Accessibility links

حولت الحرب معظم اليمنيين إلى مُعدمين وبسطاء في كل شيء.. عيون الحرب الجاحظتين في مقهى مُدهِش بصنعاء


إعلان
إعلان

صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري

على طاولات هذا المقهى تتموضع اليمن بوجوهها المتعددة؛ فهنا تجد الناس من كل محافظات البلاد، يجلسون بجانب بعضهم، يحتسون الشاي، ويتحدثون لساعات في كل شيء ومن ثم يغادرون، وربما قبل أن يسأل أحدهم الآخر: مَن أنت؟ فاليمنيون في حال اضطروا لسؤالك فهم يسألونك فقط: من أين أنت؟ وهو السؤال الذي يحتاج لقراءة مختلفة ومناسبة أكثر اختلافاً لتفكيكه…

زبدة مبتدأ القول: أن الوضع تغير كثيراً في هذه الأرض الفقيرة والمنسية من العالم، بات الفقر في اليمن يتحدث بلغة فصيحة وعلاماته يمكن قراءتها بوضوح.

لعل مقهى مُدهِش قد بات أشهر المقاهي بصنعاء، وهو الواقع وسط شارع المطاعم جنوب ميدان التحرير… هنا حيث تتراص الأباريق الصُفر وتلثم عيون النار أمام العم «مُدهِش علي”، وهو يتلقف طلبات زبائنه منذ أكثر من عشر سنين في هذا المكان وقبلها عشرين سنة في الشارع المجاور …

لكن الثلاثين سنة التي أمضاها في خدمة زبائنه لا تساوي شيئاً مقابل تعب العامين ونيف تحت نير هذه الحرب التي تتجرع مرارتها بلاده اليمن على مرأى ومسمع من العالم الذي يصرّ على تجاهل مظلوميتها حتى بات هذا العالم يبدو شريكاً في صناعة هذه المظلومية التي تنهش أفقر بلد في الشرق الأوسط.

لقد ارتبطت شهرة هذا المقهى بمن بات يرتاده من عِليّه القوم من المثقفين والمسؤولين الحكوميين خلال السنوات الأخيرة؛ وهي السنوات التي شهد فيها هذا الشارع تنظيم أنشطة ثقافية عززت من مكانته ومقصوديته من قبل المشاهير إن جاز الوصف بالإضافة إلى من يرتاده من البسطاء المعوزين الذين يلقون فيه حاجتهم من الأكل الشعبي زهيد الثمن.

الحقيقة التي تجابهك وأنت تلج هذا الشارع من مدخله الشمالي الوحيد قاصداً مقهى مُدهِش هي أن الحرب الراهنة التي تعيش اليمن تحت وطأتها قد غيّرت ملامح الحياة تماماً في هذا البلد، كما تغيرت ملامح علاقة الناس بهذا المقهى.

يتحدث مُدهِش بألمٍ عما كان عليه عمله قبل وخلال الحرب؛ فالوضع الآن مختلف تماماً…يقول: لم أشهد خلال عُمري، في هذا الشارع، أن أتت شخصية عامة من المشاهير وهي لا تملك قيمة كوب الشاي… لقد غيّبت الحرب وجوه كثيرة كنا نلتقيها يومياً في هذا الشارع، وهذا أمر طبيعي بسبب الحرب؛ فبعضهم نقل سكنه وبعضهم لا يملك أجور المواصلات للوصول إلى هنا، وبعضهم يأتي وهو لا يملك سوى أجرة المواصلات؛ فيجلس ولا يطلب شيـئاً حتى يأتي صديق له ويعرض عليه كأس شاي…أما البسطاء فقد حولت الحرب معظم اليمنيين إلى مُعدمين وبسطاء في كل شيء!

يعيش العم مُدهِش كل يوم الكثير من الحكايات والمشاهد المؤلمة يزداد معها عبوسه وضيقه بالحياة… ما يضطره أحياناً لترك المقهى للعمال والاختفاء لساعات…وهو كل يوم على هذه الحال، يتجرع نصيبه من الغصص، وهو يشاهد مآلات زبائنه اليوم مقارنة بما كانوا عليه أمساً …

يتيح لك هذا الشارع وتحديداً هذا المقهى أن تشاهد عِليّة القوم يجلسون بالقرب وأحياناً حول نفس الطاولة مع بسطاء الناس من التعساء والمهزومين حد وصف الكاتب وجدي الأهدل في إحدى قصصه المنشورة ضمن كتاب «قصص من شارع المطاعم»، وهو كتاب كرّسه الكاتب لحكايات استوحاها من هذا الشارع الذي يحكي لك يومياً حكايات جديدة من حكايا الألم اليمني… فهنا الحرب تنتظرك بعينيها الجاحظتين قهراً وعوزاً وفقراً تنضح بها وجوه الناس في كل مكان، في هذا الشارع، في هذا المقهى، على هذه الطاولة.

يفتح مقهى مُدهش أبوابه لنحو 18 ساعة يومياً، وتمثل ساعات ما بعد الشروق وساعات ما قبل الغروب أكثر الساعات ازدحاماً …يقول: صار المستولين أكثر من الزبائن.

ليست مشاهد المتسولين بين طاولات المقهى سوى غيض من فيض المعاناة اليمنية تحت ضربات الحرب الملتهبة، والتي يرويها مقهى مُدهِش!

ولإدراكه صعوبة الوضع الاقتصادي فإن مُدهِش لم يرفع أسعار أكواب الشاي بأنواعه: الملبن، والذي يقصد به الشاي بالحليب، أو البن بالحليب، أو مشروب الزنجبيل أو غيره …” أصبح الناس غير قادرين على دفع أربعين ريالاً أو ستين ريالاً ( أقل من ربع دولار أمريكي)؛ فكيف نرفع الأسعار؟! الوضع صعب والمبيعات تراجعت إلى أقل من نصف ما كانت عليه، وحياة الناس تزداد تعقيداً كل يوم، وكما قلت لك فهناك من صار لا يملك قيمة كأس الشاي وقيمة كأس الشاي أرخص من قيمة قارورة الماء في اليمن» يقول مُدهِش.

يعمل مُدهِش في هذا المقهى منذ عام 2003م، وقبل ذلك كان يعمل في مطعم في نفس الحي… وعلاقته بالشاي العدني هي علاقة محبة وهواية جذبته من زمان على الرغم من أنه ليس عدنياً إلا أن الشاي العدني صار هُويته بعدما كان هوايته…

وجه صاحب المقهى مُدهِش كافياً لنقرأ فيه ما حفرته السنوات من تعب وما احدثته السنوات الأخيرة من ضنك لروحه وصحته…لكنه مقارنة بعمره مازال نشيطاً ويعمل بحيوية.

على الرغم من كل تلك المتاعب التي فرضتها سنوات الحرب الراهنة ومثل بقية اليمنيين يعيش مُدهِش يومه في تحدٍ لكل أشكال المعاناة؛ فهو يصحو باكراً ويمارس عمله إلى ما قبل الساعة الثانية عشرة ظهراُ ليذهب ويعود بأعواد القات التي يبدأ بتعاطيها عقب غداءه المبكر وحتى بعد العصر ليستأنف العمل مع عماله في مقهاه حتى وقت متأخر من الليل…ساعات طويلة لرجلٍ في عمره وفي مرحلة حرب تعيشها بلاده تؤكد لنا خصوصية هذا الشعب في علاقته بالحياة مهما كانت معوقاتها… وتلك لا تفسير لها سوى أن هذا الشعب اعتاد هذا الملمس الخشن لحياته؛ فاليمنيون لم يعيشوا عيشاً رغيداً على مستوى المئة سنة الأخيرة؛ وبالتالي فوضع الحرب وما فرضته وستفرضه لا تمثل لهم واقعاً جديداً وإن كان مختلفاً في مأساويته… وفي هذا إجابة على مئة سؤال وسؤال يتردد عن علاقة اليمنيين بالحياة تحت سياط هذه الحرب…فالحياة مريرةٌ والعالم مغمض العينين عن مأساتهم؛ ومع ذلك فهم لا ينتظرون العالم بل يعيشوها علقماً، لكنهم في الوقت المناسب سيقولون كلمتهم للعالم وقبل ذلك لكل الطغاة الذين صنعوا هذه الحرب ويستثمرون اقتصادها…

بإمكانك أن تتحسس صوت هذا البركان الخامد، وأنت قاعد على كرسيك تحتسي شايك في مقهى العم مُدهِش وسط صنعاء.

   
 
إعلان

تعليقات