Accessibility links

إعلان

بلقيس محمد علوان*

تشير الكتلة الحرجة إلى الحد الأدنى لعدد الأفراد المطلوبين لإحداث تغيير كبير أو الوصول إلى نقطة اللا عودة في نظام أو ظاهرة معينة، وفي سياق الكثافة السكانية، تلعب الكتلة الحرجة دورًا حاسمًا في تشكيل كيفية عمل المجتمعات وكيفية استجابتها للتحديات المختلفة، واستكشاف مفهوم الكتلة الحرجة يمكن أن يوفر رؤى قيّمة حول تأثير الكثافة السكانية على الديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

كانت النساء قديمًا ولغرض حفظ الجبن يقمن بتمليح الماء لدرجة معينة هي تحديدًا المناسبة لحفظ الجبن، فيضفن الملح للماء تدريجيًا مع التحريك، ومع استمرار إضافة الملح والتحريك يختبرن إذا كان قد وصل للحد المناسب لحفظ الجبن وذلك بوضع بيضة في الماء فتطفو، عند هذه النقطة يصبح الماء المملح مناسبًا تمامًا لحفظ الجبن، وهذه بالضبط هي الكتلة الحرجة لضمان حفظ الجبن، وقوانين المواد والسوائل تتشابه بدرجة كبيرة، فتفجير القنبلة الذرية يحتاج أيضًا إلى ”الكتلة الحرجة” فلا تنفجر إذا وضعت بكميات اعتباطية، بل لابد من كتلة حرجة، بحيث تضغط كتلتان من مستوى (ما تحت الحرج) كي تصبحان بعد الدمج فوق ”الكتلة الحرجة” فيحصل الانفجار المهول، وتعد ”الكتلة الحرجة” سرًا حربيًا للدولة التي تملك هذا السلاح الاستراتيجي، وهذا القانون ينطبق على العلوم الأخرى كعلم الاجتماع، وعلم السكان، وعلم النفس فلابد من وصول النفس إلى درجة (التأثر الحرج) كي تنفجر بالبكاء وتغرورق العيون بالدموع، وكذلك الحال في التغيرات الاجتماعية الكبرى التي تتمخض عنها الأحداث والتغيرات المفصلية.

 الكتلة الحرجة في علم الاجتماع وحركة المجتمعات لا تتكون مرة واحدة، إنما لها دلائل ومقدمات تراكمية حتى تصل إلى الوزن والحجم الحرج المطلوب للتغيير، وهي بوصفها تاريخية تتشكل تدريجيًا لا يمكن اعتبارها تنظيمًا أو حزبًا ولا جماعة، بل هي حالة فكرية وسياسية واقتصادية قد تبدأ بمزاج عام جديد يشكل اصطفافًا جديدًا عابرًا للأيدولوجيات والأطر المؤسسية والإعمار والجغرافيا حول قضية عامة استراتيجية، ويُبنى على ھذا المزاج ليتحول إلى حالة عامة وبالتراكم يتحول إلى ظاهرة، يصبح لها مكانٌ في المجال العام وتبدأ بدورها في تغییر المجال العام ذاته فيحدث التغيير المستدام.

وفقًا لهذا يمكن أن نتساءل هل توفرت في اليمن في فترة ما كتلة حرجة قادت تغييرًا حقيقيًا في الثقافة والسياسة والاقتصاد وفي السكان؟

في قراءة تسلسلية في تاريخنا المعاصر ربما تكون ثورتا سبتمبر وأكتوبر هما التغييران اللذان تشكلت لإحداثهما كتلة حرجة حقيقية، وما بعدهما ليس كما قبلهما، بغض النظر عن الكبوات أو النقد، وما عدا ذلك فكل حراك سياسي أو اقتصادي أو ثقافي لم يصل إلى نقطة يمكن أن تمثل كتلة حرجة تحدث التغيير المنشود وأقرب مثل ما سُمي بثورة الشباب أو أحداث فبراير 2011، فالقوى المختلفة التي انخرطت في ثورة الشباب طغت لديها الأجندات الخاصة لكل منها وغطت الاستقطابات على الهدف الاستراتيجي الأهم المتمثل في الانتقال بالمجتمع من مرحلة إلى أخرى، وھنا تكمن العلة الكبرى المتمثلة باستمرار الحلقة المفرغة والدوران حول الذات وهذا ما يؤكد أن الكتلة الحرجة الحقيقية هي رأس حربة التغییر ومقوده، حيث تكون قادرة على تجاوز الخلافات والاختلافات في سبيل ھذا الهدف، ويقاس نجاحها في القدرة على بناء توافقات وطنية في لحظة تاريخية فارقة وهو ما يدفع نحو الانتقال الكبير من حالة إلى أخرى.

يمكن القول إن تشكل الكتلة الحرجة حاجة ملحة وضرورة قصوى لكل مجتمع لإحداث التغيير لتحقيق التحول والإصلاح وتصفية الصراعات، وهي تستغرق وقتًا قد يطول وقد يُختصر بحسب درجة وعي القوى التي تشكل هذه الكتلة التي هي البديل الحقيقي للتهميش والإقصاء، والأداة الفعالة لإعادة صياغة وتعريف المشاركة بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد حان الوقت فعلًا للعمل على تشكيل أو تسريع تشكيل الكتلة الحرجة للتغير في اليمن، وقد لا نعول على النخب السياسية التي خذلت وأحبطت المواطن اليمني، بل ويمكن القول: إنها تخلت عنه، لكن يظل البعد المعرفي والثقافي في نشر الوعي هو الطريق الأمثل لتشكل كتلة يمنية من نخب جديدة وتقليدية، ومن شخصيات مشهود لها بالنزاهة والوطنية، ومن المكونات السياسية، والثقافية والاجتماعية المختلفة، مع التأكيد على أن الكتلة التاريخية المنشودة لا تتشكل بقرار سياسي، ولا تتلقى أجرًا أو مكاسب، ولكن تتشكل بعملية تاريخية كما تحتاج للوقت وتحتاج أكثر لثقافة جديدة تؤمن بضرورتها، هذه الكتلة أقوى من البرلمان والأحزاب وإن كانت بعض النخب النيابية والحزبية والفكرية ينبغي أن تكون في مقدمة مكونات تشكّل هذه الكتلة.

لسنوات طويلة تحدثنا عن التعايش والعيش المشترك وتغافلنا عن التركيز على بناء الدولة الوطنية ولكن، لم يؤسس التعايش الهش لتراكم وطني حقيقي فوجدنا أنفسنا في “وطن متاهة” عجزنا عن حمايته وعجز عن حمايتنا في ثنائية مؤلمة تبادلنا فيها معه العتب واللوم وتحميل مسؤولية ما حدث ويحدث.

 وفي كل تجارب الشعوب التي تشكلت فيها الكتل التاريخية للتغيير، وقامت بمهامها المطلوبة لإحداث التغيير اعتمدت بشكل أساسي على وضوح الرؤية وتحديد أهداف مركزية ومحسومة أيضًا، ولعل في مقدمة هذه الأهداف في الحالة اليمنية حماية الهوية الوطنية والتنمية العادلة والديمقراطية، ويبدو أن إحداث التغيير في اليمن للخروج من المأزق السياسي الاقتصادي الثقافي مرهون بتشكل هذه الكتلة التي أصبح تشكلها وتوحيد جهود من يسعون للتغيير ضرورة مصيرية لا نملك في هذه اللحظة إلا نشر الوعي بها وحتمية السعي لتشكيلها.

* كاتبة وأكاديمية يمنية.

   
 
إعلان

تعليقات