Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

يعيش الإنسان في المدن العصرية وهو يظن أن الناس في خصام معه! ولكن هذا غير صحيح، إنه – أيّ هذا الإنسان – في خصام مع نفسه، وبالتالي مع الوجود المحيط به.

يقول المثل العربي “الناس وحوش حتى تتعارف”، وهو مثل دقيق للغاية لتفسير النمط النفسي السائد في المدن. فالناس الذين يعيشون في القرى والأرياف يعرفون بعضهم بعضًا وتزول الوحشية من نفوسهم، وحتى الساكن في وسطهم وهو ليس منهم يذوب فيهم، ويتخلص من المشاعر “العدائية” المولدة للغضب تجاه البيئة وما فيها من بشر وشجر وحجر.

وأما إنسان المدينة فإنه يعاني دون أن يدرك من تراكم الغضب في لا وعيه بسبب كونه محاطًا بكم هائل من الغرباء، وأن عليه أن يحمي نفسه باستمرار من الأشباح الغريبة التي لا يعرف عنها شيئًا.

في المدن المليونية يستحيل على الإنسان أن يعرف جميع سكانها، ومهما كان اجتماعيًا، فإن التوحش تجاه الآخرين سوف تبقى قائمة، وهي آلية دفاعية حتمية، إلا إذا بذل الإنسان جهدًا واعيًا للتخلص من هذه النزعة الدفاعية السلبية، وكف عن الغضب، وقرر أن يعيش في سلام مع نفسه وكل من حوله.

يولد إنسان المدينة ويحيا ويموت وهو غاضب! يأكل ويشرب ويتعلم ويلعب ويتزوج وينجب ويشيخ ويموت وهو في حالة من الغضب الأبدي الذي صار ظلًا لروحه وملازمًا لها حتى النفس الأخير.

أحدهم يلعب مباراة فإذا خسرها انتابه الغضب.. أليس الشعور المفترض هو السرور حتى ولو خسر؟! فمن أين أتى الغضب وهو للتو كان يلعب؟؟ الجواب هو أن الغضب موجود أصلًا ولكن خسارة اللعبة جعلت هذا الغضب المكبوت يطفو للسطح.

الانتحاري الذي يُفجر نفسه يموت وهو غاضب، إنه يموت وهو غاضب أشد الغضب، ولو أمكنه لفجر العالم كله، إنه غاضب من كل شيء، وأولًا وقبل أيّ شيء آخر هو غاضب من نفسه.. وطبعًا هو لا يعلم ذلك! ولو أنه سامح نفسه وكف عن غضبه عليها لما أقدم على فعل الانتحار، ولعاد إلى حياته الطبيعية ونفسه ملؤها السلام والمحبة لهذا الوجود الذي وجد نفسه فيه.

جميعنا متأذّون بطريقة أو بأخرى من الحياة في المدينة، فهذا الفيلسوف الألماني (كارل ماركس) انتابه الغضب من أوضاع العمال المزرية في مدن القرن التاسع عشر، فأصدر “البيان الشيوعي” مع مجموعة من رفاقه الغاضبين. وتاليًا امتد هذا الغضب ليشمل جميع أنحاء الكرة الأرضية، ويمكن القول إن القرن العشرين هو قرن الغضب بامتياز. ودليل ذلك النجاح الساحق الذي حققه اليسار في الشرق والغرب.

إن انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 الذي حيّر العالم، يمكن رده ببساطة إلى تلاشي الغضب من نفوس الشعوب والأمم التي كان يتكون منها الاتحاد السوفييتي ضد الأشباح التي كان النظام يحاول باستماتة أن يبقي شرارة الغضب مستعرة نحوها.

ما الذي يبقي اليسار حيًا في مناطق معينة من العالم دون غيرها؟ لدينا مثلًا كوبا ودول كثيرة من دول أمريكا اللاتينية. والسبب في نجاح اليسار وقدرته على البقاء هو الغضب، ومتى زال هذا الغضب فإن اليسار سوف يفقد شعبيته.

وبالمقاييس نفسها يمكن القول إن اليمين المتطرف الذي نشأ في البلدان العربية الإسلامية إنما نشأ بسبب الغضب. وهو أمر مفهوم في ظل نوعية الحياة والأفكار الشائعة في المدن المعاصرة. 

إن الإسلامي المتطرف هو نتيجة من نتائج (المدينة) و(التمدين السريع). ويبقى السؤال هو كيف نستطيع أن نسحب هذا الغضب من نفسه ونجعله إنسانًا سويًا، وأن يميل إلى الأخذ بنصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم حين أوصى رجلًا قائلًا له ثلاث مرات “لا تغضب”.

أعتقد أن عودة الإنسان إلى الطبيعة وحياة البساطة بعيدًا عن وباء المدن، قد يجعله في سلام مع نفسه ومع الناس ومع الكون الذي يحيا فيه.

إذا كان القرن العشرين هو قرن الهجرة الداخلية، أي هجرة البشر من الأرياف إلى المدن، فإنه من المتوقع أن تحدث في قرننا هذا هجرة عكسية، فيهاجر الناس من المدن إلى الأرياف، وربما لن نعجب إذا سمعنا عن مدن خاوية من السكان.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات