Accessibility links

تقديس القديم في الفكر العربي ودوره في إعاقة التطور


إعلان
إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

قُدِّر للفكر العربي الإسلامي أن يختط طريقًا واحدًا، ويسلك سبيلاً واحدًا لا يعرف سواه، ولا يحتكم لغيره. ولا يذهبنّ بك الظن أن ذلك حصرًا على عصور الانحطاط فحسب، وإنما نجده في البدايات المبكرة من تاريخ الإسلام.

يحكي المؤرخون أنه لمّا طعن عمر بن الخطاب، وتيقن قرب أجله، جعل أمر الحكم شورى بين ستة نفر، كلهم قرشيون، ليس فيهم من الأنصار، الجناح الثاني في الإسلام، رجل واحد، وأوصى أن يجتمعوا ويختاروا من يرونه مناسبًا في غضون ثلاثة أيام، وهم عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.

فلما دُفن عمر، جاء عبدالرحمن بن عوف إلى علي بن أبي طالب، فقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله، وسنة نبيه، وسنة الشيخين؟!

قال: أما كتاب الله وسنة نبيه، فنعم. وأما سنة الشيخين، فأجتهد رأيي. فجاء إلى عثمان فقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله، وسنة نبيه، وسنة الشيخين، قال: اللهم نعم، فبايعه عبدالرحمن بن عوف، وبايعه الجماعة ورضوا به.

إن كلام عبدالرحمن بن عوف على كتاب الله وسنة نبيه قد يكون مفهومًا، لكن غير المفهوم أن يجعل عبدالرحمن بن عوف من بشرين يصيبان ويخطئان معيارًا حاكمًا على كل العقول الموجودة في ذلك العصر من خيار المهاجرين والأنصار، وإهدار لتلك العقول في سبيل أن تكون مجرد ظل تابع، ونسخة مكرورة لشخصين يقعان ضمن جماعة كبيرة لها وزنها ودورها في الإسلام.

ولو أخذنا المسألة بلغة سياسيينا اليوم، لوجدنا أن عبدالرحمن بن عوف أراد من علي أن يتخلى عن برنامجه الانتخابي الخاص به، ليكون طبقًا لبرنامج من سبقوه، لا يحيد عنه قِيد شعرة. وهنا يحضرني كلام الفيلسوف الفرنسي: “إذا صادفك اثنان يتفقان في كل شيء، فاعلم أن أحدهما لا لزمة له”.

إن سلطة القديم، وعدم القبول بالفكر المخالف للسائد، عكسَ نفسه في سائر مناحي الحياة.

لنأتِ، على سبيل المثال، على مجال المعتقدات، الذي لم تغب السلطة عنه، رغم حساسيته الشديدة، فالمعتقدات محلها القلوب، ويدين بها الناس بناءً على قناعاتهم، أو موروثاتهم التي ورثوها من أسلافهم، وهي، كما قال الأول، يصعبُ تغييرها بعدما عاش عليها المرء من عمره دهرًا.

إن أول ما يواجهنا في ذلك هو «الاعتقاد القادري»، الذي جمعه الخليفة القادر العباسي (393هـ ـ 422هـ)، وأُخرج أيام ابنه القائم (422هـ ـ 467هـ).

وقد قام المؤرخ ابن الجوزي في تاريخه «المنتظم»، بسرده كاملاً، وذكر أن بعض العلماء وضعوا خطوطهم عليه إقرارًا له، ورضًا به. وبالاطلاع عليه نعرف أنه يمثّل رأيًا واحدًا لطائفة وفئة بعينها.

وفي مقدمة هذا البيان النص على أن من خالفه فقد فسق وكفر، ولا يغيب على القارئ عند قراءته أن أكثر بنوده مما اختلف فيه المسلمون قديمًا وحديثًا.

وفي أثنائه مسألة كون القرآن كلام الله، وينص أن من خالف ذلك، فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة، ومن المعلوم أن المعتزلة يذهبون إلى خلاف هذا الرأي.

إن مما يثير العجب أيضًا أن في بعض بنوده: أنه لا يقال في معاوية إلا خيرًا. لتعلم أن الطغاة طريقتهم واحدة، يسند بعضهم بعضًا، ويقوي بعضهم سياسة بعض، رغم ما جرى بين العباسيين والأمويين من حروب ودماء، حتى لقد تتبع العباسيون الأمويين في قبورهم فنبشوها.

وفي مجال النحو والتفسير، نعرض لمسألة حيرت النحاة والمفسرين، وهي قراءة جمهور القراء ما عدا أبا عمرو، وهو قوله تعالى حكايةً عن سحرة فرعون عن موسى وهارون: (إن هذان لساحران).

ومحل الإشكال في هذه الآية أن (إنَّ) تنصب المبتدأ، فيكون اسمها، وهو (هذان) وكان حقه أن يكون (هذين)؛ لأن المثنى ينصب بالياء، وترفع (إن) الخبر، وهو (لساحران).

يقول المفسر القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» عن هذه المسألة: “قال أبو جعفر النحاس: وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية، فقال: إن شئت أجبتك بجواب النحويين، وإن شئت أجبتك بقولي، فقلت: بقولك فقال: سألني إسماعيل بن إسحاق عنها، فقلت: القول عندي أنه لما كان يقال (هذا) في موضع الرفع، والنصب، والخفض على حال واحدة، وكانت التثنية يجب ألا يغير لها الواحد، أجريت التثنية مجرى الواحدة.

فقال: ما أحسن هذا لو تقدمك أحدٌ بالقول به، حتى يؤنس به. قال ابن كيسان: فقلت له: فيقول القاضي به، حتى يؤنس به، فتبسم”.

لقد كان القاضي إسماعيل يريد من ابن كيسان سلفًا سبق وأنْ تبنى هذا الرأي، وإلا فسيكون هذا الرأي، مرذولاً غير مقنع، ولا متلقىً بالقبول، حتى وإن صدر عن أحد النحاة المعتبرين، ممن شهد لمكانته في علم النحو أبو بكر بن مجاهد، فقال: إنه أنحى من المبرد وثعلب.

وقول ابن كيسان وجوابه ينم على ذكاء بالغ، فابن كيسان يعلم أن السلطة متمثلة في شخص (القاضي) ذي الأحكام النافذة، لو تبنت هذا الرأي، لكان له رواج، كما يُعلم من حال الدول وقدرتها على فرض المذاهب والآراء التي تتبناها.

تقديس القديم في مجال الأدب والشعر:

وكذلك كان الأمر في مجال الشعر والأدب، حيث نجد سطوة القديم حاضرة بقوة، فحالت دون الإبداع، وحدّت من الابتكار والتجديد، فقد أريد للعقول أن تسير في فلك سبق أن خُطَّ لها، لا تخرج عنه ولا تميل.

يقول القاضي الجرجاني في كتابه «الوساطة بين المتنبي وخصومه»: “ما أكثر مَنْ ترى وتسمع من حفّاظ اللغة، ومن جِلّة الرواة، من يلهج بعيب المتأخرين، فإن أحدهم يُنشَد البيت فيستحسنه ويستجيده، ويعجَب منه ويختاره، فإذا نُسِب إلى بعض أهل عصره، وشعراء زمانه، كذّب نفسه، ونَقض قوله، ورأى تلك الغضاضة أهون محْمَلاً، وأقل مرْزأة من تسليم فضيلة لمُحدَث، والإقرار بالإحسان لمولّد.

حُكي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: أنشدتُ الأصمعي:

هلْ إلى نظرَةٍ إليْكَ سَبيلُ … فيُبَلّ الصّدَى ويُشْفى الغَليلُ

إنّ ما قلّ منْك يكْثُرُ عندي … وكثيرٌ ممّنْ تحِبُّ القَليلُ

فقال: والله هذا الدّيباجُ الخُسرَوانيّ، لمنْ تنشدني؟! فقلت: إنهما لليلتهما، فقال: لا جَرم والله إنّ أثر التكلّف فيهما ظاهر!

وعن ابن الأعرابي في أبيات أبي تمام في الرّوض نحوٌ من هذا. وله نظائر مشهورة تُحْكى عن الأصمعي ومَنْ بعده”.

أما صاحب الأغاني، فينقل عن الأصمعي أنه قال حين أُنشِد هذا البيت: “هذا الديباج الخسرواني، والوشي الإسكندراني: لمن هذه؟ فقلت له: إنه ابن ليلته. فتبينت الحسرة في وجهه، وقال أفسدته أفسدته. أما إن التوليد فيه لبين”.

ويتحدث القاضي الجرجاني في كتابه أيضًا هذا عن تكلف النحويين في الاحتجاج لقدماء الشعراء، وتمحل المعاذير لهم حتى عندما يخطئون ويلحنون، فيقول: “وتبيّنتَ ما راموه في ذلك من المَرامي البعيدة، وارتكبوا لأجله من المراكب الصعبة، التي يشهد القلب أن المحرّك لها، والباعث عليها شدة إعظام المتقدم، والكلَفُ بنُصرة ما سبق إليه الاعتقاد، وألِفته النفس”.

ولنقف قليلاً عند لفظ «مولد» التي تحدث عنها القاضي الجرجاني، ونبز بها الأصمعي أبيات الموصلي. فالمولد كما في «تاج العروس»، للمرتضى الزبيدي: “هو ما أَحدثه المولدون الذين لا يحتجّ بأَلفاظهم. والفرق بينه وبين المَصنوع، أن المصنوع يُوردُه صاحبه على أنه عربي فصيح، وهذا بخلافه”.

وينقل صاحب «تاج العروس» عن «مختصر العين»، للزُّبيدي: “أن المولد من الكلام المُحْدَث”.

وإذا ما رجعنا إلى أبيات الموصلي لم نجد فيها – فيما يظهر لنا – ما ليس بعربي، فالألفاظ وعمود الشعر، والأسلوب كلها عربية، لكن لا ذنب لهذا الشعر إلا أنه شعر معاصر، ليس بضارب في القدم، يعود لأزمان امرئ القيس، أو لبيد، أو زهير بن أبي سلمى.

إن رفض «المُحدث»، وكل محدثة بدعة – كما يقولون، أو «الحديث»، هي المعضلة التي أصابت الفكر العربي في مقتل، ومنعته من التطور والنماء.

فتعظيم القديم، وتقديس الأسلاف – أصابوا أم أخطأوا، أحسنوا أم أساؤوا – أصاب الفكر العربي بالتبلد والغباء، والسذاجة والسطحية، ومنعه من التحليق عاليًا في ذُرا الإبداع.

يُروَى عن عبدالله بن المبارك، وهو خير مثال يصور هذه الأزمة، حينما سئل: “أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان، أم عمر بن عبدالعزيز؟، فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفضل من عمر بألف مرة.. صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية: ربنا ولك الحمد، فما بعد هذا؟!!”.

فما على معاوية وغير معاوية، من أشباهه وأضرابه، إلا أن يصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول بعده: «ربنا لك الحمد»، ثم لا يضره بعد ذلك ما فعل من القبائح، وارتكب من الجرائم، وزيادة على ذلك، فإنه ينال الأفضلية والمزية على شخص كعمر بن عبدالعزيز في علمه وصلاحه وعدله وتقواه.

هذا هو المعيار الذي يسلمون به، ويحتكمون إليه، أما قيم العدل والخير والعمل الصالح، فلا وزن لها ولا قيمة لها عندهم، إذا ما قورنت بالتدين الفارغ، والأقوال الخالية عن الصدق. 

وأخيرًا، لعل إحدى الإضاءات التي نجدها في تاريخنا هي قول المعري – رحمه الله:

إني وإن كنت الأخير زمانه … لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ

ويأتي بعده حجة الإسلام الغزالي حين قال: “إن مما أضر بالعلم قولهم: ما ترك المتقدم للمتأخر شيئًا”.

* كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات