Accessibility links

حكايات الخزامي وزهر الرمان  قصة قصيرة


إعلان

مها صلاح*

تتسلل ملامحها النميمة إلى عينيه قبل أن يفتحهما كل صباح، وكأنها أشعة الشمس، فيحاول إبقاء جفنيه مطبقتين أطول وقت ممكن، لكن حرصه غريب بعض الشيء، فصورتها تسبقه إلى كل مكان يذهب إليه، يراها في كل شيء، وكأنها تحيط بكل شيء، الدروب، والأشجار، والأمكنة، والوجوه، يبتسم لوحده، بل ويضحك في أحيان كثيرة من خاطرة قالها لها في خياله، وكثيرًا ما يتوقف في الدرب ليتجادل معها وتتغير قسمات وجهه بحسب الجدال الذي يجريه مع طيفها الذي لا يفارقه.

نهاية كل يوم يمشي مسافاتٍ إضافية فقط ليشاهدها كما هي بكينونتها الحقيقية، يتوقف في الساحة التي تمرُّ منها كل يوم في طريق عودتها إلى البيت.. يقترب منها قدر المستطاع ويمتلئ بها يتشرب كل قطرة تفيض من ملامحها، صوتها، عطرها، إيقاع خطواتها، كلماتها، ضحكتها وهي تسيل في الدرب فتغسله بماء الفضة، لحظتها يغمض عينيه ويسمح لها أن تعبر إلى أعمق نقطة في داخله، تتشربها مسامه فيطفو في الهواء محفوفًا بغيمة من الأحاسيس القوية، بعد أن يهبط إلى الأرض يتابع خطوها المبتعد بحسرة كبيرة، يحيط جسده بذراعيه، يعانق شذاها ويمنعه من الانسراب خارج جسده، ويتساءل متى ستدرك وجودي يا ترى؟

في المساء يخرج مفكرته الملونة بلون الخزامى ويدون سيرة عطرها كي لا ينسى نسمة واحدة

***

تختار الطريق الأطول للبيت كل يوم، تعرف أنها ستجده واقفًا ينتظرها هناك، تعرف أنه ينتظرها هي، لا يرفع عينيه من عليها، يشعرها حضوره بوهج دافئ يحيط بها، تلمحه بطرف عينها من بعيد وتتظاهر بأنها لا تراه، تعبره وتفتر شفتيها عن ابتسامة لا يلحظها وتسرّع خطو أقدامها.

تتسع ابتسامتها وتتذكر لقاءهما الأول في المكتبة، كانت تشتري مفكرة للعام الجديد، وكانت على عجلة من أمرها، ولم تدرِ إلا وقد ارتطمت به وأسقطت كتبه أرضًا، اعتذرت بخجل، وهمّت بمساعدته لجمع ما وقع من الأشياء حين التقت أعينهما للمرة الأولى، شعرت بتيار يسري في عروقها، وعلت دقات قلبها فجأة، ناولته آخر قطعة وكانت مفكرة تشبه مفكرتها تمامًا، إلا أنها كانت بلون الخزامى، لم تشعر أنه غريب عنها، بشعره الأسود المتموج، ووجهه المستطيل، وعينيه العسليتين، أنفه الجميل، وشفتيه العريضتين اللتين يغطيهما شارب خفيف، وتفتران عن ابتسامة دافئة. دفء ابتسامته أربكها وجعلت الدم يتدفق إلى وجنتيها، وتساءلت مستنكرة كم يبدو مألوفًا لها، أين رأته قبل اليوم يا ترى؟

في المساء تُخرج مفكرتها بلون زهر الجلنار، وتدون فيها خفق قلبها كي لا تنسى خفقة واحدة

***

يحب عمله في ساحة الجامعة والمحيط بها، وما يهون عليه الكد والتعب مقابل فتات حقيرة، إنه يجد الكثير من الأشياء الغريبة والظريفة التي ينساها الناس أحيانًا أو يتجاهلونها عمدًا في أحيان أخرى، يستمتع بقراءة القصاصات المتروكة على الكراسي أو الأرصفة، يحلو له أن يشعل عقب سيجارة نصف محترقة، ويرشف الشاي الساخن في علبة حليب معدنية، ويسترخي على أحد الكراسي، ويقرأ ما جمعه من بعض قصاصات أوراق الامتحانات، بعض الرسائل الظريفة التي يكتبها الطلبة أثناء الدراسة، قصاصات حب ومواعيد يهملها أصحابها ويتركون القلوب المرسومة فيها تشعر بالوحدة، والأسهم تشير إلى العدم.

بعد أن يكمل قيلولته اليومية، يعود للبيت ينضو عنه ملابس العمل البرتقالية الفاقعة، ليأخذ حمامًا يغسل ما علق به من الأتربة، يتفقد بعض الجروح الصغيرة التي تتركها بقايا الزجاج والخشب في أصابع يديه وقدميه، يدهنها بمسحوق نبات القرض* بعد أن يخلطه بالماء لتبرأ بسرعة،  يتأمل صورته في المرآة نصف المكسورة، جبينه العريض، حاجبيه الكثيفين، أنفه الأفطس العريض، وعينيه المدورتين، شفتيه المكتنزتين، وعند هذه النقطة يبتسم لنفسه فتتلألأ أسنانه البيضاء، يمشط شعره الكثيف بأصابعه، ويرتدي ثوبه الأبيض فيشع لونه الأسمر البهي، ويبدأ يومه الحقيقي بعيدًا عن قسوة الأرصفة.

هذا المساء يشعر بالكثير من الجذل، فقد وجد مفكرة بلون زهر الرمان، في سلة المهملات، الغريب أنها تشبه مفكرة أخرى بلون الخزامى، كان قد وجدها قبل شهر في نفس مكب القمامة، يغمره فضول ليقرأ ما كتب فيهما، وتساءل: لمَ يجتهد الناس في تدوين أشيائهم في مفكرات أنيقة، ثم يرمونها بعد ذلك؟!، أشعل اللمبة الوحيدة في بيته الذي هو عبارة عن غرفة واحدة بنافذة صغيرة، أشعل ـ في الوقت نفسه ـ سيجارة، وبدأ بتقليب المفكرتين بين يديه واستغرق في القراءة.

 

نيسان – مفكرة زهر الرمان

كان مثل عشرات العابرين حولي، عابرًا جدًّا لا يكاد يلفت الانتباه، ولم أكن أنا أحفل بأحد، كانت حياتي مليئة بالتفاصيل الصغيرة السعيدة، لكن ذلك كله انتهى بعد أن جاء إلى حياتي وانتبهت لوجوده، فتغير كل شيء، أصبحت أمشي متلفتة وأتمعن في وجوه السائرين، علّ وجهه يأتي مصادفة ويحتلني، أراه في كل شيء وكأنه خلفية شفافة تصبغ حتى الأحلام.

 رغبت برؤيته اليوم، تملي قسماته النبيلة وكأنه إله يمني قديم، لا أعرف لماذا يسبق حضوره دومًا وهج دافئ، سيأتي غدًا بلا شك سينتبه قلبي لنغمة صوته الرخيمة، وقبل كل هذا سأغرق في غيمة عطره الرجولية الباذخة قبل أن ألتفت وأجده يحدق بي.

 

نيسان – مفكرة الخزامى

للحظة وجيزة تتسع حدقتاها ويرتفع حاجباها، عندما نلتقي فأعرف أنها تنتبه لي، وربما تهتم قليلاً لأمري، برغم أن كل تصرفاتها اللا مبالية تقول عكس ذلك تمامًا، لهذا أترقب الوقت المناسب حتى أظهر أمامها فجأة، وأعيش طويلاً في تلك اللحظة الخاطفة التي تنفلت منها ولا تسيطر عليها، يحمل وجهها المدور وعيناها الصغيرتان وأنفها الناعم وشفتاها الرقيقتان سمة طفولية محببة تزيدها سحرًا غمازة صغيرة أسفل ذقنها تجعلها أقرب لملاك منها لبشر، وتزيد رغبتي في الاقتراب أكثر، لم أعد أكتفي كما كنت منذ فترة طويلة بمجرد رؤيتها من بعيد أو إلقاء التحية عليها، لكنني أصبحت أخشى من أسئلة كثيرة تطل من عينيها.

 

حزيران – مفكرة زهر الرمان

الصبي تفضحه عيناه، وعيناه تقولان الكثير، وكلما أطلت النظر فيهما، كلما هرب بنظراته، هل يداري ارتباكه؟ هل يخاف أن يقول ما يشعر به؟، هذا ليس عدلاً، تقدح عيناه شرارة الحب في روحي وتهربان!

فيصبح قلبي نهب أسئلة لا تنتهي، كم يا ترى مر من الوقت وأنا معشوقته؟ كم مرت من اللحظات وهو يتخيل شكل جدائلي؟ طعم شفتي؟ ملمس جلدي؟ رائحة نهدي؟ كم ليالٍ وسّدني  صدره وزرعني بين الحنايا؟ ولِمَ يصمت، ممَّ يخاف؟ ما أصعب الشوق حين يحرق الأحشاء والجسد، وما أصعب أن نحاول لمس الأحلام بالأصابع.

 

حزيران – مفكرة الخزامى

أحارب نفسي التي تهفو إليها، أصادر دقات قلبي التي تعلو كلما مرت بخاطري، والحريق الذي يشب بصدري حين تقبل تسبقها ابتسامتها، أكره ارتباكي حين التقي بها وجهًا لوجه ورغبتي في الهرب من ضعفي أمامها، أخاف أن تفضحني لوعتي فتزيد من عذابي، لماذا ينعقد لساني أمامها وأعجز عن الكلام، لماذا حين أخلو بنفسي أصنعها كما أريد لتكون لي كما أشتهي، أبكي من وجعي ولهفتي وأناجيها:

– أرجوكِ ضميني إليك بقوة ولا تفلتيني!

 

تشرين الأول – مفكرة زهرة الرمان

في قلب انسجامنا في الحديث تمر غيمة في عينيه، وحين أنتبه وأسأل، لا يهرب من الإجابة فقط كما يهرب من كل حصاراتي الصامتة والعلنية، بل ينغلق مثل زهرة، وأشعر بأنني أفقد البوصلة إلى قلبه، كل ما فيه يبوح ويقول: أحبك، عيناه، ابتسامته، ارتجافة صوته، صعوبة تنفسه، ألا يظن بأن هذا يكفي لكي أعرف ما يريد أن يقول!، وكأن الكلمة هي ميثاق الحب فقط، لمَ لا يقولها؟ وسأبدو متفاجئة! أو ربما سأربّت على يديه، وأقول له: أنا أكتوي بنار اللوعة مثلك، أو ربما سأبكي وأسند رأسي على كتفه، لا أعرف ماذا سأفعل حينها، لكنه لا يقول!

 

كانون الأول – مفكرة الخزامى

لم أعد قادرًا على تحمل مرارة الكتمان، ولا أقدر على الكلام، ولا على النظر مجددًا في عينيها، لا أمتلك شيئًا أقدمه لها، ولا أرضى أن أربطها بمصير لا أعرف كيف سيكون، سأدوس على قلبي وأحمل وجعي بين أضلعي، وأختفي تدريجيًّا من حياتها، لا أحتمل أن أسبب لها المزيد من الألم، لا أحتمل ذلك.

 

كانون الأول – مفكرة زهرة الرمان

شاردة وعصبية، هذا ما يقوله الآخرون عني، هذا ما يصنعه تجاهله بي، حفظت جدول محاضراته عن ظهر قلب، أنتظره كل يوم لأتحدث معه، لكنه وعلى غير عادته لا ينظر في عيني، ويختلق الأعذار والعلل، يأكلني القلق وتأخذني الظنون إلى أماكن بعيدة ومظلمة، عافت نفسي الأكل والشرب، يكاد قلبي يغادر صدري.

كانون الثاني – مفكرة الخزامى

أراقبها من بعيد، لم تعد مشعة كما كانت، تمشي ببطء مطرقةً رأسها للأرض، أشعر بطعنة تمزق قلبي، لقد آلمتها، كسرت روحها الرهيفة، أعرف أنني وغد جبان، لكنني أعرف أيضًا أن ألمها كان سيكون أعظم لو أنها ارتبطت بشخص مثلي، شخص يعيش في الحلم.

هذا آخر يوم لي في الكلية، غدًا أعود إلى مسقط رأسي، لم أعد بحاجة حتى لهذه المفكرة، فلست بحاجة لتذكر ما انتهى قبل أن يولد.

 

كانون الثاني – مفكرة زهرة الرمان

هل تكذب المشاعر؟ قد يكذب اللسان، لكن هل تكذب خفقة القلب؟ كنت أظنني قد عرفت الحب أخيرًا، حلاوة سحره، جنون لهفته، نار لوعته، وكنت أظن أنني ومن نحب نريد أن يكبر هذا الحب وتنمو تلك المشاعر المجنونة.

هل كنت مخطئة؟ هل أظلم الحب؟، وهل سأشفى من هذا الحزن؟

في كل الأحوال، سأبدأ من اليوم بمحو كل الذكريات الموجعة، ربما أتعافى.

***

وضع المفكرتين مع الأوراق والقصاصات التي جمعها، وقال لنفسه: كم هو حزين أن تنتهي قصة حب قبل أن تولد يا للأسف!، وابتسم وهو يتذكر كيف خطب نورة التي يهواها قلبه، كان ذلك ليلة العيد، في “المحوى” وقفوا في صفوف متقابلة رجالاً ونساء، وبدأوا بالرقص على إيقاع الطبول، يومها لم يرَ سوى نورة وهي ترقص وجدائلها السوداء تتطاير ملء المكان، وخفق قلبه كان أعلى من قرع الطبول… وقف وصاح في الراقصين:

– أشتي نورة..

توقف قرع الطبول، وتوقفت حركة الراقصين، وخيم الصمت ثقيلاً للحظة، دارت العيون نحو نورة، لم تتحمل نورة حصار العيون المفاجئ لها، غمرها خجل شديد، وهربت إلى داخل البيت، بعينيه.. أومأ أبوها لأمها أن تلحق بها، لتعود بعد بُرهة من الوقت معلنة نبأ البشارة:

– نورة حقك..

وهكذا اختطفها لنفسه من بين جموع الراقصين ليلة العيد، تفصله أيام قليلة لتشارك هذا العش البسيط جدًّا مع الفتاة التي خفق لها قلبه، لا يحتاج الأمر أكثر من أن يتبع خفق قلبه، يشعر بالأسف على الحبيبين اللذين تألما دون حتى أن يذوقا حلاوة السعي نحو الحب، خطوات يحفها الأمل وتصنعها الرغبة في اللقاء والبقاء معًا.

جمع القصاصات التي عاد بها، وقطع الأخشاب والمفكرتين في كيس “شوال” بُنّي كبير، وحزمها جيدًا ليبيعها في الصباح الباكر لصاحب الفرن الملاصق للبيت.

—-

المحوى: اسم يطلق على التجمعات السكانية للمهمشين في اليمن.

كاتبة يمنية.

   
 
إعلان

تعليقات