Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

لقد تكاثر المثقفون وقل الإنسانيون، وليس كل مثقف بمستحقٍ أن يُشار إليه بوصفه “مثقفًا إنسانيًّا”، فإن من المثقفين من لا يقل إجرامًا عن القتلة وقطّاع الطرق وكبار اللصوص، مع اختلاف في الوسيلة، إذ إنه يمارس إجرامه في حقل الكلمة.

كيف نُفرق بين المثقف الإنساني والمثقف الإجرامي؟.. يمكننا أن نعدد آلاف العلامات التي نستدل بها على هذا وذاك.

سأبدأ أولًا من مسألة الحرب، المثقف الإنساني يدعو إلى السلام، السلام الفوري دون لف أو دوران، وأما المثقف الإجرامي فهو ينفخ في كير الحرب، ويحرض على القتال، ولا تهمه الضحايا وسفك الدماء، فما يعنيه أن يتحقق هدفه، وينتصر حزبه، ويتغلب الطرف الذي يعمل لصالحه، فالحقيقة التي يحملها تأتي أولًا وثانيًا وثالثًا، وأما الإنسان فيقبع في آخر القائمة.

المثقف الإنساني إذا سمع عن اتفاق سلام بين دولتين، لنقل مثلًا بين السعودية وإيران، أو بين روسيا وأوكرانيا، فإنه سيفرح من أعماق قلبه، لأنه يأمل أن يعم السلام العالم كله، وأن يعيش البشر كإخوة على هذا الكوكب.

وأما المثقف الإجرامي، أو ذاك الذي يختبئ في أعماق نفسه ميل للجريمة والتواطؤ مع المجرمين، سوف تجده يصرخ محتجًا، ويندد غاضبًا، وينذر ويحذر، ويقول بملء فمه: المشاكل في هذا العالم لا تُحل بتوقيع بضعة أوراق، ولكن تُحل فقط عن طريق الدم، الدم، الدم، ويظل يردد هذا المطلب بصيغ خشنة وناعمة، صريحة ومواربة، ولكن كلها تشير إلى مثقف مصاص للدماء.

المثقف الإنساني لديه يقين أن طريق السلام يبدأ بالمصافحة والعناق والأقوال الحسنة والأفعال الحسنة، قال تعالى: “وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا” (سورة الحجرات)، ولم يقل “لتتحاربوا”، ولكن المثقف الإجرامي لديه رؤية مختلفة، إذ هو يرى أن طريق السلام يجب أن يُعَبَّد بالعظام والجماجم!

المثقف الإنساني لا يمكن أن يعتنق مبادئ تضر بالإنسان، أيّ إنسان، ولا يمكن أن يدعو إلى مبادئ فيها تمييز بين البشر، ولا بأيّ شكل من الأشكال.

المثقف الأدنى من مرتبة الإنسانية يحمل مبادئ تضع فروقًا بين البشر، إما بسبب العرق أو اللون أو الدين أو اللغة.

المثقف الإنساني يعلم أن السلام لصالح الفقراء، فقراء العالم أجمع، وأن الحرب لصالح الأغنياء، لصالح حفنة من المليارديرات الذين يمتلكون مصانع السلاح.

المثقف الإنساني يدرك أن انتهاء النزاعات وحلول حقبة طويلة من السلام، يؤدي بشكل تدريجي إلى تحسن أوضاع الطبقات الفقيرة، وزيادة قوة وحجم الطبقة الوسطى، وهي الطبقة الأساسية التي تقود نهضة البلدان وارتقاءها.

المثقف المنحط لا تعنيه الطبقة الفقيرة بالمرة، فهو مشغول بنفسه فقط، وتوفير أسباب السعادة والحياة المرفهة لنفسه وعائلته، وأما البقية فليذهبوا إلى الجحيم.

المثقف المنحط يعمل سواءً بقصد أو دون قصد، وهذا في كل الحالات لا يعفيه من المسؤولية، على زيادة ثروات الأغنياء، فهو مندمج بكل خبرته الثقافية وملكاته الكتابية في خدمة آلية التوحش الرأسمالي، حيث يزداد الأثرياء ثراءً، ويزداد الفقراء فقرًا في جميع جهات العالم.

المثقف الإنساني ينظر للسياسة كأداة لخدمة الإنسان، المثقف المسيس ينظر إلى الإنسان كأداة لخدمة السياسة.

المثقف الإنساني يرى أن الأديب والفنان والمفكر والعالم والمخترع أعلى درجة من السياسي، وأن هؤلاء قدموا خدمات جوهرية للإنسان، ولذلك يستحقون التبجيل والاحترام، وأن تستمع الجماهير لكلمتهم.

المثقف (الطبل) يرى أن السياسي هو أعلى من جميع الأدباء والعلماء، وأن السياسي هو المستحق وحده للتقديس والإجلال والاحترام، وأن على الجماهير الإنصات له بوقار وخشوع.

المثقف الإنساني يحترم زميله المثقف، وهو يرى أن رابطة الثقافة أقوى من الروابط الأخرى، كالانتماء المناطقي أو القبلي أو المذهبي وسواها من الانتماءات، فهو يراها أصغر وأدنى شأنًا من رابطة الثقافة وحب الكلمة والولع بالمعرفة.

وأما المثقف اللدود الشبيه بالطاغية الذي حفر الأخدود، فإنه لا يحترم زميله المثقف، ويُسفه آراءه، ويقلل من شأنه، وربما تمنى زواله!

العلامة الحاسمة للمثقف الذي يحمل أسفارًا هو أنه يُعادي المثقفين، يمقتهم، يكرههم، لسانه يتتبع عيوبهم ونقائصهم، يحتقرهم، يزدريهم، يتآمر عليهم، يسعى للإيقاع بهم، يحرض عليهم العوام، يقهقه ويضحك ملء شدقه إذا وقعوا في المآزق والمحن، يترقب الفرص لأذيتهم، ويرميهم بأصناف شتى من التهم، ويلومهم على فقر المجتمع، وعلى جهل المجتمع، وعلى تردي الأحوال الاقتصادية والسياسية للبلاد، ومن جهة أخرى يبرّئ السياسي ويعفيه من المسؤولية.. هذا النوع من المثقفين هو الذي يتقرب إلى السياسي بذمّ زميله المثقف، وهو النوع الذي يرمي قضايا المجتمع في المزبلة، ثم يذهب إلى السياسي ويخبره أن الوضع نظيف، وكل شيء على ما يرام.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات