Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

في مفارقة نادرة جدًّا في عالم الأدب، تعرض الروائي الأمريكي جيروم ديفيد سالنجر لسوء الفهم من القراء والنقاد والصحافة بصورة سببتْ له ألمًا لا يطاق، لدرجة أنه توارى عن الأنظار لأكثر من ستين عامًا!

يحصل كثيرًا أن يشتري قارئ ما رواية ويشعر بأنه خُدع، أي أنه دفع مالًا مقابل عمل لا يستحق، فربما رجع إلى المكتبة التي اشترى منها الرواية معيدًا النسخة، ومطالبًا باستعادة ثمنها.

في حالة ج.د. سالنجر حدث العكس، إذ شعر الروائي أن القراء قد خدعوه، وكان يود من صميم قلبه لو يتمكن من إعادة الأموال إليهم واستعادة نسخ روايته.

في الحوار الصحفي الوحيد الذي أُجري معه، قال كلامًا غريبًا:

“النشر شيء وحشي، وحشي. إن كثيرًا جدًّا من الأمور التي لا يمكن استشرافها تقع بعد النشر. إنني قد أكون أسعد حالًا إذا لم أنشر أبدًا. إن في عدم النشر سلامًا”.

ولد سالنجر في نيويورك عام 1919 لأسرة من الطبقة المتوسطة العليا، وشارك في الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1951 نشر روايته الذائعة الصيت “الحارس في حقل الشوفان” التي حققت نجاحًا فوريًّا، وترجمت إلى معظم لغات العالم، ويقدر عدد النسخ المباعة من الرواية بأكثر من 65 مليون نسخة.

أيّ مؤلف آخر كان سيضع رجْلًا على رجل ويتباهى بالنجاح العظيم الذي حققته روايته، وأما سالنجر فكان يشعر بالحزن والندم، وكان يدرك في قرارة نفسه أن الوضع الذي خلقه نجاح روايته كريه تمامًا.

يُقال إن هذه الرواية قد خلقت تأثيرًا عميقًا في المجتمع الأمريكي، واتخذها جيل غاضب في أمريكا أيقونة له، وكأنها بيان ثوري عن حركة الشباب الغاضبة.

في الجهة الأخرى من العالم، وفي توقيت احتدام الحرب الباردة بين القوتين العظميين أمريكا والاتحاد السوفييتي، تلقف الشيوعيون هذه الرواية بفرح، وساهموا بشكل كبير في انتشارها باعتبارها عملًا فنيًّا احتجاجيًّا يفضح عيوب النظام الاجتماعي- الرأسمالي الأمريكي.

لم يُبْتَلَ روائي بسوء الفهم كما ابتُلي سالنجر، لأن العالم كله فهم روايته “الحارس في حقل الشوفان” بشكل خاطئ، لذلك اتخذ قراره بعدم نشر أعماله اللاحقة، وقرر أن يكتب لنفسه فقط، لمتعته الذاتية، ولا يتشارك كتاباته مع أيّ أحد.

تتحدث رواية “الحارس في حقل الشوفان” عن فتى في السادسة عشرة من عمره، اسمه (هولدن كولفيلد)، طُرد من المدرسة لرسوبه وإهماله، فيفكر في الابتعاد عن أسرته والبحث عن مستقبله بعيدًا عن الخطة التقليدية المتبعة، التي تقضي بدراسة الثانوية ثم الجامعة، وبعدها الحصول على عمل. تدور أحداث الرواية خلال أيام معدودة، وفيها نتعرف على وجهة نظر هولدن إلى المجتمع الذي يعيش فيه، وهي نظرة تجمع بين القرف من المسنين، وازدراء الأناس العاديين وعاداتهم وتقاليدهم، والسخرية من أسلوب حياتهم، مع توهم أفضليته وأنه شخص حقيقي بينما الآخرون مزيفون.. وهلم جرًّا من هذه الأوهام الساذجة التي تسيطر على عقول الفتيان في سنوات المراهقة، ليس في أمريكا فحسب، ولكن في جميع البلدان، فهذه مرحلة عمرية طبيعية، يشعر فيها الفتى بالسخط على كل ما حوله، وأنه يريد تغيير العالم، فإذا صقلته التجارب ونضج عقليًّا، أدرك أن البطولة الحقيقية هي أن يتمكن من تغيير نفسه!

الحكمة التي يريد سالنجر إيصالها للقراء هي أن الإنسان الناضج هو الذي يسعى إلى تغيير نفسه، وأما الإنسان غير الناضج فهو الذي يسعى إلى تغيير العالم.. لذلك كان اختياره موفقًا لشخصية ولد في السادسة عشرة للتعبير عن طريقة تفكير الشخصية غير الناضجة، والروائي يبرر عدم نضج (هولدن كولفيلد) لصغر سنه، وهذا أمر منطقي تمامًا.

ولكن الملايين من الشبيبة الأمريكية، وخلفهم ملايين من الشيوعيين في شتى أرجاء العالم، وقعوا في سحر هذه الشخصية غير الناضجة عقليًّا، ولم يفهموا المغزى الأساسي للرواية، وهو أن سالنجر يُدين (هولدن كولفيلد) ولا يُشيد به، إنه يقدمه كنموذج لضلال الإنسان في فترة المراهقة والأفكار الضبابية التي تراوده، ولا يشفى منها إلا من خلال الخبرة والتجارب التي يمر بها في الحياة.

ما وقع فيه (هولدن كولفيلد) من أخطاء جسيمة في أحكامه على المجتمع ونظامه التعليمي وثقافته وآدابه، ومن ذلك حكمه السلبي على أعمال همنغواي، هو نوع من الطيش، الذي يليق بالصبيان في مقتبل العمر، ولكنه لا يليق بمن جاوز هذه المرحلة العمرية إلى مرحلة الشباب والاتزان العقلي.

هذا الطيش الصبياني أظهره سالنجر بدقة عجيبة في روايته، ولكن رغم ذلك وقع في الفخ أصحاب الطيش الأيديولوجي!

أحد ضحايا الفهم الخاطئ للرواية هو القاتل (مارك ديفيد تشابمان) الذي أطلق النار على عضو فرقة البيتلز (جون لينون) عام 1980، وظل في موقع الجريمة يقرأ رواية “الحارس في حقل الشوفان” حتى جاءت الشرطة وألقت القبض عليه. صرح القاتل للصحافة أن شخصية هولدن كولفيلد الخيالية من رواية الحارس في حقل الشوفان للكاتب جيروم ديفيد سالينجر قد ألهمته.

واحد آخر من ضحايا الفهم الخاطئ للرواية هو (جون هينكلي) الذي أطلق النار على الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وأصابه بطلقة في رئته عام 1981، وعندما فتشوا غرفته في الفندق وجدوا نسخة من رواية “الحارس في حقل الشوفان”. 

ترجم الرواية إلى اللغة العربية الروائي الشيوعي (غالب هلسا)، ونُشرت في بغداد عام 1978، وأُعيد نشرها عن دار الهمداني بعدن أيضًا. وكان هذا الحماس لترجمة الرواية وإعادة نشرها في طبعات متتالية بعدة عواصم عربية، مرده الظن الخاطئ أن (هولدن كولفيلد) بطل إيجابي، بينما سياق الرواية يشير بوضوح إلى أنه بطل سلبي، له عادات ضارة، وطريقة تفكير ضالة.

نمتلك دليلًا دامغًا من الرواية نفسها، يشير إلى صحة الرأي الذي بسطناه آنفا، فعندما طُرد (هولدن كولفيلد) من المدرسة، واضطر إلى مغادرة السكن الداخلي، لم يذهب إلى بيته، ولكن ذهب إلى منزل أحد أساتذته المفضلين – مستر أنتوليني، وهو الشخصية الإيجابية في الرواية بالمناسبة، ليقضي الليلة عنده، فأمده بهذه الملاحظة المهمة، حتى إنه كتبها له في ورقة ليحتفظ بها:

“إن علامة الرجل الذي ينقصه النضج أنه يود أن يموت بنبل من أجل قضية ما، بينما علامة الرجل الناضج أنه يود أن يعيش بتواضع من أجل قضية ما”.

هذه العبارة الموجزة تكشف بدقة متناهية الفرق بين الإنسان الناضج والإنسان غير الناضج.

ينتمي إلى اتجاه العقل غير الناضج اليساريون الراديكاليون، والإسلاميون المتطرفون، وكل قومي أو وطني أو حزبي أو حتى فرد واحد يحسب أن الموت دفاعًا عن قضيته هو الخيار الصحيح، بينما ينتمي إلى منطقة العقل الناضج الذي يود أن يعيش دفاعًا عن قضيته.. والفارق بينهما هائل جدًّا، فالعقل المراهق يسعى إلى الحروب وسفك الدماء، بينما العقل الحكيم يسعى إلى السلام وتحقيق أهدافه دون تعريض حياته وحياة الآخرين للخطر.

لكن يجب التدقيق جيدًا في العبارة التي أوردها سالنجر، لأن اتجاه العقل الناضج الذي يمجد الحياة لا الموت مشروط بـ”التواضع”.. فماذا يعني ذلك؟

إنه يعني أن فضيلة التواضع أساسية لمن لديه مشروع أو قضية يُسخر لها حياته، فالغرور والغطرسة والكبرياء هي علامات مؤكدة على افتقار العقل للنضج.. لذلك يستحيل أن يكون الإنسان مسالمًا وفي الوقت نفسه مغرورًا.. فإن تسرب شيء من الشعور بالفوقية والتفوق والاستعلاء على الآخرين إلى عقل الإنسان المسالم، فإن هذا الفرد سيتحول تدريجيًّا إلى العنف ولن يترك الآخرين يعيشون في سلام..

في محادثة مع صديقه إرنست همنغواي، قال سالنجر إنه يعكف على كتابة رواية تشبه “الديناميت”، وقد صدقت النبوءة، وأحدثت الرواية تأثيرًا على العقول أشد من الديناميت، فهو مثل ألفرد نوبل الذي اخترع الديناميت ثم عض أصابعه من الندم.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات