Accessibility links

ثورة اليمن: علي عبدالمغني وتنظيم الضباط الأحرار


إعلان
إعلان

“اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري:
لا يمكن النظر إلى ثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن، إلا باعتبارها منعطفًا تاريخيًّا في حياة شعب شهد تحولات في جميع مجالات حياته خلال التسع والخمسين سنة الماضية على ما يعانيه اليوم من ويلات حرب وحصار، وهو واقع لا يلغي ما أصاب هذه الثورة العظيمة من نكوص تسبب في تعثرها عن تحقيق التطور المنشود، كما تسبب هذا النكوص في دخول البلد في دوائر من الصراع… لكن ذلك النكوص لم يكن نتاج الثورة، بل نتاج مَن أدار عجلة الدولة عقب الثورة جراء تخلي ضباط الثورة الشباب عن تسلّم مسؤولية السلطة… في هذه السطور نحاول استعراض فصل من فصول الإعداد للثورة على أيدي مجموعة من الضباط الشباب، الذين تطلعوا إلى آفاق الحرية؛ فقدموا أرواحهم قرابين أمام المستقبل المنشود.

نحاول هنا تقديم صورة عن تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، وواحد من أبرز قياداته، أو بالأصح بطل الثورة ومحركها، وهو الملازم علي عبدالمغني الذي ترأس اللجنة القيادية للتنظيم في مرحلة الإعداد للثورة وتفجيرها… مع إضاءة لأبرز خطأ وقعت فيه الثورة بلسان بعض ضباطها.

لا خلاف في أنّ الملازم علي عبدالمغني (1937-1962) كان هو أبرز القادة الفعليين لثورة 26 سبتمبر 1962 (شمال اليمن)، وأحد أهم مهندسيها، وممن أسهم في بلورة أهدافها، وكتب البيان الأول لإعلان قيام الجمهورية العربية اليمنية، ولعله – أيضًا – كان مَن أوائل شهداء تنظيم الضباط الأحرار عقب قيام الثورة؛ حيث استُشهد خلال قيادته لحملة عسكرية ضد الحشود الملكية في منطقة حريب بمأرب/ شرق البلاد، في أكتوبر/ تشرين أول 1962م. 

ولد علي محمد حسين عبدالمغني في قرية بيت الرداعي بمديرية السدة محافظة إب عام 1937 (هناك خلاف في تحديد تاريخ مولده)، وفي السنة الرابعة من عُمره توفّي والده.. تلقى تعليمه الأول بكُتاب قرية نيعان، وختم القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره.

في السنة التاسعة من عمره انتقل علي عبدالمغني إلى صنعاء لمواصلة دراسته، والتحق بمدرسة الأيتام، وقررت لجنة الاختبار بالمدرسة إلحاقه بالصف الرابع متجاوزًا ثلاثة فصول.  

بعد أن أنهى دراسته بمدرسة الأيتام بتفوق انتقل إلى المدرسة المتوسطة، وهناك درس ثلاث سنوات لينتقل إلى المدرسة الثانوية، ودرس فيها أربع سنوات وتخرّج بتفوق، وحاز المرتبة الأولى.  

 في عام 1958 التحق علي عبدالمغني بالكلية الحربية في الدفعة الثانية، والمعروفة باسم دفعة علي عبدالمغني، وتخرج منها متفوقًا بالمرتبة الأولى، وفي حفل التخرج ألقى كلمة الخريجين. 

 «بعد التخرج في الكلية الحربية التحق علي عبدالمغني بمدرسة الأسلحة بمعية عدد من الضباط من خريجي كليات الحربية والطيران والشرطة، ومنهم محمد مطهر زيد، ناجي الأشول، حمود بيدر، عبدالله عبدالسلام صبرة، أحمد الرحومي، صالح الأشول، سعد الأشول، علي علي الحيمي، عبده قائد الكهالي، أحمد مطهر زيد، أحمد الكبسي… وغيرهم»

«عقب تخرجه في مدرسة الأسلحة، تتحدث مصادر عن قيامه بزيارة لوالدته، وكان ذلك في العام 1961م، وتفقد أهله في قرى بيت الرداعي والمسقاة وحريه، وأقام عند والدته يومان، وحرصًا أن تصلها أخبار سيئة عنه أثناء غيابه صارحها بأنه مُقدِم على عمل كبير هو وزملاؤه، وأوصاها بأن تدعو له، وكانت تُلح عليه أن يخبرها بما هو مقبل عليه لتطمئن؛ فسألها عن رأيها في بيت حميد الدين، فأجابته بفطرتها النقية “ما يقومون به لا يُرضي الله ولا رسوله”؛ فابتسم وشعر بفرح عميق، وقال لها :”والله يا أمي ما تسمعي عن ابنك إلا ما يسُر خاطرك، أما بيت حميد الدين فوالله ما يذبحوني، ولن أموت إلا موتة الأبطال”».

مما سبق نفهم أن علي عبدالمغني كان ضمن الضباط الذين تدارسوا إمكانات تأسيس تنظيم الضباط الأحرار، الذي تبلور في ديسمبر 1961م، وذلك بعد مشاورات كثيرة ولد من خلالها هذا التنظيم، الذي بقي سريًّا بقاعدته التأسيسية وقيادته الجماعية وخلاياه الأساسية والفرعية وفروعه في المحافظات… وتلك السرّية كانت ضرورة ككل الحركات التحررية في العالم.

عقب ثلاثة اجتماعات لمؤسسي التنظيم نوقش خلالها كل ما يتعلق بتأسيس التنظيم… تم وضع نص القسَم للأعضاء المتواجدين يومها، وتم تأدية القسم، وتم الاتفاق على أن يشكّل الحاضرون – حينها – القاعدة التأسيسية، التي بدورها تختار لجنة قيادية للتنظيم يتم تغييرها، وفق اللائحة الداخلية للتنظيم، كل ثلاثة أشهر بانتخاب من القاعدة التأسيسية من خلال الاقتراع الحر. ويشكل أعضاء القاعدة التأسيسية خلايا أساسية، وخلايا فرعية يشكلها أعضاء الخلايا الأساسية وفقًا للشروط والضوابط الأمنية. 

وفاز في الانتخاب الأول للجنة القيادية كل من: ملازم صالح الأشول، ملازم أحمد الرحومي، ملازم علي الجائفي، ملازم حمود بيدر، ملازم ناجي علي الأشول. وفي أحد اجتماعات اللجنة القيادية قررت الإسراع في تشكيل فرع التنظيم في تعز، وأخذ موافقة علي عبدالمغني ومحمد مطهر زيد على شفرة التراسل بين صنعاء وتعز، وأخذ وجهتَي نظرهما؛ ولهذا أوفدت اللجنة القيادية إليهما والضباط الأحرار في تعز ناجي علي الأشول لإخبارهم بما تم، وضرورة الإسراع في تشكيل فرع للتنظيم في تعز على أن يُعتبر فرع التنظيم في تعز جزءًا من القاعدة التأسيسية… وتكوّن فرع التنظيم من علي عبدالمغني، محمد مطهر زيد، عبدالله عبدالسلام صبرة، محمد حاتم  الخاوي، سعد علي الأشول، علي علي الفقيه، علي محمد الضبعي، أحمد علي الوشلي، وأحمد الكبسي.. ونتيجة للشكوك التي بدأت تحوم حول علي عبدالمغني ومحمد مطهر زيد في تعز، فقد تقرر عودتهما إلى مقر عملهما في صنعاء بعد أن تم تشكيل فرع التنظيم في تعز بنجاح، وكان وصولهما صنعاء في 17 شعبان 1382 هـ/ يناير – كانون الثاني 1962م. 

وكان علي عبدالمغني يتمتع بثقة كبيرة من أعضاء التنظيم، ولذا طلبت اللجنة القيادية منه ومحمد مطهر زيد حضور اجتماع القاعدة التأسيسية باعتبارهما من المؤسسين، لكنهما اشترطا لحضورهما إقرار ذلك من القاعدة التأسيسية، وهو ما تم باعتبارهما عضوين مؤسسَين في القاعدة التأسيسية، عملاً بنصوص اللائحة الداخلية للتنظيم التي تنص أن فرع تعز جزء من القاعدة التأسيسية للتنظيم. وفي الخامس من شوال1381هـ عقدت اللجنة التأسيسية اجتماعًا استثنائيًّا بمناسبة انتهاء فترة عمل اللجنة القيادية، وذلك لإعادة انتخابها الثاني، وجرى الانتخاب بالطريقة الأولى نفسها، وفاز في الانتخاب كل من الرئيس (الرئيس كانت تطلق على من يحمل رتبة عقيد) عبداللطيف ضيف الله، ملازم أحمد الرحومي، ملازم ناجي الأشول، ملازم علي عبدالمغني، ملازم صالح الأشول. واقترح علي عبدالمغني اختيار سكرتير للجنة يتولى تسجيل محاضر الاجتماعات، وتم اختيار الملازم محمد مطهر زيد. واستمرت اللجنة القيادية تواصل اجتماعاتها. كما كان أعضاؤها     يواصلون جهودهم لإنشاء الخلايا الأساسية التي تشكّل بدورها خلايا فرعية. كما تم تأسيس فرع التنظيم في الحديدة بقيادة الرئيس الشهيد محمد الرعيني، عضو القاعدة التأسيسية، وتم ذلك في يوليو/ تموز 1962م، وواصل الفرع نشاطه السياسي بسرية تامة من حيث التوسع في الخلايا، وكسب الأنصار من الشباب العسكري والمدني. وعند قيام الثورة في 26 سبتمبر/ أيلول 1962م قام الفرع بواجباته خير قيام.

 في الانتخاب الثالث للجنة القيادية للتنظيم الذي تم في 5 محرم 1382هـ/ فبراير – شباط 1962م، عقدت القاعدة التأسيسية اجتماعها، وتم انتخاب لجنة قيادية كان منها للمرة الثانية الملازم علي عبدالمغني، وتشكلت اللجنة من: الرئيس عبداللطيف ضيف الله، ملازم صالح الأشول، ملازم حمود بيدر، ملازم علي عبدالمغني، وملازم أحمد الرحومي… وسقط في هذا الانتخاب ملازم ناجي الأشول، وكلفته اللجنة بأن يكون أمينًا للسر إلى جانب أمانة الصندوق.

 وفي الانتخاب الرابع للجنة القيادية في 5 ربيع الثاني 1382م عقدت القاعدة التأسيسية اجتماعها بمنزل أحمد الرحومي، وتم انتخاب اللجنة القيادية من: ملازم علي عبدالمغني، الرئيس عبداللطيف ضيف الله، ملازم أحمد الرحومي، ملازم صالح الأشول، ملازم محمد مطهر زيد.. وسقط في هذا الانتخاب حمود بيدر.
الجدير بالإشارة أن لائحة التنظيم وضعت شروطًا وضوابط أمنية صارمة في من ينطبق عليه عضوية التنظيم، بما فيها شروط تشكيل الخلايا. وفي هذا الاجتماع تم انتخاب علي عبدالمغني رئيسًا للجنة القيادية للتنظيم، وهو الموقع الذي ظل يشغله خلال الفترة الأخيرة للتحضير للثورة وتفجيرها، وحتى استشهاده.

على صعيد تشكيل الخلايا كان قد تم تشكيل عددٍ من الخلايا الأساسية، والتي بدور أعضائها شكلوا خلايا فرعية، وقد كان كل عضو في الخلية لا يعرف غيره في الخلايا الأخرى، والخلايا لا تعرف أيّ معلومات عن قيادة التنظيم.

وكانت قيادة التنظيم تواصل مهامها في التحضير للثورة وصولاً إلى الإعداد لأهداف الثورة، وقد  تم استعراض أفكار الأهداف في اجتماع اللجنة القيادية بتاريخ 20 صفر 1382، وتم مناقشة التصورات التي وضعها التنظيم وتدارستها اللجنة من كلّ الجوانب ليتم من خلالها استخلاص أهداف الثورة، وتم الاتفاق على أن يصوغ كل عضو بمفرده الأهداف، ومن ثم مناقشتها في الاجتماع المقبل، وهو ما تم، وبعد تدارسها تم تحديد الأهداف، والتي خضعت للتطوير حتى خرجت بصيغتها النهائية، وثمة مسودة بخط يد علي عبدالمغني مكتوب فيها أهداف الثورة، والمسودة محفوظة في المركز الوطني للوثائق بصنعاء.

كان من الضروري أن يكون تنظيم الضباط الأحرار مستقلاً عن بقية تنظيمات عمل الأحرار، التي كانت مكشوفة للسلطات الإمامية، وبما يحفظ سرية عمل التنظيم الذي لم يكن معزولاً عن بقية التجمعات الأخرى… وعندما استطاع التنظيم أن يسيطر على معظم الأسلحة في الجيش تزايد اهتمام الآخرين به، بما في ذلك جماعة الأحرار القدامى، والتي هي أقدم الجماعات نشأة وانتشارًا ورغبة في التعاون مع العناصر العسكرية الشابة، لذلك كلفت الجماعة المقدم عبدالله جزيلان للتواصل مع الضباط الشباب، وفي أواخر صفر عام 1382 استدعى جزيلان الملازم ناجي علي الأشول إلى مكتبه، وحاول أن يفهم منه شيئًا عن زملائه الضباط… وبعد مد وجزر أوفد التنظيم بعض أعضائه للقاء عدد من جماعة الأحرار، وهم عبدالسلام صبرة وحسن العمري، وكان في مقدمة المفاوضين من التنظيم الملازم علي عبدالمغني.. تواصلت اللقاءات لمناقشة حيثيات تفجير الثورة وتفاصيل كثيرة، بما فيها التسليح.

كما أقر التنظيم فتح حوار مماثل بين فرع التنظيم في تعز وعناصر أخرى من جماعة الأحرار هناك… وبدأ التنظيم يدعم بشكلٍ كبير فرعه في تعز باعتبارها مركز السلطة حينها… وخلال استعداد التنظيم لتحريك بعض القطع العسكرية إلى تعز لتفجير الثورة من هناك فوجئ الجميع بموت الإمام أحمد في 19 سبتمبر/ أيلول 1962م؛ فانقلب الموقف رأسًا على عقب، وتحول الاهتمام إلى مدينة صنعاء مقر الإمام الجديد، وخلال أسبوع أُعد كل شيء لتفجير الثورة. ولم تكن صلات التنظيم مقتصرة على جماعة الأحرار وحسب، بل كان له صِلات مباشرة بالكثير من العناصر الوطنية الشابة في كل من صنعاء وتعز والحديدة وحجة، بما فيهم أولئك الذين كانوا يعملون في الإذاعة، وفي مقدمتها عبدالعزيز المقالح وعبدالوهاب جحاف وعبدالله حمران وصالح المجاهد، وغيرهم ممن كانوا في مركز الهاتف، وكان الشهيد الملازم على عبدالمغني مسؤولاً عن الاتصال والتنسيق معهم.

أما على صعيد علاقة تنظيم الضباط الأحرار بالخارج، فالتنظيم لم يكن معزولاً عمّا يجري في الساحة العربية من تطورات، فقد كان يتابع باهتمام تطورات الأحداث، ويولي أهمية كبيرة للحدث في مصر باعتبارها الدولة العربية الأقدر على مساندة العمل الوطني في اليمن… لهذا فقد قرر التنظيم  الاتصال بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر من خلال القائم بأعمال سفارة مصر بصنعاء، وكان حينها القائم بالأعمال هو محمد عبدالواحد، وذلك لمعرفة ما يمكن أن تقدمه الثورة المصرية من عون فيما لو قامت ثورة في اليمن في ظل ما يشكله الاستعمار البريطاني في الجنوب من تحدٍّ كبير للثورة. وقام الشهيد الملازم علي عبدالمغني بالاتصال مباشرة بالقائم بأعمال سفارة مصر بصنعاء، وإشعاره بشكل أو بآخر بأن هناك جهدًا وطنيًّا في سبيل التخلص من الحكم الإمامي، وقد تحتاج اليمن إلى عون من مصر… وطلب منه القائم بالأعمال المصري أن يتصل به بعد يومين حتى يتمكن من الاتصال بالقاهرة، وعندما اتصل علي عبدالمغني مرة ثانية بالقائم بالأعمال فوجئ بأن مصر تطلب تفصيلات أكثر عن طبيعة العمل الوطني وتوجهه وأهدافه… فرجع علي عبدالمغني للتنظيم، حيث جرت مناقشات انتهت بضرورة عقد اجتماع للقاعدة التأسيسية للتنظيم، وعرض الموضوع عليها، وخلال اجتماع القاعدة التأسيسية تبيَّن للمجتمعين أن مصر لن تقدم أيّ عون إلا بعد أن تتأكد من وجود العمل الوطني في اليمن وقدرته على التغيير، وتم اتخاذ قرار بالموافقة على أن تفصح اللجنة القيادية للتنظيم للقاهرة أن هناك تنظيمًا عسكريًّا وطنيًّا يعمل على تفجير الثورة ضد الحكم الإمامي، وله ستة أهداف، وتسليم نسخة منها للقائم بالأعمال المصري دون الخوض في أي شيء آخر… والتقى الملازم علي عبدالمغني بالقائم بالأعمال المصري، وأبلغه بما تمت الموافقة عليه، وطلب من القائم بالأعمال الحصول على رد القاهرة في أقرب وقت… وبعد أيام تلقى تنظيم الضباط رد القاهرة، وقد جاء فيه: “نفّذوا، وسأفي بكل التزاماتي” جمال عبدالناصر.

وعودة للخلايا الأساسية في التنظيم، فقد كان كل عضو في القاعدة التأسيسية قد أسهم في تشكُّل خلية أو خلايا، وتشكلت الخلايا التي أنشأها الشهيد الملازم علي عبدالمغني من: 

أ- محمد الشراعي، علي بن علي الحيمي، يحيى الحياسي. 

ب- محمد النهمي، ناجي المسبلي، محمد حسن السراجي، محمد الوشلي.

ج- علي عبدالوهاب، محمد غالب الشامي، عبدالوارث عبدالمغني.

 

أحداث تفجير الثورة 

بعد وفاة الإمام أحمد حميد الدين استعدّت كل القوى الوطنية المتلهفة ليوم الخلاص من حكم الإمامة الجائر، وخاصة تنظيم الضباط الأحرار والقوى الوطنية المتصلة به والمنسقة معه، وما إن تم دفن الإمام أحمد حتى بدأ التركيز على متابعة مواقف الإمام الجديد، وخلال أسبوع حدثت تطورات كثيرة كان من أبرزها على صعيد السلطة هو اتفاق العناصر الحسنية التي كانت مناوئة للبدر على الالتفاف حوله وإظهار تأييدهم له كخليفة على اليمن بعد أبيه. وبينما كان الشعب اليمني ينتظر من الإمام الجديد في أول خطاب له أن يُحدد معالم حياة جديدة، إذا به يؤكد بأنه سيسير على نهج آبائه وأجداده، وهدد بأنه سيضرب بيد من حديد كل مَن تسوّل له نفسه مناهضة الحكم الجديد. وهو الخطاب الذي أحدث رد فعل واسع في أوساط العناصر الوطنية، وفي مقدمتها تنظيم الضباط الأحرار؛ مما أدى إلى التعجيل في تفجير الثورة.

ولما كان الموقف يتطلب شخصية عسكرية بارزة لقيادة حركة الثورة توجهت الأنظار إلى شخصيتين من أصحاب الرتب العسكرية العليا، وهما: الزعيم حمود الجائفي، والزعيم عبدالله السلال (زعيم تساوي رتبة عميد حاليًّا) وقد تم الاتصال بالجائفي، وعرض الفكرة عليه، لكنه رفض واعتذر، وكان له تحفظاته… ولما كان الموقف يتطلب السرعة فقد تحولت الأنظار إلى الزعيم عبدالله السلال. وفي إحدى جلسات القاعدة التأسيسية للتنظيم خلال أسبوع الاستنفار أقرت القاعدة قبول المقدم عبدالله جزيلان عضوًا شرفيًّا في التنظيم على أن لا يُشعر بذلك إلا في اليوم الذي سيتم فيه تفجير الثورة… وفي اجتماع آخر للجنة القيادية تم التوصل إلى ترجيح الزعيم عبدالله السلال لقيادة الثورة، وأوكل للقاضي عبدالسلام صبرة التواصل مع الزعيم السلال وإبلاغه بما تم التوصل إليه على أن يعود بردٍّ واضح في أقرب وقت… وأبدى السلال موافقته على قبول الاختيار.

في الساعة الثالثة من بعد ظهر الأربعاء 25 سبتمبر فُرضت حالة الطوارئ في الكلية الحربية ومدرسة الأسلحة، وصدرت توجيهات من القيادة بتواجد جميع الضباط، وتم استدعاء من كانوا في منازلهم، ومنع خروج أيّ ضابط من الكلية إلا مَن كُلف من قِبل القيادة بمهمة. وانصرف الجميع كلٌّ إلى سلاحه لاستكمال التجهيزات النهائية وتعبئة الدبابات والسيارات المدرعة بالوقود. وكان لا بد من التأكد أولاً من خروج الإمام البدر إلى ديوان المواجهة في قصر البشائر، وقد كلف كل من الملازم عبدالله عبدالسلام صبرة والملازم صالح الأشول والملازم صالح الرحبي والنقيب حسين السكري لمعرفة ما إذا كان قد خرج إلى ديوان المواجهة أم لا، وقد تم اللقاء بالأخ السكري، وأكد أن الإمام البدر قد خرج ليرأس اجتماعًا لمجلس وزرائه، وفورًا عاد الأشول وصبرة والرحبي إلى مقر القيادة، وأبلغوا الضباط بأن الأمور تسير في قصر البشائـر على ما يُرام، وكان الهدف هو أن يتولى السكري إطلاق الرصاص على الإمام البدر، ويكون إطلاق الرصاص إشارة الانطلاق، لكن ذلك لم يحصل. وفي الساعة السابعة مساءً قررت القيادة التي كان فيها الملازم علي عبدالمغني وغيره من الضباط أن تبعث الملازم عبدالله عبدالسلام صبرة وبرفقته الملازم صالح الرحبي إلى الأخ النقيب حسين السكري من جديد للتأكد من سلامة الموقف، وبالتالي لمعرفة ما إذا كان السكري في حاجة إلى مَن يساعده في تنفيذ المهمة، وبالفعل تم الاتصال بالسكري الذي رفض أيّ مساعدة باعتباره وهب روحه لله والوطن؛ فعاد الرحبي وصبرة إلى مقر القيادة لنقل الموقف إلى الإخوة الضباط.

وبعد أن تحدد موعد التحرك في ليلة 26 سبتمبر، وفي الساعة الثامنة أمرت القيادة بفتح مستودعات الذخائر والأسلحة وتوزيعها على الضباط، كما تم نقل الذخائر إلى موقع الدبابات… وبعد أن تم إنجاز مهمة نقل الذخائر تقرر عقد اجتماع بمقر القيادة في الكلية الحربية في الساعة التاسعة مساء، وقد حضر الاجتماع جميع الخلايا التنظيمية المتواجدة في صنعاء، كما حضر الاجتماع العديد من الضباط والثوار الذين لم يكونوا التحقوا بالتنظيم بعد، وعدد من ضباط الشرف وأبناء المشايخ، وكان الغرض من الاجتماع هو إعلان آخر التوجيهات وتوزيع المهام على الأسلحة المختلفة حسب الخطة… ومن ثم تحرك الجميع كل إلى موقعه بانتظار أوامر التحرك.

وفي الساعة العاشرة ليلاً، وبعد أن تأكد للقيادة تعثًّر مهمة النقيب حسين السكري، أصدرت أوامرها بالهجوم في الساعة الحادية عشرة ليلاً، وانطلق الثوار بجرأة عظيمة ليصنعوا يومًا مجيدًا وخالدًا هو يوم السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، محققين بذلك منعطفًا تاريخيًّا يقود الإنسان اليمني إلى حياة جديدة، حياة العزة والكرامة.

لا يتسع المكان هنا لاستعراض كيفية تنفيذ خطة تفجير الثورة؛ فقد تم توزيع الضباط إلى مجموعات نفذت الأعمال الموكلة إليها، وكان الملازم الشهيد علي عبدالمغني رئيس اللجنة القيادية للتنظيم التي كانت تقود الثورة مع عدد من الضباط في مقر القيادة، والتي كانت تدير العمليات في صنعاء وتعز والحديدة وحجة وغيرها. وكان قد صاغ علي عبدالمغني البيان الأول للثورة الذي تم بثه من إذاعة صنعاء.

وعيّن الملازم علي عبدالمغني عضوًا فيما عُرف بـمجلس القيادة، وهو مجلس قيادة الثورة، الذي شُكل من: المشير عبدالله السلال، وعبدالله جزيلان، والأستاذ عبدالسلام صبرة، ومحمد إسماعيل المنصور، وغيرهم.

لكن ما يجب معرفته أن معظم الضباط المؤسسين لتنظيم الضباط الأحرار آثروا الابتعاد عن التنافس على المواقع القيادية للدولة فيما بعد الثورة، ورأوا أنفسهم في النزول إلى الميدان للمشاركة في دحر الحشود الملكية… وفي هذا السياق قاد الملازم علي عبدالمغني حملة عسكرية إلى منطقة حريب في مأرب لمواجهة الحشود الملكية، والتي بدأت تستعد لإعلان الحسن بن يحيى حميد الدين إمامًا بمساعدة خارجية، وقد استشهد علي عبدالمغني هناك في أكتوبر/ تشرين أول 1962م.

يتفق ما سردناه مع ما ورد في كتاب “أسرار ووثائق الثورة اليمنية”… وهو ما يمكن للقارئ أن يجد له سردًا آخر في كتب أخرى، ويعد هذا السرد أكثرها قربًا من الحقيقة.


أين أخطأت الثورة؟

في ما يتعلق بالخطأ الذي وقعت فيه الثورة، ينوه عبدالوهاب جحاف في كتاب “ثورة 26 سبتمبر – دراسات ووشهادات للتاريخ)”، بإشكالية تمثلت «في مثالية الضباط الأحرار (الثوار)، وترفّعهم عن تسلّم السلطة بعد تفجير الثورة، وخروجهم من صنعاء لمطاردة الإمام المخلوع في السهول والجبال»… كل هذا أسهم، في اعتقاده، في خلق ظروف ما بعد الثورة. 

وهو ما أكده أحمد الرحومي، أحد مؤسسي التنظيم، قائلاً: «إن أكبر خطأ ارتكبته قيادة الثورة ممثلة في قيادة تنظيم الضباط الأحرار يتلخص في ترك القيادة والتخلي عن زمام السيطرة على الوضع بعد نجاح الثورة لعناصر أخرى». وأضاف: «لقد تركت غالبية القيادة الإشراف على قيادة الدولة، وذهبت إلى محاور القتال للإشراف على القتال ضد قوى الثورة المضادة في المناطق النائية. وفي الحقيقة لم يكن في حساباتنا وتصوراتنا الاستيلاء على السلطة بعد تفجير الثورة، إذ قررنا ترك المسؤولية في اتخاذ القرارات للقيادات التي كانت مرصودة في ذهننا، والتي كان لها رصيد وطني وتاريخي كالسلال والزبيري والنعمان والجائفي، وقد اتفقنا قبل الثورة أن نعود إلى الثكنات بعد قيام الثورة، وتسليم القيادة لهذه الزعامات الكبيرة، ولم نكن نتوقع أن توجد خلافات بين الزعامات اليمنية التي سلمناها قيادة الثورة والدولة، وقد أدت الخلافات بين هذه الزعامات إلى إضعاف مسار الثورة. ومن هنا أقول إن تخلي قيادة الضباط الأحرار عن مسؤولية السلطة كان له أسوأ العواقب على مسار الثورة».

———————-

المصادر:

  • أسرار ووثائق الثورة اليمنية – إعداد لجنة من تنظيم الضباط الأحرار – الطبعة الرابعة 2002 – مؤسسة العفيف الثقافية.  
  • ثورة 26 سبتمبر (دارسات وشهادات للتاريخ) – مركز الدراسات والبحوث اليمني – صنعاء – 2013.
   
 
إعلان

تعليقات