Accessibility links

إعلان
إعلان

د.شاكرالأشول

قبل رياح السنين، ومع الإضاءة المناسبة، وقبل (26) سنة بثوب التخرج من جامعة بروكلين، وبعد سنين من الصعوبات والتحديات الأكاديمية والمالية والعمل بالدكاكين جاء يوم التخرج كمكافأة وكعائد استثماري ليس لي فقط، بل لوالدي ووالدتي وإخوتي.

كان العام 1993م، ولم تكن حينها صور التخرج بالشيء المألوف مثل الآن، بل إن التعليم بالنسبة لليمني كان الاستثمار الخاسر، فمن يدخل الجامعة من القليل الذين يكملون الثانوية إما أنه لا يُكمل ويتخرج منها، وإما لا يعمل بمجاله إن استطاع التخرج، فيرى اليمنيون أن من ينتهي الأمر به إلى الدكان أضاع وقته فقط في الدراسة.

ولذلك كانت أغلب ردود الفعل وما نسمع أنا وأخي هلال تُشجّعنا على اختصار الوقت وترك الدراسة.. وعلى الرغم من أنه كان هناك لحظات تحدٍّ جعلتني شخصيًّا في مفترق طرق، إلا أنني دائمًا كنتُ أذكر معنى النجاح والإنجاز لوالدي ووالدتي وإخوتي.

 كان أبي الأمّيّ الذي لم يشعر بمرارة فقدان شيء مثل التعليم، وفي حين عوض أبي اليتم بصداقاته وعلاقاته التي جعلت أواصر أقوى تربطه بالناس أكثر من الارتباطات الاسمية والأسرية المعهودة.. وفي حين أنه استطاع أن يعوض سنين الفقر والحاجة بما استطاع أن يكتسبه من سنين اغترابه وعمله في البحر والبر، إلا أنه لم يجد طريقًا إلى تعويض ما افتقده من العلم إلا بتعليم أبنائه وبناته.

بدأ حلم تعليمنا حتى قبل أن نأتي إلى هذه الدنيا عندما اشترى والدي آلة كاتبة عربية لنطبع بها حينما نكبر.. ومع الزمن لم يُظهر والدي ووالدتي أهمية لأي شيء مادي بقدر ما كان التعليم والدراسة هما شغلهما الشاغل.. أمام التحديات والصعوبات التي واجهتها كنتُ أذكر دائمًا حجم استثمار والدي ووالدتي في تعليمنا، والاستثمار ليس بالضرورة ماديّ هنا، لكنه كان معنويًّا وعاطفيًّا.. ذكرتُ عندما فاجأني أبي بعمل إطار لشهادة أول ثانوي لِأُبديَ انزعاجي حينها بأن ذلك مبالغة، فلا أحد يضع إطارًا لشهادة أول ثانوي، فقد كانت الإطارات الزجاجية للشهائد العامة لصفوف (سادس وثالث إعدادي وثالث ثانوي) لأهميتها وقيمتها.. هذا الحدث البسيط نحت في داخلي قيمة ملموسة أخرى لحجم الاستثمار المعنوي والعاطفي من قِبل والدي.

في مناسبات أخرى وجدتُ والدي يحمل لي كتب عباس العقاد وكتبًا من ترجمة حمزة لقمان.. لم يكن يُدرك والدي حينها صعوبة فهم المحتوى بالنسبة لطفل في الثانية عشرة من العمر، وعلى الرغم من أني وضعت تلك الكتب جانبًا ولم أقرأها، إلا أن أثرها في نفسي وتعبيرها عن رغبة أبي وحرصه على أن نتعلم لم يتلاشى، وظلت تمثل الجزء الأهم من الحافز لمواصلة التعليم.

لم يكن أبي يسألنا عن الواجبات، ولم يقل لنا أن نذاكر، فقد كان عالم المدرسة ومتطلباتها عالَمًا غريبًا لا يعرفه، وكيف له؛ فآخر مرة تلقّى أي شكل من أشكال التعليم كان تحت شجرة جوار المسجد في السناحي، أيام طفولته.. لكنه كان يقول لنا المستقبل هو التعليم في وقت لم يحاول أن يضع مع التعليم قيمة لأي شيء آخر، فلم يرسم لنا والدي مشروعًا تجاريًّا ولا بناءً معماريًّا، ولا رسم لنا حلم التملك وجنْيِ الأموال، فقد كان كل حلمه وكل همه، وغايته الوحيدة أن يرانا متعلمين، وكان هذا هو مقياس النجاح الحقيقي بالنسبة له والتعويض لِما فقده ولم يستطع هو تحصيله.

في بداية التسعينيات وأثناء دراستنا حاول استرداد بعض أراضينا التي تملكها الآخرون بغير حق وبمغالطات، ولمّا طال الموضوع توقف عن (الشريعة)، وعندما حاولتُ أن أستفسر منه عن سبب توقفه كان رده مقتضبًا بسيطًا، “مشروعنا إحنا مشروع تعليم”.. كلمات بسيطة ومعدودة لكنها حفرت في نفسي قيمة المشروع وقدر التضحية إلى درجة جعلته هو الهدف الذي لا يمكن الابتعاد عنه.

التعليم بالنسبة لي كان مصيرًا في حين أن الفشل لم يكن خيارً، ولم يكن خيارًا لأن والدي ووالدتي جعلانه وكأنه هو الطريق الوحيد، ومعيار المقارنة الوحيد، فلم يقارنونا أبدًا بمن بنى عمارة أو اشترى سيارة، لكن أمي كانت تحثنا أن نصبح متعلمين مثل أمة العليم السوسوة، وتحكي دون ملل كيف استطاعت أن تتعلم وهي ابنة حارتنا، بينما أبي كان دائمًا شديد الحرص على أن يقربنا ويعرفنا على المتعلمين ولم أجد أبي ينبهر بشخص مثلما كان ينبهر بالإنسان المتعلم، وتلك أيضًا رسالة غير مباشرة عن أهمية التعليم في حياة والدي وقيمته.. ما زلت أذكر كم كان حريصًا في أن يعرفني على المؤرخ حمزة لقمان، وأن نلتقي الدكتور توفيق سفيان بعد عودته اليمن.. رسائل بسيطة لكنها متراكمة ولها أثرها.

في حياتي، أيضًا، شخصية العم عبدالله القصري الذي كان الأيقونة الأقرب، ورمزًا للعلم والشخصية المتعلمة في حياتي، ومع تقدمنا في الدراسة كان اهتمامه بأخبارنا ومتابعته لتقدمنا يعطيان قيمة وبعدًا آخرَين لأهمية التعليم بالنسبة لنا.. أذكر هذا لأقول أننا نتأثر ببيئتنا وبالشخصيات من حولنا لنحرص أن يكون أبناؤنا وبناتنا في مجتمعات ملهمة، وبين أشخاص يعطون لنجاحاتهم أهمية ومعنى.

عرجتُ على هذه الأمور وأنا أتعمّد إيصال رسالة للآباء بأن نجاح أبنائهم وقدرتهم على مواصلة تعليمهم مرهون بحجم استثمارهم واهتمامهم ومتابعتهم.. يتذمر بعض الآباء أن أبناءهم فشلوا في التعليم، وأتساءل أنا عن حجم وحقيقة الاستثمار العاطفي والمعنوي في الموضوع، والمادي أيضًا، أوردت العديد من الأمثلة الخاصة التي كانت بالنسبة لي رسائل قوية جعلت التعليم الخيار الوحيد، آملاً أن تكون محفزة للتفكير والتغيير في حياتنا.

وعلى الرغم من أن مسألة إكمال التعليم قد أصبحت من المسلّمات في كثير من الأسر اليمنية إلا أن الكثير من الأسر في منطقتنا وفي مجتمعنا الاغترابي ما زالت تصارع الفكرة وتجد الكثير من الصعوبات في تقبلها وفي الاستعداد للتضحية من أجلها، أو أحيانًا في التغلب على المخاوف المصاحبة لها.

لوالدي وللعم عبدالله القصري الرحمة والغفران، ولكل من شجعنا ودعمنا السلام والعرفان بالفضل، وجعلنا دائمًا ملهمين لغيرنا للخير والفلاح.

   
 
إعلان

تعليقات