Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

تبدو رواية “حي البيازين”( ) لعبدالوهاب سنين عملًا تاريخيًا صِرفًا، لكنها حققتْ ما هو أبعد من المحتوى التاريخي، وتجاوزته إلى تقديم منظور فلسفي.

استخدم سنين التاريخ كسوة خارجية لروايته، وأما اللب ففيه أفكار إنسانية عميقة المغزى، كالدعوة إلى التسامح الديني، والحض على التعايش السلمي بين بني البشر، والسمو على الاختلافات العرقية واللغوية والعقائدية.

“حي البيازين” لا تهدف إلى تسلية القارئ، فهي رواية ذات مضمون أخلاقي موجه للضمير.

أول علامة تشير إلى الرواية التاريخية الرفيعة المستوى هي نجاحها في فلسفة التاريخ، أيّ وضع المرحلة التاريخية التي تتحدث عنها الرواية تحت مجهر الفكر، وهذا ما نجحت فيه رواية “حي البيازين” بامتياز.

إن الرواية التاريخية التي تخلو من أطروحة فلسفية، تفقد أهم ركيزة لها للارتقاء إلى عتبة الفن، ولن تنجو من أن تُقيَّم كعمل متواضع القيمة.

ولكن هل يكفي أن تحمل الرواية رسالة نبيلة وأفكارًا فلسفية مستنيرة لتُحلق في سماوات الإبداع وتُحسب من أعمال الفن الخالدة؟ الجواب قطعًا لا، فهناك عناصر فنية كثيرة يتوجب على الروائي أن يُحسن تضفيرها، ليرتفع بعمله إلى السوية الفنية المتوخاة.

ولأننا نتحدث هنا عن رواية تُصنف بأنها رواية تاريخية، فإن أول عنصر فني ينبغي علينا الالتفات إليه هو اللغة، بمعنى أن اللغة التي تُكتب بها الرواية يجب أن تكون متناسبة مع الزمن الذي تدور خلاله أحداثها، وهذا العنصر الفني تفوق فيه عبدالوهاب سنين تفوقًا ملحوظًا، فقد جاءت اللغة التي كتبت بها رواية “حي البيازين” تراثية، ونادرًا ما جنحت إلى لغتنا المتداولة في عصرنا هذا.

وفي الرواية المئات من المفردات المرتبطة بالبيئة الأندلسية الصميمة، ما دل على الجهد العظيم الذي بذله الروائي في الاستقصاء والتنقيب بين المصادر التاريخية والأدبية ذات الصلة بالأندلس، حتى تشرَّب هذه اللغة التراثية المخصوصة التي طواها الزمن، فنفخ فيها الروح وأعادها للحياة من جديد، ومن هذه الألفاظ على سبيل المثال:

“الميل (المال)، البيب (الباب)، المطبق (السجن)، الكاغد (الورق)، البصاصين (المخبرين)، الأنفاط (قذائف النار)”.

وهكذا نفهم أن الرواية التاريخية هي من أصعب الأنواع الروائية، وتحتاج من كاتبها إلى سنوات من المطالعة والاستيعاب حتى يتقن اللغة الشائعة عند أولئك القدماء الذين يكتب عنهم، فلا يزل قلمه إلى مفردة حديثة استجدَّت من بعدهم، وهذا ما فعله الروائي عبدالوهاب سنين باقتدار وتمكن.

وأما إذا تساهل الروائي مع نفسه وكتب رواية تاريخية بلغة عصرية، فإنها لن تكون رواية تاريخية إلا بالاسم فقط.

الوصف من العناصر الفنية المهمة التي أحرز فيها الروائي سنين نجاحًا لافتًا يحسب له، فمن يقرأ رواية “حي البيازين” يشعر أن جغرافيا الأندلس حاضرة بمدنها وشوارعها وأحيائها ومساجدها وقصورها وكنائسها، ويكاد يتجول بين وديانها وجبالها، ويرى أنهارها وبساتينها وأشجارها وأنعامها، ويشم هواءها العليل ويحس بطقسها ومناخها.

الوصف هنا ليس ديكورًا خارجيًا، بل هو روح الرواية إذا صح التعبير، وبدونه ستكون الرواية ميتة.

ولكن كيف حقق عبدالوهاب سنين هذا الاختراق الفني الناجح، النادر جدًا على مستوى الرواية اليمنية؟ يعود سبب النجاح المبهر إلى التعلق الروحي للروائي ببلاد الأندلس، وتشبُّعه بكل ما يتصل بها من تاريخ وجغرافيا وآداب وفنون وعلوم، مما كتبه العرب أو المستشرقون، وهو شغف أخذ من عمره ثلاثة عقود، فأتت الرواية كنبيذ معتق، تُسكر القارئ بلوحاتها الفنية الساحرة:

“عاد إلى الحمراء عند دخول الربيع، وما زال الثلج يكسو جبل شُلَير الذي تراه من الأسفل يحتضن قرى البشُرَّات، تلك الربى الآسرة المكسوة بأشجار اللوز والزيتون الباسقة”ص9.

وضمن عنصر الوصف نعثر على هذا التوصيف لحي البيازين الشهير في غرناطة:

“اتجها إلى السوق عبر أزقة حي البيازين الضيقة، ولقي ابن يسار ترحيبًا كبيرًا، وكعادته كان يعطي الكثير من المحتاجين ما يعينهم على شؤون الحياة، دخل ابن يسار إلى داره البيضاء، إذ دور الحي بأكملها مصبوغة جدرانها بالبياض، أما أسطح المنازل يعلوها القرميد وتتدلى الورود خارج أسوارها”ص29.

كما نجد ولعًا للروائي بالعمارة الأندلسية، التي ما تزال إلى اليوم تخلب ألباب السياح الذين يحجون إليها من شتى أصقاع العالم، ونورد أدناه وصفًا لقصر الحمراء:

“فرأى الأروقة بعقودها المحمولة على مائة وأربع وعشرين عمودًا من الرخام الأبيض في بهو السباع، تعلوها أربع قباب مضلعة، ظل البلنسي يدور حول بركة الأسود الاثني عشر المصنوعة من الرخام في البهو يرى الماء يخرج من فمها”ص27.

وهذا وصف آخر لحمام بخاري في قصر الحمراء:

“كانت قاعة الحمام من المرمر، أما أعمدته فقد كانت من الرخام الأبيض اللامع، تعلو سقفه فتحاتٌ ثُمانية الشكل بعضها للتهوية، وأخرى فيها الزجاج الملون، إذ كان الضوء ينفذ إلى الداخل من خلال تلك الفتحات عاكسًا تلك الألوان الرائقة”ص52.

ونلحظ في الرواية وفرة في عدد الشخصيات، ما يدل على خصوبة الخيال، ورغم كثرتها، فإن الروائي قد تمكن من الإمساك بمساراتها، فلا نجد شخصية تظهر في ثنايا المتن إلا وقد تابعها مُغلقًا مسارها.

وأضف إلى ذلك إجادته رسم الشخصيات رسمًا موفقًا، حتى تلك الشخصيات التي لا تشغل إلا حيزًا يسيرًا من مساحة الرواية، كوصفه لشخصية كبير قساوسة مدينة طليطلة الكاردينال دي ثنيسيروس خيمينس الذي تولى حملة تنصير عرب الأندلس:

“فجأة خرج منها قس خمسيني يحمل عصا حديدية يعلوها صليب من البرونز، وقد زاد تعجبه عندما رأى ذلك القس هزيلًا كأنه يقتات على النبات لا غير، وكان يرتدي قميصًا من الوبر يخفي به جسمه النحيل، حدق العربي في ملامحه: أنف معقوف كالسيف ووجه شاحب يوحي بالصلابة والعنفوان”ص7.

ونذكر من الشخصيات التي تبقى راسخة في الذاكرة، الأصدقاء الثلاثة: حبيب البلنسي المسلم، وأنخل سيميونيت النصراني، وصموئيل بن يهوذا اليهودي، الذين تُشكلُ صداقتهم رغم اختلاف أديانهم حجر الزاوية في الرواية، والحل الإنساني الذي يقترحه الروائي لحروب الاسترداد في شبه الجزيرة الإيبيرية، ولكل الحروب اللاحقة وصولًا إلى زمننا الحاضر.

ومن المهارات التي تستحق الثناء، وصف شخصية المكان، كما فعل مع حي البيازين الذي استمد منه الروائي عنوان روايته، فهذا ابن يسار كبير تجار غرناطة يُخاطب (حبيب) العامل عنده وزوج ابنته لاحقًا مُتحدثًا عن حي البيازين:

“هذا الحي يا بني فيه كانت ولادتي، وأناس هذا الحي أهل ثورة وعزة وإباء”ص28.

تمتاز رواية “حي البيازين” بدرجة عالية من التشويق، وهذا شرط لا مناص من توفره في الرواية الجيدة، فمنذ الصفحة الأولى يُستدرج القارئ إلى لغز بوليسي: في مدينة طليطلة الواقعة تحت سيطرة الإسبان، أقدم قائد عربي لا نعرف هويته بعد على قتل تابعه، ثم رمى جثته في نهر تاجه.. ما يضعنا مباشرة في أجواء الرواية الحافلة بالألغاز البوليسية والحبكات المعقدة، وأيضًا جو الدسائس والمؤامرات والخونة والجواسيس، وينقلنا إلى الأرض التي يجري على ثراها صراع سياسي مستعر داخل البيت النصري الحاكم لغرناطة، بين الزغل وابن أخيه محمد الصغير، والصراع العسكري الأخطر بين الإسبان والعرب.

تموج الرواية بالجرائم الغامضة، مثل اغتصاب وقتل نزهون بنت المحتسب أبو القاسم الرندي، والاختفاء الغامض ليعقوب ابن الشيخ الرملي إمام الجامع الكبير بغرناطة، وجرائم اغتصاب وتعذيب أخرى، وعندما تنكشف هوية المجرم، ونعرف أنه الأمير حسام بن جشعون، فإن التشويق لا يهبط، بل يرتفع إلى ذروة درامية أعلى، ويشعر القارئ بهذا التوتر ينبض بين السطور مع كل محاولة اغتيال فاشلة ينجو منها بطل الشر في الرواية، ولا يمكن لنا التقاط أنفاسنا إلا عندما يُغمد حبيب البلنسي سيفه في أحشاء الأمير حسام ويخلص الناس من شره.

حين ننظر إلى بناء الرواية، المكونة من ثلاثمئة صفحة، يمكننا تقسيمها إلى قسمين متمايزين، القسم الأول (الدرامي) الذي تم تشييده بعدة حبكات بوليسية متقنة النسج، ويبدأ من الصفحة الأولى إلى الصفحة 180، أيّ إلى الذروة السردية التي تُوجت بمقتل الأمير حسام، المجرم الذي ظل القارئ يلهث وراء كشف هويته أولًا، ثم أخذ يُسابق قلم الروائي متلهفًا متى وكيف سينال الجزاء الذي يستحقه على جرائمه الشنيعة.

بعد أن يلقى الأمير حسام مصرعه، يخف التوتر والتشويق في الرواية، وينخفض منسوب الصراع الدرامي، ولكن الروائي يُعوضُ عن إقفال حبكته الرئيسية بخطة سردية مختلفة، تُفلسفُ الأحداث الدرامية العارمة التي صورها في القسم الأول من الرواية.

يشغل القسم الثاني من الرواية، وهو القسم التأملي، حوالي الثلث الأخير، وفيه لا نجد إتمامًا لمصائر الشخصيات فقط، ولكن إقفالًا حزينًا لثمانمائة عام من الحكم العربي في الأندلس.

وهذه الهندسة في بناء الرواية حالفها كل التوفيق، إذ لم يكن ممكنًا ولا حتى من الناحية الوجدانية، أن يمر الروائي مرور الكرام على حدث جلل هز الأمة الإسلامية بأسرها هو سقوط الأندلس، دون أن يوفيه حقه من التصوير الفني البديع.

نقرأ في هذا الجزء الحزين من الرواية -ثلثها الأخير- سقوط غرناطة بيد الإسبان (1942م) والأساليب العنيفة لتنصير المسلمين بالقوة، ومحاولات أبطال الرواية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكتب العربية قبل إحراقها، وترتيبات الرافضين التنصير للرحيل عن وطنهم إلى مدن الشمال الأفريقي، فهناك من نجح في الفرار بدينه وتهريب هذا القدر أو ذاك من الكتب العربية، وهناك من وقع في قبضة محاكم التفتيش وأُعدم.

“حي البيازين” رواية شيّقة، غنية بالتفاصيل، وفيها عبرة للقارئ، ورسالة سلام لأولي الألباب.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات