Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

شيء غريب يحدث في اليابان: تقول الأخبار إن آلاف القراء يصطفون في طوابير أمام المكتبات لشراء روايات الكاتب هاروكي موراكامي، المبيعات تتجاوز ملايين النسخ، وهو أمر يثير الانتباه، وبالذات إذا علمنا أنه كاتب يسير عكس التيار، ويكتب روايات سميكة قد تربو على الألف صفحة!

وتكرر هذا المشهد في أوروبا، ووقعت عواصم الثقافة الغربية العريقة تحت سحر وتأثير هذه الموجة الروائية (الموراكامية).

رواية “رقص.. رقص.. رقص”(1) التي تحتاج إلى عشر ساعات على الأقل لقراءتها، وتتجاوز الخمسمائة صفحة، هي أدب روائي رفيع، تتمنى لو استمرت أكثر، لأنها رواية تضعك خارج الزمن، وفي قلب الجنة.

ذواقة الأدب حين يفتشون عن أعماله ويجدون واحدة من رواياته، فإنهم يعلمون أنهم قد وضعوا أيديهم على كنز، وعقب القراءة يفهمون لماذا كانت أعماله كنوزًا نفيسة لا تُقدر بثمن.

تبدأ رواية “رقص.. رقص.. رقص” بسرد عن شاب في الرابعة والثلاثين من عمره، يعمل كاتبًا بالقطعة لحساب المجلات النسائية ومجلات الموضة، يتعرف على شابة اسمها (كيكي) ويقضيان معًا أسبوعًا في فندق متواضع “الدولفين” ثم تختفي فجأة، ومن ثم يتغير مجرى حياته كليًّا.. وعبر حبكات متعددة متقنة الصنع بمهارة نعلم أن (كيكي) قد قُتلت، والشرطة نفسها لا تعلم شيئًا على الإطلاق عن الجريمة، لم يبلغ أحد عن اختفاء (كيكي) التي كانت تعمل بائعة هوى في نادٍ حصري لكبار الأغنياء والشخصيات، ولم تكن تحمل هوية شخصية، كما أن أحدًا لا يعلم اسمها الحقيقي، ولا أية معلومات عن عائلتها، لذلك عندما اختفت لم يتقدم أحد للإبلاغ عن اختفائها.

لكن شخصًا واحدًا في هذا العالم المشغول المزدحم افتقدها وظلت لها مكانة خاصة في قلبه.. إنه الكاتب الذي يعمل بالقطعة، وهو طيلة أربع سنوات ونصف ظل يسأل عنها ويتسقط أخبارها ويبحث عن أي خيط يوصله إليها، وفي نهاية الأمر يصل إلى الرجل الأخير الذي نامت معه ثم خنقها لتنام نومتها الأبدية.

عندما يواجهه بالاتهام، يعترف القاتل، وهو ممثل شهير وصديق للكاتب منذ أيام الدراسة الثانوية، بالجريمة ويحكي التفاصيل الكاملة لمقتل ودفن (كيكي).

كان من المستحيل على الشرطة أن تفكر فيه -أي الممثل – وحتى لو فكرت فيه فإنه كان محصنًا بشهرته الضخمة في اليابان وخارجها. عقب إدلائه باعترافه يُقدِم هذا الممثل الوسيم للغاية على الانتحار.

وعلينا أن نلاحظ هنا طريقة هاروكي موراكامي في بناء الحبكة البوليسية البالغة التعقيد والمراوغة، ما يذكرنا بأعمال أجاثا كريستي التي تعد قمة القمم في عالم الرواية البوليسية، مع فارق يحسب لصالح هاروكي موراكامي أن المحقق هنا في قضية القتل لم يكن يعلم أنه ببحثه عن صديقته كان يحقق في جريمة قتلها، أي أنه لم يكن يعلم ما هو قائم بصدده، ولا كانت عنده النية ولا التحضير المسبق للقيام بهذا الدور. لقد ساقته ظروفه الخاصة الشخصية، وحالة الفراغ العاطفي التي يعيشها إلى التعلق بذكرى فتاة ليل شاركته سريره أسبوعًا واحدًا، كما أنه لم يكن ينوي في نهاية المطاف إبلاغ الشرطة أو أي مخلوق بالحقيقة التي توصّل إليها، لقد كان القاتل الممثل (جوتاندا) صديقه الوحيد، وكان يرغب بشدة في الاحتفاظ به محاولًا إقناعه أنه لم يقتلها، أو أنه قتلها وهو في غير وعيه.. ورغم ذلك لم تفلح محاولات الكاتب، وذهب الممثل الذي تعشقه معظم المراهقات في اليابان إلى العدم..

“سألت جوتاندا: “لماذا قتلت كيكي؟” لم أكن أقصد أن أسأله. لقد انزلق مني السؤال. حدق فيّ مباشرة لوقت طويل. كانت الموجات داخل رأسي تدور وتدور، والآن أصبح صوت الموجة أعلى، ثم أخفض. كما لو أن الاتصال بالحقيقة كان يقترب ويتراجع. أتذكر أصابعه الناعمة وهي مضمومة بأناقة على المائدة. حينما كنت أفقد الاتصال بالواقع، كانت تبدو لي مثل تحفة فنية. حينئذ ابتسم ابتسامة هادئة. وكرر ببطء: “هل أنا قتلت كيكي؟”. قلت: “مجرد مزاح”. وقعت عينا جوتاندا على المائدة وأصابعه: “لا، هذه ليست مزحة. هذا أمر هام للغاية. يتعين عليّ حقًّا أن أفكر في ذلك. هل أنا قتلت كيكي؟ يتعين عليّ أن أمعن التفكير في ذلك بشكل جاد للغاية”. حملقت فيه. كان فمه مبتسمًا، لكن عينيه لم تكونا كذلك. سألته: “هل ثمة سبب يجعلك تقتل كيكي؟ هل ثمة سبب يجعلني أقتل كيكي؟ أنا نفسي لا أعرف. هل قتلت كيكي؟ ولماذا؟ حاولتُ الضحك: “مهلًا، وكيف لي أن أعرف؟ هل قتلت كيكي أم لم تقتلها؟”، قلت لك إنني أفكر في الأمر. هل أنا قتلت كيكي، أم لم أقتلها؟”(2).

ونلاحظ من المقطع السابق أن لحظة التنوير الأهم في الرواية لم تكن سوى جلسة ودية بين صديقين، كان من المفترض أن تمضي بسلام، سؤال واعتراف ثم يواصل الصديقان حياتهما كالمعتاد.. ولكن القدر شاء أمرًا آخر.. وفي هذا المسار السردي يخالف هاروكي موراكامي العرف السائد في كتابة الرواية البوليسية، ويتجنب عامدًا تلك النمطية المستهلكة في صياغة حبكة الرواية البوليسية. وربما كان هذا هو السر في إقبال القراء من شتى أرجاء المعمورة على قراءة روايات هاروكي موراكامي، لكونها ترتقي بالرواية البوليسية من أعمال من الدرجة الثانية إلى مصاف الروايات الجادة ذات القيمة الفنية العالية.

لا تنتمي رواية “رقص.. رقص.. رقص” إلى الواقعية السحرية الشائعة في آداب أميركا اللاتينية والتي سرى مفعولها في آداب العالم أجمع، ولكنها تنتمي إلى تيار أدبي لم يُسمّى بعد، أفضّل أن أسميه “الواقعية الباراسيكولوجية”، ريثما يعثر النقاد على مسمىً له. وملامح هذا التيار الأدبي بارزة في أدب هاروكي موراكامي، حيث التركيز على أحداث فوق طبيعية، وجعلها محورًا في الحبكة، أو بالأحرى في الحبكات الحلزونية المُدوخة التي يبتكرها قلم هاروكي موراكامي وخياله الخصب.

ويعتبر بطل الرواية – الكاتب بالقطعة – شخصًا لديه قدرات خاصة، مثل الخروج من العالم الواقعي إلى العالم الموازي الغارق في الظلمات، وقدرات على التنبؤ بالمستقبل، وقراءة الإشارات، وتلقي رسائل من عالم الأحلام. وهناك عدة شخصيات تمتلك تلك الهالة من القدرات الخاصة، يقوم كائن ليس من عالمنا بربطها ببعضها، وتوفير مصادفات الحياة القدرية لتلتقي وتتصل. هناك الفتاة المراهقة (يوكي) التي تمتلك حاسة رؤيوية، وهي التي رأت بعينها الروحية جريمة القتل التي نفذها الممثل جوتاندا وأخبرت الكاتب بتلك الرؤية الخارقة، وهناك أيضًا شخصية موظفة الاستقبال في الفندق (يوميوشي) التي ذهبت عدة مرات إلى العالم الخفي وحملت معها معلومات مهمة.

تحفل الرواية بالظواهر الخارقة الباراسيكولوجية، وهي ظواهر تؤكد بعض الكتب والمصادر أنها موجودة، وفي تراثنا الإسلامي نُبذ عنها، ومنها مقولة عمر بن الخطاب: “يا سارية الجبل الجبل” وهو يخطب الجمعة، فلما سُئل عن ذلك قال إنه رأى جيش المسلمين في العراق وقد أحاط به الكفار فصاح صيحته تلك. ثم تبين فيما بعد أن سارية -وهو قائد جيش المسلمين – قد سمع صوتًا يقول له: “يا سارية الجبل الجبل” فاستجاب للصوت ونفذ الأمر فأنقذ المسلمين من الهزيمة.

والجديد هنا هو أن عبقرية هاروكي موراكامي قد مكنته من توظيف هذه الظواهر الباراسيكولوجية المعقدة والمتباينة كعنصر فني جذاب جدًّا داخل المتن الروائي، كما أنها ساعدته على توسيع أفق الخيال الروائي والتقدم عدة خطوات إلى درب جديد لم يسبقه إليه أحد.

—————————-

1- رقص.. رقص.. رقص: هاروكي موراكامي، رواية، ترجمة أنور الشامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 2011.

2- المصدر السابق، ص 457 – 458.

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات