Accessibility links

إعلان

عبدالباري طاهر*

هناك شبه كبير بين السودان واليمن في شدة تعقد الأوضاع، وعسر الفهم لمجريات الصراع، وفهم اتجاه الرياح فيهما، والتقلبات الفجائية والفاجعة في حالات كاثرة.

الزائر التركي لليمن يقول: يا داخلاً إلى اليمن، لا تقعدن، لا تخرجن، قانونها لا يُقرأن، لا يُفهمن، لا يُكتبن. كثير من الدبلوماسيين الأجانب يشكون من أن اليمن مصدر حيرة وارتباك لهم، فتقاريرهم عن الحالة في البلاد لا تثبت على حال، فما هو مؤكد اليوم، يكون وهمًا في اليوم الثاني.

الباحث حيدر إبراهيم علي يشير في مبحث له بعنوان “السودان إلى أين؟”: “يجمع المهتمون بالشأن السوداني على أنه بلد شديد التعقيد، وعصي على الفهم والتنبؤ؛ بحكم التناقضات، والمفارقات التي لازمته منذ النشأة”.

ويشير: “بقي السودان أسير الثنائية: الحديث، والتقليدي المبثوثة في مكونات الواقع”، ويرى أن التحدي الأكبر الذي يواجه السودان هو بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحقق الوحدة الوطنية بإرادة عقلانية للتنوع الثقافي، مع تحقيق تنمية منتجة ومتساوية”. (المستقبل العربي، عدد 423).

ومشكلة اليمن الشمالي منذ الاستقلال 1918، وحركة 1948، هو بناء دولة الشورى الإسلامية، ومنذ 1962 الدولة الجمهورية، ودولة الوحدة.

اليمن، رغم الهمود حد الموت، والجمود القاتل، يشهد تفجرات مباغتة تدهش العالم. فعشرات من الضابط الصغار، وبعض مئات من الجيش الحديث، ينقضون ليلة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 على عرش الإمامة المقدس؛ فيصنعون حدثًا من أهم أحداث الأمة والعالم والعصر.

قبيل فجر الـ 13 من يونيو 1964، كان كبار مشايخ الضمان: عبدالله بن حسين الأحمر، وسنان أبو لحوم، وأحمد علي المطري، ونعمان قايد بن راجح، ومحمد علي عثمان، وأحمد عبد ربه العواضي، يعتقدون أنهم أوتاد اليمن، وحصونها المنيعة. يتحرك ضباط محدودو العدد، يقودهم ابن قاضي ضعيف النسب في الجيش، ولا حسب له في القبيلة، ويحدث دويًّا وتغييرًا وإصلاحات باتجاه بناء الدولة المدنية الحديثة، ويقصي المشايخ، ويفرض عليهم الانزواء في قبائلهم أو منازلهم، ولم يتخلصوا منه إلا بالاغتيال بتخطيط سعودي وغربي.

اعتقد علي عبدالله صالح الذي حكم اليمن طيلة 33 عامًا أنه سيورث الحكم لأبنائه وإلى الأبد. عندما صرخ شباب الربيع العربي في وجهه: ارحل! قال لهم: من يرحل؟!

كان يعتقد أن إزاحته أصعب من زحزحة شمسان وعيبان، ورغم هذه الأحداث الداهشة، إلا أن الأوضاع المتوارثة في اليمن منذ القدم ما تزال حاضرة، وما يزال مطلب دولة العصر الحديث منذ 1948 قائمًا أيضًا.

في السودان تعتبر الدولة ناقصة، أما في اليمن، فالدولة مندغمة بالقبيلة، وأحيانًا أقل شأنًا من القبيلة، أو متماهية معها، وصورة من صورها، كما في عهد صالح.

في العام 1881، أعلن محمد أحمد المهدي نفسه إمامًا مهديًّا منتظرًا، سيملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جورًا، وتصور أنه بأتباعه البدو (الأنصار) سيحكم العالم، وأنه المنذور لإنقاذ البشرية، وقدم الأنصار أنموذجًا راعبًا لا تزال آثاره متوارثة.

فبعد قرن من سقوط دولة المهدي، يدعو الضابط القومي سابقًا جعفر محمد النميري نفسه إمامًا، وبايعه حسن الترابي – زعيم الجبهة الإسلامية القومية، ويتقاطر دعاة الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون) من مختلف البلدان العربية للمبايعة، ويملأ الإمام الجديد السودان جورًا وفجورًا، ويؤسس، والجبهة الإسلامية القومية، لعالمية إسلامية جديدة، ويسن قوانين لا تقل بشاعة وقسوة عما عمله الأنصار في خاتمة القرن التاسع عشر، فخلال بضعة أعوام في ظل قوانين سبتمبر، طُبِّقت أحكام الجلد على وثنيين عراة، وقُطعت الأيدي، وما طبق من العقوبات الجائرة والإعدامات خلال بضع سنوات أكثر مما طبق في العربية السعودية باسم الشريعة الإسلامية خلال ربع قرن.

في السودان البلد الفسيفسائي القائم الحكم فيه على شرعية الانتفاضة منذ أكتوبر 1964، مثَّلت الانقلابات العسكرية قطعًا للسياق الديمقراطي. فالأحزاب السياسية الطائفية تستقوي بالعسكر للانتصار على بعضها، أو للحرب على الجنوب كتعبير عن عجزها عن بناء الدولة الديمقراطية – المطلب الأساس للشعب السوداني.

وفي اليمن، كان الاحتكام إلى السلاح، وتسعير الحروب، سواء بين الشمال والجنوب، أو داخل كل قطر على حدة؛ فالحرب هي الوسيلة الوحيدة للحكم، وغالبًا ما كان الصراع بين الشطرين لحسم الصراع الداخلي هنا أو هناك، والصراع الممتد منذ انقلاب علي عبدالله صالح ضد الوحدة السلمية والديمقراطية، وحروب صعدة الستة، يفيد منها كل أطراف الحرب، ويعمل على فرض الأمر الواقع، وإرغام الشعب والمناطق على الرضوخ. فموضوعيًا، لكل طرف مصلحة في بقاء الآخر؛ لأنه مبرر وجوده.

في السودان تكررت لعبة العسكر والسياسيين.. يشير الباحث حيدر إبراهيم إلى عجز تحالف الأحزاب الذي ضم 17 حزبًا عن تحريك مظاهرة واحدة؛ ما جعل النظام يسخر منها.

تحرك الشباب في 23 يوليو سبتمبر 2013، ونزلوا إلى الشارع بعفوية. قُتل في هذه الانتفاضة ما يزيد عن 210 قتلى. كانت هذه الانتفاضة الأساس للانتفاضة ضد البشير، والتي قادها تجمع المهنيين، وإعلان نداء الحرية.

تحالف البرهان وحميدتي والكباشي – قادة جيش البشير؛ للإطاحة بسيدهم، واحتواء الاننفاضة، وتجييرها للانقلاب العسكري الموجه ضدًّا على الانتفاضة، وتحالفوا مع بعض من نداء الحرية والتغيير (المجلس المركزي). وفي حين استمرت الانتفاضة، وتصاعدت، انقلب قادة الجيش ضد حلفائهم من نداء الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، وفرضوا الإقامة الجبرية على رئيس الوزراء حمدوك، واعتُقِلَ الوزراء. انضمت المجموعة المعزولة مجددًا للانتفاضة التي شكلت منسقيات اللجان الشعبية المغروسة في المدن والقرى السودانية؛ فوجد قادة الانقلاب استحالة قهر الانتفاضة بعد قتل ما يزيد عن مئتين وعشرين.

كرر العسكريون – تحت وطأة العجز عن قهر الانتفاضة، وحل مشكلات الخبز والخدمات العامة، وتحت ضغط الوحدة الإفريقية، والأمم المتحدة، والإيجاد، والرباعية الدولية – وأعادوا اللعبة مع مجموعة نداء الحرية (المجلس المركزي)، وأحزاب أخرى؛ للتوقيع على اتفاق إطاري أخطر ما فيه عدم حل المشكلات الأساسية التي هي السبب الرئيس في الانتفاضة:

  • العدالة الانتقالية.
  • إصلاح جهاز الأمن.
  • إصلاح القضاء.
  • وهيكلة الجيش، واحتفاظ العسكر بقرارهم.

فبدا الاتفاق الإطاري وكأنه مجرد صراع على الحكم؛ فتنازل العسكر للمجموعة، مع بقاء كل القضايا الأساسية معلقة.

أما في اليمن، فيدور الحديث عن مفاوضات تجري بين أنصار الله (الحوثيين)، وبين السعودية. تعتقد السعودية والإمارات (التحالف العربي) أنهما حققتا الانتصار في الحرب بتفكيك اليمن، وتمزيق نسيجها المجتمعي، وتحويلها إلى كنتونات متقاتلة، وقد استوليتا على بعض الجزر والموانئ والمحافظات البعيدة عن الحرب.

خطورة هذا التفاوض أنه يجري بعيدًا عن أطراف يمنية عديدة. فقد شن التحالف العربي: العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومعهما أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا – الحرب بذريعة إعادة الشرعية، ومواجهة إيران، وحماية حدودها… إلخ، وبعد وضع اليمن تحت الفصل السابع، وبعد حرب ثمانية أعوام، أعادت السعودية صياغة الشرعية، ودخلت في حوار مباشر لاقتطاع بعض الموانئ والجزر المهمة في باب المندب، وسقطرة، والمهرة – المناطق البعيدة عن الحرب، وتريد خلق كيانات عديدة.

اتفاقية وزير العدل الإماراتي الأمنية والعسكرية تعني استمرار الحرب، ومواصلة تدمير اليمن، وفيها قدر من الاستهانة والسخرية بأتباعهم، وليس أمام اليمنيين – كل اليمنيين – إلا فتح أبواب الحوار والتفاهم، والنأي بأنفسهم ووطنهم عن الصراعات الإقليمية، والمطامع الاستعمارية، وتوحد الإرادة الوطنية.

* نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق.

   
 
إعلان

تعليقات