Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

لم أجد تعريفًا مقنعًا للرواية الكوميدية، وكأن هذا النوع الروائي عصيّ على التعريف، كما هو أيضًا عصيّ على التأليف، فلا يُغامر بكتابة هذا النوع الروائي إلا من قرر الانتحار أدبيًّا!

(جوزيه ساراماجو) وهو أحد أفضل الروائيين في القرن العشرين لعله انتحر أدبيًّا عندما قرر في أواخر حياته أن ينجز رواية كوميدية! إذ تُعتبر رواية “مسيرة الفيل”(ترجمة أحمد عبد اللطيف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2010) رواية كوميدية، وهي آخر ما خطه قلم ذلك العبقري قبيل وفاته عام 2010 في بيته بـ”لانزاروت” في جزر الكناري.

يعرف خبراء الأدب أن الرواية الكوميدية نادرة جدًّا – في عصرنا هذا على الأقل – ولا أحد يُدرجها كنوع روائي له جمهوره، وهذا أمر غريب حقًّا، ولا نفهم سر هذا الجفاء بين القراء والرواية الكوميدية. بينما نجد على العكس من ذلك أنواعًا أخرى من الرواية لها شعبية جارفة، كالرواية البوليسية، والرواية الفانتازية، ورواية الواقعية السحرية.

إذن هي مغامرة عندما قرر الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو الحائز على جائزة نوبل للأدب (1998) أن يُجرّب حظه في حقل الرواية الكوميدية – النوع الروائي العسير والذي تجنبه كبار كتاب العالم – ولو ضحى في سبيل ذلك بسمعته الحسنة التي يحظى بها ككاتب جاد ملتزم، وكاسْمٍ مضمون لا يُنتج إلا الروائع الأدبية. 

تتحدث رواية “مسيرة الفيل” عن حادثة تاريخية، قد لا تلفت انتباه أحد، جرت أحداثها في القرن السادس عشر، وهي عن ورطة ملك البرتغال الدون جوان الثالث الذي ضاق ذرعًا بالفيل الوحيد في مملكته، فقرر إهداءه لولي عهد النمسا الأرشيدوق ماكسيميليانو الثاني. لم يكن ملك البرتغال ينظر بعين الرضا إلى الفيل (سالومون) المجلوب من الهند، لأنه كان يُكلف الخزانة العامة مبالغ باهظة لشراء العلف اللازم لتغذيته، ومن جانب آخر كان هذا الفيل عاطلًا عن العمل ولا يؤدي أية خدمات فعلية للبلاط ولدولة البرتغال. ولكن عندما تلقى هذا الملك جوابًا من أرشيدوق النمسا يُفيد بقبول الهدية، فإن مشاعر الندم سرعان ما تسيطر عليه، وأما زوجته الملكة دونيا كاتالينا فإنها لم تتمالك نفسها من البكاء على فراق الفيل! وبروح فكاهية عالية يمضي بنا ساراماجو مُتتبعًا مسيرة الفيل فرسخًا فرسخًا من لشبونة في البرتغال حتى بلد الوليد في إسبانيا، حيث جرى تسليمه للأرشيدوق، ومن ثم رحلته البحرية إلى مدينة جنوة الإيطالية، وعبوره جبال الألب وسط عواصف الثلوج، ثم رحلة نهرية قصيرة، تلتها مسيرة ذات أبعاد دعائية سياسية في مدن وبلدات الإمبراطورية النمساوية، وصولًا إلى العاصمة فيينا، حيث عاش عامين سعيدين، تمتع خلالهما بطيب العيش في ضيافة أسرة آل هابسبورج الملكية، ثم وافته المنية قرير العين، بعد أن رأى العالم، كما يُقال! 

نجح جوزيه ساراماجو في المزاوجة بين الهزل والكتابة بلغة أدبية رصينة، وتمكن من نحت وتوليد جمل سردية متلألئة بالجلال وفخامة التعبير.

الرواية كلها موسومة بطابع التهكم، التهكم المُبطن من ملك البرتغال الذي لم تكفِ موارد بلاده لإطعام فيل، والتهكم الأكثر ظرفًا من ولي عهد النمسا الذي أراد استخدام أول فيل يطأ أوروبا منذ هانيبال لجلب الأنظار إلى نفسه ولتكريس شعبيته. وكما نلاحظ، تحول موضوع إهداء فيل بين ملوك أوروبا في القرن السادس عشر إلى رواية كوميدية من الطراز الرفيع على يديّ ساراماجو.

يمكننا التخمين أيضًا أن قدرًا مهمًّا من الابتسام والضحك قد ضاع خلال الترجمة من اللغة الأصلية إلى اللغة العربية. وكما نعلم فإن نكتة في لغتنا قد تفقد ظرافتها إذا ما تُرجمت إلى لغة أخرى. وجانب آخر مهم لفهم روح الدعابة الساراماجوية، وهو أن الكوميديا لا تعتمد على قفشات موزعة هنا وهناك، أو على خفة دم بعض الشخصيات، وإنما تنشأ الكوميديا من الموقف برمته، الوضع البشري الغريب، الذي يُرشدنا إليه الروائي بنباهته لنتابعه، ومن ثم يُثير فينا الشعور بالسرور وخفة الروح.

ما يقوله ساراماجو أن فيلًا هنديًّا في أوروبا قد أثار اهتمامًا ولغطًا، وأدى لتحريك جيوش لخفارته هو حدث كوميدي ينتقل بالعدوى لكل من يتماس معه. وأما مصدر التهكم وسر فعاليته، فهو أن الحدث نفسه الذي يبدو من وجهة نظرنا مضحكًا، كان وقتها – أي في القرن السادس عشر – غير مضحك بالمرة، وغالبًا بدا لمعاصري ذلك الحدث أمرًا جادًّا كل الجدية.

أحد كوابيس كتابة الرواية عبر العصور هو الحوار بين الشخصيات، والحوار كما نعلم تقنية مسرحية، وليس هناك مهرب من استخدام اللوازم اللغوية المكرورة من مثل: قال، قلت، قالت، قالوا، إلخ تلك المفردات التي تتخلل الحوار، ليكون مفهومًا للقارئ. إلا أن جوزيه ساراماجو يتخلص من هذا العبء اللغوي كله بحركة بسيطة، ويكتب حوارًا سلسًا ممتعًا لشخصياته، وذلك بتمييز الحرف الأول من الجملة التي تنطقها الشخصية بحبر ثخين، ثم يأتي دور علامات الترقيم لتبيين أين ينتهي كلام الشخصية، وأين تبدأ الجملة الخاصة بالشخصية الأخرى. وهذا شكل جديد في كتابة الحوار، يُلغي الزوائد ويُقرّبنا خطوة من الصياغة الأكثر واقعية للحوار الذي يتبادله البشر في العالم الحقيقي. نورد هنا كمثال هذا الحوار الجذاب الذي يكاد يبلغ حد الكمال في تركيزه وكثافته، وهو حوار يدور بين الملكة دونيا كاتالينا وملك البرتغال دون جوان الثالث:

“منذ سنتين وصل هذا الحيوان من الهند، ومنذ ذلك الحين لم يفعل شيئًا سوى الأكل والنوم، حوضه دومًا ممتلئ بالماء والعلف بالأكوام، كما لو أننا نعول حيوانًا لا شغل له ولا شاغل، ولا أمل في الاستفادة منه. لا ذنب للحيوان المسكين في ذلك، فلا عمل يقوم به هنا، إلا إذا أرسلناه إلى مرافئ التاجو ليقوم بنقل ألواح الخشب، لكن المسكين سيتألم، لأن تخصصه المهني في نقل الجذوع التي تضبط على زلومته بانحنائها. فليذهب إذًا إلى فيينا”(ص9).

ملمح أخير أرى ضرورة التطرق إليه، يتعلق بمخالفة جوزيه ساراماجو لأهم قاعدة من قواعد التأليف الروائي، ألا وهي ظهور صوت المؤلف الواضح الصريح في متن الرواية. وكما نعلم فإن قيام المؤلف بكسر حاجز الإيهام وإظهار نفسه للقارئ يُعدّ بمثابة خطيئة لا تغتفر، وهي من العيوب الفنية التي نجح النقد والنقاد في اقتلاعها من تربة الروايات. وإقدام جوزيه ساراماجو على اقتراف هذا الخطأ أمر محُير وليس من السهل التغاضي عنه، إلا إذا افترضنا أن جوزيه ساراماجو مُتدرعًا بهالة المجد التي تجعله فوق النقد، قد أراد أن يُزري بالقواعد النقدية المتعارف عليها، وأن يسمح لنفسه بالكتابة وفقًا لذوقه الخاص. سنورد تاليًا واحدًا من هذه المقاطع، ليحكم القارئ بنفسه: “هناك شيء يصعب فهمه، وهو أن الأرشيدوق ماكسيميليانو قد قرر القيام برحلة العودة في هذه الفترة من العام، لكن التاريخ دونه هكذا كحدث موثق لا يمكن الجدال فيه، وصدق على ذلك المؤرخون، وأكده الروائي، الذي يجب أن تلتمس له العذر في بعض حرياته باسمِ ليس فقط الإبداع، بل أيضًا ملء الفراغات على وجه الخصوص حتى لا يصل إلى فقد التماسك المقدس للحكاية بشكل كلي.

في داخلنا، علينا أن نعترف أن الحكاية ليست نقية، ولا مميزة، فهي تأخذ من الحياة ما يهمها كمادة مقبولة اجتماعيًّا وتاريخيًّا، وتحتقر البقية، بالتحديد حيث يكمن – ربما – التفسير الحقيقي للأحداث والأشياء والواقع العاهر. سأقولها لكم حقيقة، حقيقة أقول لكم إنه أهم من أن نكون روائيين هو أن نكون خياليين، كذابين. (ص214-215).

“مسيرة الفيل” رواية فريدة من نوعها، نعثر فيها على المزاج الفني الذي كُتبت به أوائل الروايات في القرن السابع عشر، وبالأخص رواية “دون كيشوت” الشهيرة ذات الطابع الهزلي.

وبما أن الروايات المنتمية لتيار الحداثة تنعي غياب البطل – الفارس، تماشيًا مع تقاليد العصر، فإن جوزيه ساراماجو قد أراد على الأرجح في روايته الأخيرة استعادة زمن الفروسية والبطولات، حتى ولو كان هذا البطل مجرد فيل اسمه (سالومون) تمثلت كل بطولته في عبور أوروبا مشيًا على قدميه.

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات