Accessibility links

إعلان

وجدي  الأهدل*

يتغنى اليمني بحب بلاده، ولكنه نادرًا ما يفعل شيئًا ليترجم هذا الحب إلى واقع عملي، مثل المساهمة في نهضة اليمن ماديًّا ومعنويًّا، ولعل المعنوي أكثر أهمية، لأنه البداية والسبيل التي تستقطب إليها المساهمات المادية.

ومن بين أكوام العشاق المزيفين لليمن، يبزغ عاشق حقيقي مُتيم بحب ترابها وشجرها وآثارها والإنسان البسيط الذي يعيش في جبالها وسهولها ووديانها، إنه الصحافي أحمد الأغبري الذي تخرج من كلية الإعلام بجامعة صنعاء، وتخصص في الصحافة الثقافية، وصدر له مؤخرًا كتاب “اليمن من الداخل” عن دار عناوين بوكس بالقاهرة.

يقع الكتاب في حوالي مئتي صفحة من القطع المتوسط، كل صفحة فيه ثمينة وجديرة بأن يحفظها اليمني في قلبه ككنز، وينقسم إلى خمسة فصول، وكل فصل يحوي عدة مقالات تنتمي إلى أدب الرحلة، وجاءت على النحو التالي:

الطريق الأولى جهة المدينة، وأدَّت به هذه الطريق إلى “إب.. ضحكة الطبيعة”، “اليمن.. من ثقب باب صنعاء”، “سوق الملح.. صنعاء الحقيقية!”، “الطيرمانة.. والساعة السليمانية”، “عدن.. الضاحكة بحزن”، “شبام حضرموت.. مدينة مختلفة”، “ثلاء.. مدينة من ألف ليلة وليلة”، “الهجرين.. حيث تسمع صوت التاريخ!”، “دمت.. مدينة البحيرات المعلقة”، “تريم.. بهاء المدينة الغناء”، “الطويلة.. فنان عمره ألف عام”.

الطريق الثانية جهة القرية، أخذته إلى “بيت بوس.. القرية/الحصن”، “حيد الجزيل.. لغة مختلفة حقًّا!”.

الطريق الثالثة، جهة المدرسة والقصر، أوصلته إلى “المدرسة العامرية.. عروس فن الزخرفة”، “قصر سيئون.. أبهة العمارة الطينية”، “دار الحجر.. قصر بروح قصيدة!”.

الطريق الرابعة، جهة الجزر والمحميات، طارت به إلى “سقطرى.. الطبيعة البكر”، “إنسان سقطرى.. حديث آخر”، “محمية عتمة.. زمردة خضراء”.

الطريق الخامسة، جهة الشارع، انتهت به إلى “شارع المطاعم.. منتهى الملتقى”.

بهذا الكتاب يؤكد أحمد الأغبري درايته التامة بفن كتابة أدب الرحلة، وهو فن لا يجيده إلا النزر اليسير من حملة الأقلام، مع الأخذ في الاعتبار أن الكتابة عن أماكن نألفها أكثر صعوبة من الكتابة عن أماكن جديدة لم تألفها العين، لأن القرب حجاب كما يقال، والألفة تبدد الدهشة، ومع ذلك استطاع الأغبري الإمساك بالمدهش والفريد في جغرافيا اليمن، والتقاط الأصيل والمعتق من فنون العمارة اليمنية، ونفخ روح الحياة في تاريخ الحصون والقلاع والمدن والأسواق والقرى التي تصارع للبقاء في بلد مضطرب عوامل الدمار فيه أكثر من عوامل البناء.

يشرح المؤلف دواعي إصدار الكتاب بقوله:

“كان لابد من إصدار هذا الكتاب، وفي هذا التوقيت تحديدًا، كوثيقة تعيد اكتشاف اليمن من خلال رحلات جُبنا بها مختارات من مناطقه، وهي رحلات انطلقت من الجغرافيا، وتعاملت مع التاريخ، واعتمدت أدب الرحلة للوقوف على المكان شاهدًا على هوية الإنسان في متن شخصية اليمن”.

رحلات كُتبت بلغة رفيعة، جزلة، والأهم أنها نابعة من قلب محب، فنلاحظ أن كل كلمة مُختارة بعناية، وبليغة في التعبير عن الافتتان الروحي بالجمال الذي تلاحظه عين الكاتب وتشعر به كل خلية في جلده.

واحدة من أهم المقالات التي يزخر بها الكتاب هي مقالة “إنسان سقطرى.. حديث آخر”، وفيها إحاطة بأوضاع السقطريين ولغتهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويدق الكاتب جرس الإنذار بشأن العديد من المزايا البيئية والثقافية والإنسانية لجزيرة سقطرى، واحتمالية تلاشي هذه المزايا التي تميزها عن سائر بقاع الأرض، وفي المقدمة اللغة السقطرية التي تحتضر، ويوشك الجيل الجديد من أبناء الجزيرة أن يتخلى عنها تدريجيًّا.

وفي ثنايا المقالات إشارات إلى دور العنصر البشري في الحفاظ على إرث الأجداد وهبات الطبيعة أو العكس.. وإن كان يغلب الإهمال والتفريط وجهل القيمة، لولا اهتمام الجهات الدولية المختصة، التي مولت ورعت حماية المدن التاريخية كصنعاء القديمة وتريم وزبيد من العبث والهدم والمسخ، ولفتت الانتباه إلى أهمية المحميات الطبيعية، كموئل للحيوانات الموشكة على الانقراض، والأشجار والنباتات البرية النادرة.

أحيانًا يضطر أصحاب الأرض إلى التجاوز والجور، كما حدث في محمية عتمة التي تحوي الغابة الوحيدة في اليمن، فقد اضطرتهم الحرب وانعدام الغاز المنزلي إلى تحطيب الأشجار في المحمية، مما يهدد بزوال ليس فقط الأشجار المعمرة منذ مئات السنين، ولكن يهدد بتدمير الموطن الآمن للحيوانات البرية والطيور، حسب وصف مؤلف الكتاب.

أشار الأغبري إلى أن الروائي الألماني غونتر غراس قد خلبت لبه العمارة الطينية في مدينة شبام عندما زارها، فأعلن عن تبرعه بمبلغ مالي لتأسيس مدرسة تتبنى تعليم الأساليب القديمة في البناء بواسطة مواد مأخوذة من البيئة المحلية لا غير.. مرة أخرى ندرك أن الأجانب أكثر وعيًا بما نملكه من تقاليد عريقة في البناء والعمران، وأكثر انتباهًا إلى الأعاجيب التي اجترحها أجدادنا الأوائل.. ولم نسمع أن رجل أعمال يمني تبرع بشيء من ماله لدراسة وتدريس فنون العمارة اليمنية الأصلية، وبعث هذه الأساليب القديمة الناجعة الملائمة للبيئة إلى الاستخدام اليومي، وتخريج بنائين يتقنون العمارة الطينية الرخيصة جدًّا، فيساهم بهذه الطريقة في حل أزمة الإسكان في اليمن، وتوفير المساكن الرخيصة التكاليف للملايين من اليمنيين.. بيوت أنيقة ومتينة ومندمجة مع بيئتها المحلية.

كتاب “اليمن من الداخل” وثيقة مهمة عن اليمن الجميل الذي يمكن أن يكون أجمل، عن بلد عريق له قدم راسخة في التاريخ لكن حاضره متردٍّ، وسيكون حلقة ضعيفة من حلقات تاريخه المديد.. عن سحر الطبيعة في أرض تدور المعارك والفتن في أرجائها فلا يسع إنسان من خارجها الدنو منها والتمتع بمفاتنها.

الكتاب بمجمله يقول جملة واحدة: اليمن بلد فيه جمال مخبوء عن العيون، وردة محاطة بالأشواك، طفلة بريئة يتنازع على كفالتها الأقارب والأباعد.. وتحت الكلمات الزاهية الألوان صرخة خفية يطلقها الكاتب لا يسمعها إلا من كان مثله محبًّا حقيقيًّا لليمن، ومفادها توقفوا عن تخريب كل ما هو جميل في بلادي، كفوا عن تشويه وجه حبيبتي.

* كاتب وروائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات