Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
يشرح كتاب “حكمة التاو.. اصغِ لجسدك”(1) بالتفصيل أسرار الحصول على جسد قوي وسليم خالٍ من الأمراض، وكيفية الفوز بالعمر الطويل مع الاحتفاظ بصحة البدن وسلامة القدرات العقلية.. والوصفة التي يقدمها مؤلفا الكتاب (بيسونغ غاو- أندرو بويل) لحياة طويلة وسعيدة أسهل بكثير مما نتخيل، بل تكاد تكون لفرط بساطتها مضحكة، لكن المشكلة هنا ليست في الوصفة ذاتها، بل هي في هذا الكائن المتمرد على الطبيعة الذي باتت البساطة بالنسبة إليه من أصعب الأمور إطلاقًا! إنها لمفارقة أن يُمسي الإنسان المعاصر عاجزًا أن يعيش حياته ببساطة.. فنحن دون قصد جعلنا حياتنا معقدة، وفي كل عقدة سلسلة من التعقيدات لا نهائية، وكلها تبدو لنا في الظاهر غير مرئية، ولكن أجسادنا التي تنوء بتلك الأحمال الرهيبة تنهار وتلتوي مختلف أجهزة الجسم تحت الضغط فتصاب بالأمراض.

علينا الاعتراف أنه لم يعد بإمكان الفرد في هذا الزمان أن يتخلى عن التعقيد وينزع إلى البساطة.. ولا يعني هذا الكلام مطلقًا العودة إلى أن نحيا حياة الأولين، فهذا الأمر بات غير ممكن، كما أن الكتاب ليس معنيًّا بتلك الحياة الماضية، بل هو معني بحياتنا اليوم وفي لحظتنا الراهنة، ولنا نحن أبناء المدن الصاخبة التي لا تهدأ.

يقوم الطب الصيني في أساسه على فكرة أن الجسم البشري له حقل طاقة خاص به يسمى (التشي)، وهذا الحقل يشبه الحقول المغناطيسية التي تتمتع بها الكواكب والنجوم والمجرات، وعندما يكون الجسم ممتلئًا بطاقة (التشي) فإن مالك هذا الجسد يكون هادئًا في جميع الظروف، حتى الطارئة منها، ومن المستبعد أن يمرض، وهو يتخذ السلوك الملائم فلا ينجذب إلا إلى الناس المناسبين والأطعمة المناسبة والمحيط المناسب.

وفي حالة ضعف (التشي) يميل هذا الشخص للنشاط المفرط ملتزمًا بعمل تلو آخر، ويميل للكلام الكثير والتحدث بسرعة، كثير النسيان، يذهب للتسوق وينسى ما يريد شراءه، لا يستطيع الاستراحة مما يدور حوله بسبب فرط حساسيته للأحداث الخارجية أيًّا تكن تفاهتها، يندفع للقيام بأعمال كثيرة، ولكن دون القيام بها كما يجب، ومشكلة هذا الشخص أنه يشعر شعورًا كاذبًا بالنشاط والحيوية، وبالتالي يظل يستنزف طاقته دون أن يدري، وفي هذه الحالة يبدأ الجسد بإرسال رسائل تحذيرية، وما علينا سوى الإصغاء لهذه الرسائل ومحاولة فهمها وفهم ماذا يريد جسدنا أن يقول لنا.

وينصحنا الكِتَاب بتدوين هذه الرسائل على الورق والتعامل معها بجدية والتفكير فيها.. والخطر كل الخطر هو في تجاهل هذه الرسائل وغض النظر عنها، أو الذهاب إلى الصيدلية لأخذ مسكنات وقتية تعالج نتيجة المرض ولا تعالج المرض نفسه، فعلى سبيل المثال تُعد الإصابة بالزكام رسالة تحذير من الجسد لصاحبه.. لكننا في هذا العصر نميل إلى أخذ أدوية من الصيدلية تساعدنا على تحمل الزكام ومواصلة روتيننا اليومي دون تغيير يذكر، وهذا يعني أننا نعمل على العكس تمامًا من الرسالة التي أرسلها لنا جسمنا، والتي تعني إبطاء إيقاع حياتنا، وضرورة أخذ مسافة للاسترخاء بعيدًا عن صخب المدنية المهلكة للأعصاب والمستنزفة لطاقة التشي.

ومن التحذيرات الشائعة التي يطلقها الجسم (الصداع) إشارة إلى وجود ضرر قد بدأ يفعل فعله الخبيث في الجسم دون إدراك منا غالبًا، فيكون ردنا سريعًا وحاسمًا بتناول مسكن للصداع، ومن ثم نتابع أعمالنا المعتادة وكأن الأمر لم يكن! وهذا التجاهل ينم عن العمى الذي نعاني منه فيما يتعلق بالكيفية التي يعمل بها جسمنا، وأننا نصم آذاننا عن الاستماع إلى نداء الاستغاثة الذي يطلقه طلبًا للمساعدة الصحيحة.

الحالة الثالثة للجسم البشري هي حالة نفاد التشي الحادة، ويصفها الكِتاب على النحو التالي:

“يترك نفاد التشي الشديد الشخص مستنزفًا من الناحية البدنية والعقلية، وغير قادر على الهدوء أو التعافي، فهو متململ، مهتاج، وبحاجة ماسة للنوم، إلا أنه يعاني أرقًا شديدًا.. غالبًا ما تكون رسائل جسمه متناقضة، فعندما يحاول الجلوس ساكنًا، ترغب يداه وقدماه بالحركة.. وعند النهوض من الكرسي يرد الجسم بتحوله ثقيلاً ومتعبًا كما لو كان من المستحيل تحريكه، وقد تبدأ الآلام في أي جزء من الجسم، وتشعر اليدان والقدمان بالخدر.
هناك نمطان للاستجابة لهذه الأعراض التحذيرية، وذلك تبعًا لدرجة حساسية الشخص الطبيعية، فسرعان ما يصبح الحساسون – بحكم سرعة تفاعليتهم – مرهقين لأي سبب تافه، وبحكم عدم قدرتهم على الانفصال عن التنبيه الداخلي والخارجي المتواصل، يصبحون قلقين خائفين، وتكون تشي الناس الآخرين أقوى بكثير من طاقتهم هم، فيشعرون بالانغمار والضياع كمركب أُلقي في مياه هائجة. وتؤدي حتى الحوارات العرضية إلى إرهاق شديد، أما ذوو الطبيعة الأقل حساسية فيستجيبون بطريقة مختلفة نوعًا ما، إذ بدلاً من مواصلة التفاعل، ينقطعون عنه تمامًا، ونتيجة لذلك لا يتكلم هكذا ناس أو حتى يشتكوا كثيرًا.. ويكشف مزيد من التدقيق عن الفرق بين الحالتي، إذ سيحتاج الشخص لاستخدام ما تبقى من طاقته لأجل البقاء، وهو في حالة أبعد ما تكون عن الصحة، ونلاحظ أن لونه غير طبيعي، ووجنتيه شاحبتين أو قاتمتين بشكل غريب، وتخفق حتى الأخماج الشديدة برفع حرارته، إذ الجسم يعجز عن إبداء أي رد فعل الْتهابي، ويواجه الشخص خطر انخفاض درجة الحرارة وإصابته بالبرد الذي يبدأ من القدمين ليرتفع لاحقًا للأعلى. وهي حالة خطرة، إذ قد يصاب المعني فجأة بمرض مميت، وبدون أي إنذار تقريبًا”(2).

التقدم الهائل الذي أحرزه الطب الغربي منح الإنسان فرصة الإفلات من الموت إذا ما انحدر جسمه إلى الحالة الثالثة – النفاد الحاد للتشي – ولكن ما يقدمه الطب الغربي ليس إلا علاج مؤقت، وليس بإمكانه منع تكرار الانتكاسة المرضية مرة أخرى، وهو ما نلاحظه في حالات الجلطات القلبية والأورام السرطانية، وهناك أمراض لا يشفيها الطب الغربي، بل يعالج مضاعفاتها مثل داء السكري وارتفاع ضغط الدم، لكن بالنسبة للطب الصيني يعتبر مرور الإنسان بمرض خطير ينذر بالوفاة فرصة لا تقدر بثمن لكي يغير هذا الإنسان نمط حياته تغييرًا جذريًّا، وأن يسلك سلوكًا صحيًّا مراعيًا احتياجات جسده مراعاة تامة، وعندما يتم هذا التحول فإن هذا الإنسان لن ينجح فقط في النجاة من الموت، ولكنه سيحصل على ما هو أكثر من ذلك: سوف يشفى، وتصبح صحته أفضل مما كانت عليه في السابق، ويصير لديه جسد قوي! لا تتوفر هذه المميزات في الطب الغربي، وبالأخص بعد أن يقوم الشخص بعملية جراحية تجعل جسده أضعف مما كان عليه في السابق.

 

عشبة الخلود

قطعًا لا وجود لهذه العشبة في الطبيعة، ولكنها موجودة على مستوى مختلف في عقولنا.. إن الطب الصيني يركز على أشياء بسيطة للغاية، ويقدم وقاية مدهشة من الأمراض تمنع حدوثها بأساليب سهلة كما سبق أن أوضحنا سابقًا، وأهم مبدأ للمحافظة على صحة الجسم هو الاسترخاء، إبطاء إيقاع روتيننا اليومي، وتلبية حاجة أجسادنا للراحة:

“الاسترخاء يعني الإبطاء، وهو يعني – أولاً وقبل كل شيء – إبطاء العقل، إذ فقط عندما يكون العقل ساكنًا تبدأ تشي الجسم بالتدفق في توافق مع إيقاعات الطبيعة”(3).

ظاهريًّا يبدو لنا أن الاسترخاء أمر هين، وأننا نحن العرب على سبيل المثال أفضل من غيرنا في الحصول على أوقات طويلة للاسترخاء.. ولكن ثمة مساوئ في طريقة استرخائنا، وخلط بين عادتي الاسترخاء والكسل، وإذا دققنا في العبارة التي اقتطفناها من الكتاب سنلاحظ أننا أبعد ما نكون عن الاسترخاء، فالمقصود بالاسترخاء هنا هو استرخاء العقل، وتنظيفه من المزعجات الداخلية والخارجية وجعله ساكنًا هادئًا.. إن مشاهدة التلفزيون في البيت والاستماع إلى الراديو في السيارة وقراءة الصحف وتصفح الانترنت، كل هذه مؤثرات خارجية تنشط العقل، ولا تترك له فرصة للاسترخاء، حتى الحوارات مع الأصدقاء والعائلة تحتاج منا جهدًا عقليًّا معينًا، وبهذا عندما يعمل الواحد منا جردة لساعات يومه، سيجدها كلها تقريبًا مشحونة بالعمل والحوارات والتسلية دون دقيقة راحة واحدة للعقل، وعندما ننام يواصل عقلنا العمل، ويمطرنا بسيل من الأحلام لا تتوقف، وما يساهم في تفاقم المشكلة هو الوهم المعاصر السائد الذي يقول إن أفضل طريقة للاسترخاء هي الجلوس مساءً أمام التلفزيون لمشاهدة الأفلام والبرام،ج أو حتى مباريات كرة القدم والمصارعة! يشرح الكتاب أن هذا خطأ شائع عند الناس، وأن هكذا أسلوب في الحياة لا يساعدهم البتة في الحفاظ على صحة أجسادهم، والمسألة باختصار أنه لا بد من منح العقل فرصة للراحة، فلا نزعجه بالراديو والتلفزيون والصحف والدردشة، أي أن نقطع عنه كل المؤثرات الخارجية، ومن ناحيتنا علينا أيضًا ألّا نزعجه بانفعالاتنا، ونسمح لها بتعكير صفوه، وهذا يعني قطع المؤثرات الداخلية – المشاعر والانفعالات – من الطرق على جدران عقولنا.. كلنا نعاني من مشكلات كبيرة وصغيرة، ولكن لا بد أن تأتي ساعة في اليوم يُعلق فيها عقلنا لافتة مكتوبًا عليها : “الرجاء عدم الإزعاج”.


الطب الصيني في بلاد العرب

تخلو البلدان العربية من أيّ أكاديميات تُدرِّس الطب الصيني، وربما من النادر أن نجد عيادات مرخصة تزاول الطب الصيني الذي هو طيف واسع جدًّا من الوسائل العلاجية، ويعتبر الطب الغربي هو الطب الوحيد المعترف به رسميًّا، وأعتقد أنه قد حان الوقت لتتغيّر هذه النظرة الخاطئة كليًّا، فالطب الصيني له طرق علمية موثوقة في تشخيص الأمراض، وبدقة عالية جدًّا، كما أن قدرته على الشفاء من الأمراض بتقنية الوخز بالإبر أو الحرق بالأعشاب صارت مثبتة علميًّا، ومنجزاته العلاجية تضاهي الطب الغربي إن لم تكن تتفوق عليه (4)، وهذا يستدعي منّا الانفتاح على هذا التراث الطبي العظيم الذي طورته عقول حكماء الشرق طيلة عشرة آلاف سنة، وتناقلته جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا.

*روائي وكاتب يمني.

الهوامش: 

(1) حكمة التاو.. اصغ لجسدك: بيسونغ غاو- أندرو بويل، ترجمة سلام خير بك، دار الحوار، اللاذقية، 2012.

(2) المصدر السابق، ص 90- 91.

(3) المصدر السابق، ص 71.

(4) صدر عن الهيئة الأمريكية للغذاء بيان قالت فيه إن العديد من أشكال الطب الصيني القديم لها فاعلية تشخيصية وعلاجية حقيقية؛ بالرغم من عدم تمشيها مع معلوماتنا التشريحية والوظيفية لجسم الإنسان.

   
 
إعلان

تعليقات