Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

تنبأ العديد من الباحثين بأن منطقة الشرق الأوسط في القرن الحالي ستشهد صراعًا شرسًا على الماء، بسبب ندرة هذا المورد وتزايد عدد السكان، أضف إلى ذلك إنشاء السدود العملاقة التي قد تمنع جزئيًا أو كليًا تدفق المياه إلى الأنهار.

منذ القدم كانت شحة المياه ومواسم الجفاف سببًا في الهجرات البشرية الضخمة من شبه الجزيرة العربية إلى الأقاليم المجاورة الغنية بالمياه.

هذه الندرة في المياه التي لازمت إنسان شبه الجزيرة العربية منذ آلاف السنين أوجدت في وعيه الباطن عقدة انعدام الأمن المائي، والرعب من المجاعة.

هذه هي الثيمة التي اشتغلت عليها رواية “تغريبة القافر” للعماني زهران القاسمي، الصادرة عن دار مسكلياني بتونس عام 2022، والتي أهلتها كما يبدو للفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2023.

من المهم أن يعالج الروائي في عمله عقدة ما من العقد المستحكمة في لاوعي قومه، وكما أسلفنا فإن عقدة (انعدام الأمن المائي) هي من العقد المتأصلة في العقل الباطن للإنسان العماني ولكل سكان شبه الجزيرة العربية وبادية العراق والشام وكل شمال أفريقيا، باستثناء مصر (حتى الآن!).

وقد اجترح زهران القاسمي في روايته حلًا لهذه العقدة، فظهر بطل الرواية سالم الملقب بـ”القافر” الذي يسمع دبيب الماء تحت الأرض، ويكشف عن مكامنه حتى في أعماق الصخر، فهو البطل الأسطوري الذي قهر العقدة، واستأصلها من نفسه، فلم يقف عاجزًا أمام جبروت الطبيعة، بل طوعها وانتصر عليها، ونجح في جعل الماء يتدفق من الينابيع الخفية تحت سطح الأرض لتجري في الأفلاج التي تسقي البشر والدواب والشجر، وينقذ الحياة في هذا الجزء من العالم.

ولكن هل يمكن للمنقذ أن ينجو بفعلته؟ هل ستغفر له (الطبيعة) تجاسره على تغيير النظام الإيكولوجي الذي ثبتته منذ آلاف السنين؟ منذ الصفحة الأولى سيلاحظ القارئ هذا العقاب التراجيدي الذي يلاحق مسيرة البطل ويميزها عن سواها، ومنذ تشكله جنينًا في بطن أمه:

“لم تعد الحياة تعني لها شيئًا أكثر من البحث عن مسكنات للضجيج الذي تعيشه، فبدأ كل من يزورها يقترح عليها وصفة أو عشبة أو طريقة.

جربت كل شيء، لكن الصداع أبى أن يهدأ إلا حينما تغطّس رأسها في الماء”ص23.

مريم بنت حمد ود غانم المعروفة بأنها أفضل من يطرز الثياب في القرية هي أم بطل الرواية (سالم)، التي عانت منذ حملها به من صداع شديد، وكابوس ترى فيه زندين يطرقان صخرة بمطرقة، ولا يهدأ هذا الصداع حتى تغمر رأسها في دلو ماء! شيئًا فشيئا فقدت عقلها ورمت بنفسها في البئر متوهمة أنها ستشفى من الصداع.. لقد غرقت وكاد جنينها يدفن معها، ولكن عمته كاذية شقت بطن الأم وأخرجته وأحيته.

منذ ميلاده تشاءم أهل قرية المسفاة من هذا المولود الذي تسبب في غرق أمه.. الذي جلب لها المتاعب والوساوس منذ تشكله نطفة في رحمها.. كانوا يرونه نبتًا شيطانيًا، ويجنبون أطفالهم الاحتكاك به!

بعد استخراج جثة الغريقة مريم من البئر، سقطت أمطار غزيرة، وأتى سيل لم يشهدوا مثيلًا له منذ عقود، فأزال معه البيوت والنخل والمزروعات، وكأن الطبيعة تعاقب البشر على ميلاد واحد من بينهم يمتلك قدرات فوق إرادتها، إنها تعاقب الجميع دون استثناء، لأن كلمتها السارية في البشر والشجر والحجر سوف تُكسر، ولابد لمن يخالف الناموس من دفع ثمن ما.

هذا شأن الطبيعة قد أتى على ذكره الروائي بمهارة فائقة، فما بال البشر؟ هل يغفرون لواحد لا شأن له ومحتقر من قبلهم أن يحوز على كرامة دونهم؟؟ أيقبلون أن ينال شرفًا عاليًا ويرتفع ذكره حتى ولو كان في ذلك خير لهم وفيه مصلحتهم؟؟ هنا أيضًا تتجلى خبرة زهران القاسمي العميقة بالطبيعة البشرية الخاصة بسكان شبه الجزيرة العربية، فهذا بطل الرواية (سالم) امتلك موهبة فيها خير عظيم لسكان القرى التي تعاني من الجفاف والمجاعة والفقر المدقع، ولكن معظم القرويين ينكرونه ويحسدونه، ويسخرون منه ويودون لو أن الأرض تنشق وتبلعه:

“استعاد الناس حادثة غرق أمه وقالوا إن سكان البئر في العالم السفلي أخذوا جنينها ووضعوا أحد أبنائهم بدلا عنه.

وهناك من اتهمه بالسحر، فقال سيكبر وسيسحر الكبير قبل الصغير”ص73.

عندما بلغ (سالم) عامه الخامس عشر ضرب الجفاف قريته، فراح الناس يحفرون في الفلج بحثًا عن عين الماء، ولكنه أشار عليهم بالحفر في موضع آخر فلم يصدقوه:

“في البداية أسمعوه الكثير من الاستهزاء والسخرية، لكن كِبرهم جعلهم يتجاهلونه ويبتعدون عنه منشغلين بحفر قناة الفلج حيث دلهم أكابرهم، وبين فينة وأخرى ومن باب الترويح عن النفس يجتمعون حوله ويتندرون به”ص117.

ربما تكون رذيلة الحط من شأن الموهوب عامة بين سواد البشر، ولكنها أكثر وضوحًا بين سكان شبه الجزيرة العربية، فالموهوب إذا أصم أذنيه عن الوضعاء الذين يثبطون همته، وحقق نجاحًا وأثبت أنه موهوب فعلًا، فإن السخرية والتندر والتهكم والغمز واللمز تنقلب كلها إلى كراهية مريرة وحسد بغيض، وهذه صفة من صفات العرب كما أظن والله أعلم، لأن العجم يخالفون العرب في هذا الأمر، فإذا أثبت واحد منهم صحة موهبته، صفقوا له مشجعين ومعترفين بفضله، وعاونوه بكل ما أوتوا من قوة ليكون من البارزين، فيعم الخير على الجميع، وتصبح موهبته رصيدًا مضافًا للأمة بأسرها.

هكذا إذن يصنع البطل أسطورته: صراع مع الطبيعة التي هي راسخة منذ الأزل، وصراع مع البشر الذين يمقتون التغيير حتى ولو كان في صالحهم!

ينجح زهران القاسمي في جعل (سالم) يخوض صراعًا عظيمًا لانتزاع أسطورته الشخصية، وإذا كان قد تغلب على أنداده من البشر في عدة جولات، فإن صراعه الأكبر والأشمل مع الطبيعة لم يكسبه بسهولة، وهو الصراع الأصعب دون شك، فكأن (سالم) رمز للإنسان في صراعه الأبدي مع قوى الطبيعة الجبارة.. فقد جاءه رجل من قرية بعيدة، وطلب مساعدته في الكشف عن عين ماء مندثرة، وهناك حُبس في فلج بضع سنين.. وهنا يتجاوز الروائي البعد الواقعي ليرتقي إلى البعد الرمزي، فيتصارع (سالم) مع الطبيعة الأم محاولًا البقاء على قيد الحياة.. بينما في الخارج ظنه الناس ميتًا.

يختتم زهران القاسمي روايته البديعة بنجاح (سالم) في تحطيم الصخرة التي أعاقته عن الصعود من الفلج، ويصعد مجددًا إلى سطح الأرض.. وكما نلاحظ هي نهاية رمزية تشير إلى الأمل، وأن الإنسان مكتوب له في النهاية الانتصار على عوامل الفناء، والبقاء واستمرار نسله.

لغة الرواية مُبسطة ومناسبة تمامًا للبيئة المحلية التي تدور فيها الأحداث، وساعدت الحوارات بالعامية العمانية على وضعنا في قلب المجتمع الذي اجتهد الروائي في رسمه بدقة وحرفية فنية عالية.

لا توجد هنا لغة شعرية رفيعة، ولا ينبغي أن توجد أصلًا، فتلك اللغة الشعرية التي يُطالب البعض بتعميمها بشكل مطلق على كل المنتج الروائي، تتعارض مع أبسط مبادئ الفن، إذ يجب أن تكون لكل رواية لغتها الخاصة بها، ورواية “تغريبة القافر” تقع جغرافيتها في أرياف عُمان، وكل أبطالها من الريفيين، فجاءت اللغة سهلة ميسرة بما يقارب فهم وطريقة تفكير هذه الشريحة السكانية. فإن انتقد متقعر لغة الرواية، وطالب بتحميل الخطاب الروائي لغة شعرية عالية، فإن هذا لن يكون سوى تكلف يفسد تآزر العناصر الفنية للرواية.

يُشاع أن الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) تكافئ الأعمال ذات الحجم الكبير.. ولكن رواية “تغريبة القافر” ذات العدد القليل من الصفحات تثبت عدم صحة تلك الشائعة، فالفن لا يوزن بالكيلو، وإنما بما يحدثه من أثر جمالي في النفس.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات