول لأمه سنهاجر إلى (بلاد النماء).. تهلل وجهه واستنار لذلك، لكن أمه – التي تعارض فكرة الهجرة بشدة – لا تزال تُشكل عائقًا.. أخذ النقاش يحتدم، وتعالت أصواتهما.. لم يألف تلك النبرة الحادة من والده الذي انفجر صارخًا في وجهها:

“لم يعد لنا مكان في هذا الوطن”.

كانت هذه الكلمات كفيلة لحسم النقاش، ووضع سعيد على أولى خطواته إلى البلاد التي تنمو فيها الأرجل المبتورة.

صباحًا كان المشتري يذرع البيت جيئة وذهابًا، يزهد في موقعه، ويحتقر أساساته المتهالكة، ويهوّل من تصدّع جدرانه.. لم يتطلب الأمر أكثر من بضع دقائق ليتم البيع، فغادرت العائلة بحقيبة صغيرة وصورة الأسطورة التي لم تتسع لها الحقيبة؛ فاتسع لها قلب سعيد الذي احتضنها بين ذراعيه طوال الرحلة.

****

يمتطي سعيد كتفي والده.. الناس يسيرون تباعًا، جميعهم متشابهون في أهدافهم وإن تباينت بلدانهم ولهجاتهم.. إنها المنطقة المحرّمة بين (بيلاروس) و(بولندا).. كل شيء هنا يتواطأ ضدهم بحقارة، البرد يلسع كالنحل الذي يدافع عن خليته.. الضباب يتشعب في الأرجاء فيحجب الرؤية.. الغيوم تُشكّل جدارًا يحول دون وصول أشعة الشمس.. الأشجار ترمي أوراقها أمام الريح التي تركلها مباشرةً كأنما تتعمد أن تصيب بها الوجوه.. الأرض تمسك بأعقاب الأحذية، وحتى الهواء سميك داكن يخدش الأنف.. كل شيء هنا يدفعهم للعودة، ولكنهم يتجاهلون.

توقف الجميع قريبًا من الأسلاك الشائكة على الحدود البولندية، خيّم الليل وبرزت للبرد مخالب، حبات المطر كبيرة لدرجة أن ارتطامها بالرأس كان موجعًا.. فرض الصمت سطوته على المكان، ولكن ثمة أصواتًا تُعلن تمردها من حين لآخر، ما بين كحة رجل عجوز، أو بكاء طفل، أو أنين مريض، أو تذمّر رجل أخطأ في حساباته.

يلفت نظر سعيد شاب عراقي يتوكأ على عكاز، بُترت إحدى رجليه من الفخذ، أعلى الركبة بقليل.. إنه نفس المكان الذي بُترت منه رجل سعيد، ولو أنهما حرصا على بترهما عند جزار واحد لما أتقن البتر بهذا التطابق.

“أنت أيضًا لم تنمُ رجلك؟” قال سعيد وهو يمسك بأسفل بنطال الشاب ويهزه.. نظر الشاب إلى الأسفل حيث يجلس سعيد، يبدو أنه لم يفهم.. أعاد عليه سعيد كلامه.. ما تزال نفس النظرة ترتسم على وجه الشاب.. أراد سعيد أن يتشارك معه الأحلام، أن يسأله عن الأرض التي تنمو فيها الأرجل المبتورة، لكن صوت صراخ أبيه العالق بين يديّ جندي من حرس الحدود قطع الحديث.. كان الجندي يمسك بياقة قميصه ويجره على الأرض من قدمه كالجيفة، لم تفلح توسلاته وهو يلقيه أرضًا، وينهال عليه وزملائه ركلاً بالأقدام، وضربًا بأعقاب البنادق.

قال له أكثر الجنود شرًّا بعد أن بصق على وجهه “ليس لك مكان على هذا الوطن”، ثم مضوا وتركوه متكومًا على الأرض.

تدخّل بعض الرجال وسحبوه كخرقة مهترئة، إنه يرتجف بشدة.. لم يستدلوا على السبب الفعلي لهذه الرجفة، تنازعوا أمرهم، فقال أحدهم: “لعل الجنود أصابوا رأسه”، وقال آخر: “ربما تسلل البرد إلى جوفه”، بينما قال أكبرهم سنًّا: “لعلها بصقة”.. انخفضت حرارة جسمه سريعًا، حاولوا تدفئته، شحب وجهه، فقدَ السيطرة وبات تنفّسه أمرًا مرهقًا.. كانت عيناه ما تزالا ترمقان ذلك الجندي، حاول جاهدًا إبقاءهما مفتوحتين، لكنهما خذلتاه.. هرعت سيارة إسعاف إلى المكان.. وقف سعيد واجمًا أمام هذه المشاهد المتسارعة، التفت إلى أمه التي كانت تضع يديها على رأسها وتولول.

أمسك بيدها، وقال لها مطمْئنًا: “لا تخافي؛ فالأساطير لا تنتهي بهذه السهولة”.

***

إنها مدينة (فرانكفورت) الألمانية.. يسارع سعيد إلى تعليق صورة أبيه في غرفته، ألصقت أمه على ركنها الأعلى شريطًا أسود.. بدا له ذلك الشريط ابتكارًا جميلًا، ويضفي تميزًا ورونقًا للصورة.. سأل أمه عنه، ارتبكت وتلعثمت ثم هدأت وأخذت نفسًا عميقًا، وقالت: “نضعها على كل ما نفتقده، وأنا أفتقد أباك”.

مضت أيام قلائل، يصحو فيها سعيد مع انبلاج الفجر، يتفقد فخذه باحثًا عن أيّ نمو فيها، ثم يهرول سريعًا إلى غرفة أمه، يتفقد سريرها باحثًا عن أبيه، لكنه يعود بخيبة كبيرة.

خافت أمه عليه من تأثير الصدمة إن اكتشف الحقيقة بنفسه؛ فقررت تمهيدها له، واستعانت لذلك بالكثير من الكتب والمقالات واستشارت طبيبًا نفسيًّا، وفي اليوم الذي ذهبت فيه إلى غرفته عازمة على إخباره، وجدته نائمًا على الأرض، إلى جانبه شريط أسود لاصق، يحتضن صورة أبيه، لقد أضاف إليها شريطًا أسود جديدًا، ولف على فخذه شريطين، وعلى الحائط خارطة لليمن ألصق عليها الكثير.. والكثير من الأشرطة السوداء.

   
 
إعلان

تعليقات