Accessibility links

إعلان

ذكريات عقلان
أكثر ما يطربه ويترنم به كلمة “تاكس”…..

يبدأ صباحه باكرًا جدًّا، لا ينفلق الصبح إلا وقد لمّ متاعه، ولملم ذكريات الأمس الشبيهة بأحداث المستقبل لديه.. 

حياته التاكس هي مصدر قوتِه وقوِّته.

هو اليوم كسائر أيامه يصحو، يصلي، يرتشف شيئًا من القهوة “القشر” ويهرول إلى حبيبته “التاكس” يدفئها، وأحيانًا كثيرة يقبلها في ذلكم الصباح، سيما إذا كان أمسه جيدًا معها. 

يا الله اليوم رضاك،،، 

استهلاليته الصباحية.

الراكب الأول: مشوار للفرزة.

يقل الراكب، يتفحص لبسه وشنطته، ويبدأ برمي تلك الأسئلة إلى أين، ولماذا… 

يعرف من الراكب أنه ينوي السفر إلى عدن، ومن ثم إلى القاهرة. القاهرة تعني أنه ذهب للعلاج. 

لكنه وحيد، ويبدو بصحة جيدة، يستفزه فضوله: 

ــ مرض وإلا عمل؟؟ 

بيد أن الراكب يتحلى بصمت مطبق، وكأنه لم يطق ذلك السائق، حاول أن يثنيه عن صمته فلم يستطع. 

وصلا، أعطاه حسابه، قبّل ذلك المبلغ\، وألقاه في أحضان خزانة في التاكس.

يسمع صوتًا ضعيفًا ينادي بأغنيته “تاكس”، فدائمًا ما يلقي بأسماعه نحو المارّة، ونظراته تترامى بين ذا وذاك علّ أحدهم يناديه. 

تاكس: 

امرأة تتجاوز الخمسين عامًا تحمل عُدة، وتهم بركوب التاكس، يصاحب ركوبها زفرة، تنهيدةٌ وكأنما لخصت وجع عمر بأكمله.

السائق كعادته يسأل لمَ التنهد، فتجيبه: 

جور الزمان يا ابني.. ثم تحكي له قصتها…

“أعمل في محل بيع الخبز والملوج وكل المعجنات البلدية، أعمل فيها الملوج، حتى الساعة العاشرة أعود لأحفادي، ومعي قليل من ذلك المحل، ملوج وغيره. 

وفي المساء أعمل في إحدى قاعات الأفراح والمناسبات، أعود إليهم مجددًا محملةً بالكثير من التعب والهمّ، والقليل من الزاد والمال. 

يتأثر كثيرًا بها، تلمع عيناه بدمع خفيف، ينوي حينها أن يبدأ يومه بخير، فيعفيها من الأجرة.

تترجل عن السيارة، فيلمح أطفالاً دون العاشرة يتوسلون لسائقي الباصات أن يقلّوهم دون أجرة..

لم تكن عيناه نشفت من الدمع بعد فقرر أن يثني الخير ودعا أولئكم الأطفال. 

ركبوا ثلاثتهم وكلٌّ منهم يتأبط مشروعه، أحدهم قارورة ماء وصابون وخرقة بالية، والآخر مناديل، وآخرهم محارم. 

بدأ بهجومه المعتاد: كم أعماركم، ولِمَ تعملون، ولا تتعلمون..؟؟

أحدهم أجاب وأفاض، والآخر اقتضب وأزاح برأسه ورمى بنظراته إلى الطريق، والآخر تنهد ليلخص ما قاله صديقاه بحرف واحد. 

أنزلهم حيثما أرادوا، وبدأ الجميع برحلة البحث عن لقمة العيش. 

راكب بعد آخر، ومع كل راكب يُثقل السائق بحكاياتهم يفرضونها عليه، أو يرمي هو بنفسه بين تعرجاتها..

يوقف التاكس هذه المرة رجل وامرأته، هي سواد حالك لا يُرى منها إلا رفرفات من أهداب صاغها الرحمن بأجمل ما يمكن.. 

يجلس بجانبه، بينما هي في الخلف، يمسك تلفونه ويبدأ بالتفاعل معه، ساعة يبتسم، وساعة يرتبك، وهي توزع نظراتها ما بين السائق وزوجها.. 

لم يكن المشوار طويلاً، لكنه أحس بثقله وثقلهما.. صمْت الزوجين الذي يحمل الحكاية الأهم والأكبر من بين حكاياته في السواقة.. 

زوجين كل منهما يحمل اسم الآخر، ولكل منهم قلب له وحده..

تذكر حينها زوجته وهمّ بالاتصال بها، يسألها عن أحوالها وعن المنزل والأطفال، وما إان ردت عليه زوجته، حتى رمته بأسهم من الأسئلة، ولِمَ اتصلت، وكيف وأنت عادةً لا تذكرنا.. غرزت الكثير في صدره، فرماها بنبلة واحدة، وأقفل تلفونه.. وأحس بالندم على فعلته.

توقف أمام مركز صحي، ففكر أن يركن سيارته ليرتاح قليلاً، وقد يأتي راكب إليه من المركز دونما عناء.

انتظر وقتًا غير قليل، خرجت من ذلكم المركز عائلة، من رجل وامرأة وطفلين، أحدهما مريض.

ركبت العائلة في الكرسي الخلفي، بما فيها الرجل، خلاف عادة الرجال اليمنيين.

بدت الألفة بينهم، جميعهم مبتسم، الأب يلهو مع أطفاله، بينما الأم تنظر بوجل لطفلها المريض، إلا أن الأب يواسيها ويخفف عنها، لم يدرِ السائق حينها، من الذي انتابه من تلكم العائلة، أيفرح معهم أو يحزن لأنه لم يملك زمام الفرح بين عائلته. 

راكب يتلوه آخر، كل منهم يحط شيئًا من ثقله على السائق، أو ربما هو من يقحم نفسه، راكب يبهجه، وآخر يعكر مزاجه، وكله في ميزان الحصيلة التي سيعود بها إلى المنزل.

آثر يومها أن يقضي يومه خارج المنزل، مع سيارته وركابه.

بعد صلاة العشاء، أنهكته المشاوير والركاب، سيعود إلى منزله ليرتاح.

وفي طريقه يوقفه متسول متوسط العمر، عليه ثياب رثة وملامح جميلة تتوزع في محيّاه، ذلك المحيّا المليء بغبار وعلامات لبعض جروح، وابتسامة رضا.

فكر أن يذهب عنه، إلا أن النفس غير الأمارة بالسوء حثته أن يختم يومه بخير كما بدأه.

ركب المتسول التاكس وفي يده كيس أسود صغير مثقل بالعملة المعدنية.

تحايل السائق على المتسول ليعطيه العملات المعدنية مقابل العملة الورقية، فضولٌ منه ليعرف كم يجني هذا المتسول. 

وبين أخذ وعطاء في حديثهما، أدرك السائق كم يجني هذا المتسول في يومه، إنه يجني أكثر منه، كيسه وجيوبه ملأى بالنقود، كل هذا والابتسامة التي في محياه لا تفارقه.

فكر السائق كثيرًا، ليتني أعرف التسول، ثم استعاذ بالله، وقرر العودة إلى منزله.

عاد وفي عقله الكثير كعادته، إلا أنّ شخصيات ركابه اليوم أثقلته أكثر.

دخل منزله، فاستقبلته زوجته والأطفال، أطفاله استقبلوه بمرح، ومن ثم استأنفوا لعبهم، بينما الزوجة بدأت بالإسهاب عمّا كان اليوم، وما أتعبها، لومها وعتابها، شكواها من أطفالها، وما حصل معها عند جارتها.

لم يكن معها على الإطلاق بينما هي تتحدث، دخل غرفته ليرتاح، وصفق الباب وراءه ليستعد لحكايا الغد.

   
 
إعلان

تعليقات