Accessibility links

إعلان

عبدالباري طاهر*

إسهامات المفكر العربي الكبير فيصل دراج في الحياة الفكرية والأدبية كبيرة، فهذا المناضل الفلسطيني المولود عام 1943 هُجِّر من وطنه بعد النكبة العربية مع عائلته، وتنقل من منطقة لأخرى، ليستقر أخيرًا في دمشق، وفيها أكمل دراسته الابتدائية والثانوية والجامعية، ثم حصل على الدكتوراه من جامعة تولوز في فرنسا.
إسهاماته كثيرة وعميقة في الفلسفة، وفي النقد الأدبي، وفي نقد النقد، ونقد الأعمال الفكرية.. اهتم كثيرًا بنقد الرواية، وأصدر في العام 1977 كُتيّبه “الدين والماركسية”.
أبحاثة الكاثرة عن الرواية منشورة في العديد من الصحف كالسفير، والمجلات كـ”شئون فلسطينية”، و”الحرية”، و”الهدف”، و”الكرمل”، و”قضايا فكرية”، و”النهج”، و”الطريق”.
يربط الدكتور بين تجربته الجامعية في فرنسا، وبين تجربته الحياتية في بيروت؛ ما جعله يرى مساحة الانزياح بين الشعار والممارسة، ولكن خروجه من بيروت، وحصار المقاومة الفلسطينية الذي لا ينتهي قد حذف من ذاكرته مفهوم اليقين؛ فبدا الواقع حرًّا وجديدًا، وبدت النظرية محدودة، وجاء زمن الأسئلة الكثيرة بعد أن ولى زمن الإجابات الجاهزة كقراءته.
فيصل دراج واحد من مثقفين عرب ومن مفكرين ماركسيين قلائل ممن درسوا الفكر الفلسفي والماركسي قراءة بحثية عميقة، فرسالته للدكتوراه عن “الاغتراب الديني في فلسفة كارل ماركس”، إضافة إلى أن معايشته السياسية اليومية في بيروت جعلته قادرًا، كما قال هو عن نفسه، على فهم ما ظن أنه فهمه أيام الدراسة؛ إذ إن الاقتراب من العمل السياسي اليومي، كما يقول، خلع عن المفاهيم النظرية الكثير من الغبار والضباب، فبدت النظرية كما لو كانت بناءً طوباويًّا لا يجد مكانه في الواقع اليومي إلا قليلاً.. بدا له القول بأن النظرية لحظة داخلية في الممارسة مربكًا ومرتبكًا.
التعمق في دراسة الفكر الماركسي، والتعرف في فرنسا مرحلة الثورة الشبابية في سبعينيات القرن الماضي، وبروز تيارات الفكر والسياسة اليسارية، والتعرف والتعايش مع زعماء هذه الأفكار والاتجاهات، ثم رجوعه إلى بيروت أيضًا مع صعود المد القومي واليساري، وربما مروره السريع بالحزب الشيوعي الفلسطيني، كلها قد أهّلته لدراسة وتطور وتجديد النظرية حدّ التغيير، على حد تعبير المفكر والأديب اللبناني محمد دكروب.
من المفكرين الماركسيين العرب الذين استوعبوا الفكر الماركسي، وتجاوزوا جوانب كثيرة منه، ورفضوا بالمطلق مركزية المراحل الخمس ذات الطبيعة المركزية الأوروبية، كما قرأوا طبيعة التركيبة الطبقية لمجتمعاتهم المتسمة بميوعة الحدود الطبقية، وتداخُل البنى الاجتماعية، أحمد صادق سعد، وإلياس مرقص، وياسين الحافظ، ومنذ سبعينيات القرن الماضي برز مفكرون مهمون تعاملوا مع الماركسية كفلسفة لا علاقة لها بالعقيدة، منهم عبدالله العروي، وفيصل دراج، وأبو بكر السقاف، وياسين الحاج صالح، وعبدالسلام نور الدين، وفالح عبدالجبار.
ميزة المفكر فيصل دراج أنه في مقالة له بعنوان “الثقافة والطبقات الاجتماعية” رؤيته بأن: “إنتاج الثقافة الجديدة يتم دائمًا من خلال عملية الصراع مع الثقافة المسيطرة، وعملية نقدها ومهاجمتها، وفي حقل هذه الثقافة تتقدم الثقافة الجديدة بنقد مفاهيمها، وإيضاح تصوراتها، وتقوم أيضًا بخلخلة ومحاصرة معايير الثقافة المسيطرة”، ويعلق الأستاذ دكروب على مقولة دراج: “هذا صحيح تمامًا بقدر ما ينطوي على فهم مادي نيّر لعملية تكون الثقافة الجديدة في حقل الصراع الفكري والاجتماعي، ولكن أليس صحيحًا – أيضًا – القول بأن هذه المقولة نفسها تطال كذلك الثقافة الماركسية الجديدة؛ فقد تبين أن هذه الثقافة الماركسية الجديدة لا تعتبر جديدة فعلاً، ولا تتكامل أو تتجدد إلا من خلال عملية النقد والصراع مع الأشكال المسيطرة السلطوية من القوالب والمفاهيم والصياغات الماركسية الشائخة نفسها التي انقلبت في شيخوختها إلى نقيضها، ثم أليس صحيحًا اعتبار أن هذه الكتاب نفسه بفصوله السجالية الجادة يندرج في هذه الحركة نفسها من الصراع الفكري ضمن الماركسية؟” (الواقع والمثال، مساهمة في علاقات الأدب والسياسة، ومقدمة د. محمد دكروب، ص 9).
بدأت القراءة للمفكر والباحث فيصل من خلال مقالاته وأبحاثه في “السفير”، و”الحرية”، و”الهدف”، و”شئون فلسطينية”، ولاحقًا في “النهج”، و”قضايا فكرية”، الكتاب المجلة الذي أصدره أستاذ الجيل محمود أمين العالم، ومجلة “الكرمل”، الخمسة الأعداد الأولى، وأبحاث ودراسات فيصل دراج عميقة ومستنيرة تتجه بنقدها الحاد ضد الإرث الستاليني الوبيل في الفكر والأدب، كما أنه من أول وأهم من درس الواقعية، والواقعية الاشتراكية منذ سبعينيات القرن الماضي، والدكتور فيصل يخوض معارك فكرية وفلسفية وأدبية على عدة جبهات، فقد قرأ كتاب “في الثقافة المصرية” للعالمَين الجليلين عبدالعظيم أنيس، ومحمود أمين العالم، وهو الكتاب المكرس لانتقاد كتاب طه حسين “مستقبل الثقافة في مصر”.
أبحاث فيصل عن الكتاب الذي ربما يكون قد صدر في كتاب كما يُتَوقع تمثّل نقد النقد، وهو ما دأب عليه المفكر فيصل، وقد رد عليه الأستاذ محمود العالم، كما أشار إلى ذلك الدكتور في كتاب مجلة “قضايا فكرية”، يوليو 1995.
وانتقاد دراج لا يقف عند تخوم الانحرافات الستالينية في الفكر والنقد الأدبي الذي تجلى في الواقعية الاشتراكية التي نظَّرَ لها جدانوف، وتحولت إلى مقصلة ضد المبدعين والمجددين في غير بلد، كما أن نقده يطال كارل ماركس الشاب عندما حاول أن يتجاوز هيجل مستندًا إلى فلسفة فيورباخ، فإنه كان يتقهقر إلى الوراء، وهو يظن أنه يتقدم إلى الإمام.. (كتاب مجلة” قضايا فكرية”، في مبحث له بعنوان “النص والسياق في ولادة النقد الأدبي العربي”، ص 495).

وقد لاحظ أثناء إقامته في هنجاريا خلال الأعوام 84 – 86 أن البلد لا علاقة له بالاشتراكية الفعلية، بل ممارسات هجينة لا هي اشتراكية، ولا هي رأسمالية، وهو ما يذهب إليه سمير أمين في أبحاثه العديدة عن الاتحاد السوفيتي ومنظومته.
إصداراته عديدة، وأبحاثه كثيرة في الفلسفة، والأدب، والنقد، ونقد النقد، وكتابه المهم “الواقع والمثال” من أهم هذه الإصدارات.
تشارك وزميله الدكتور جمال باروت في تحرير كتاب “الأحزاب والحركات اليسارية”، وهو دراسة مهمة لمشروع نشأة الحزب السياسي وتطوره ومصائره في الوطن العربي في القرن العشرين، قرأته وسجلت بعض الملاحظات وأرسلتها للأخ علي ناصر محمد – رئيس المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، بواسطة العزيز السفير علي محسن حميد.

*نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق.

   
 
إعلان

تعليقات