Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

سوف يأتي وقت تختفي فيه الهويات الوطنية، وتحل محلها هويات افتراضية. حينها لا ينتسبُ الإنسان إلى بلده، ولكن إلى (البرنامج) الذي قرر التفاعل معه.

التعرف على البشر من خلال جنسياتهم سوف يتلاشى، لن يعود هناك يمني أو مصري أو صيني أو أمريكي.. إلخ، ولكن سيحمل البشر هوية غير جغرافية، هوية مزروعة داخل جلودهم، يُديرها الذكاء الاصطناعي.

هذا لا يعني أن البشر سوف يتحولون إلى عبيد كما تتصور ذلك بعض أفلام الخيال العلمي يتم التحكم بهم عن بعد بواسطة الآلات، وإنما سيتوفر لدى البشر خيار يتاح لأول مرة في التاريخ للخلاص من صدفة الميلاد في مكان جغرافي محدد، والانتماء إلى وطن افتراضي تحكمه قوانينه الخاصة.

البشرية الآن تتطور ببطء للانتقال من طور إلى طور، من طور الدول التي تتحكم بها الحكومات، إلى طور الدول التي تتحكم بها الشركات.. قريبًا سوف تنتفي الحاجة إلى معظم الوزارات، وستنهض الشركات العابرة للقارات بدور تلك الوزارات الحكومية.

بالتدريج سوف تلغي دول العالم الواحدة تلو الأخرى وزارة الداخلية، وتستبدلها بشركات أمنية دولية لديها القدرة على حفظ الأمن وتتبع المجرمين بواسطة تكنولوجيا متقدمة، ويليها إلغاء وزارة الدفاع، واستبدالها بشركات لديها جيوش على درجة عالية من الكفاءة، وبواسطة جنود آليين يتم التحكم بهم عن بعد.

قبل ذلك ستختفي وزارات الصحة والتعليم والكهرباء والمياه والتجارة والإعلام وسواها من الوزارات، وستتولى الشركات العملاقة توفير هذه الخدمات للبشرية.

سوف يتقلص عدد الموظفين في القطاع الحكومي بالتدريج إلى أن يصل إلى نسبة 1% من سكان الدولة، ومهام هؤلاء ستنحصر في المفاضلة بين العروض التي تقدمها الشركات العابرة للقارات، والتوقيع على العقود، ومراقبة أداء هذه الشركات.

رئيس الجمهورية أو الملك لن يعود مشغولًا كما كان في العصور القديمة، إذ ستتولى هذه الشركات أعباء الاهتمام باحتياجات الوطن والمواطن، والشعوب سوف تكف عن التركيز عليهم، وستركز على مديري الإدارة في الشركات التي يعملون بها.

شعوب الأرض ستعمل لدى الشركات العملاقة، وليس لدى حكومات بلدانها أو الشركات المحلية الصغيرة، وسيتأسس شكل جديد من الرأسمالية، لن يكون للانتماء الوطني أهمية، وإنما يأتي الانتماء التشغيلي في الدرجة الأولى.

في ذلك العصر لن يسألك أحد عن جنسيتك، ولكن عن شركتك، وسيحمل البشر جوازات سفر صادرة عن تلك الشركات، وستقاس قوة الجواز بقوة الشركة، فإذا أخذنا شركة أمازون كنموذج، وافترضنا أنها ستربح معركة البقاء في المستقبل، فإن الموظف في شركة أمازون سيحمل جواز سفر يمكّنه من السفر حول العالم اعتمادًا على سمعة وقوة الشركة لا على هويته الوطنية، وربما تصبح الجوازات الصادرة عن الحكومات غير مرغوب بها.

الشركات الدفاعية يمكنها توظيف عناصر محلية وتدريبهم تدريبًا احترافيًّا، ومن ثم يكونون بديلًا عن الجيوش الوطنية.. وكذلك يمكن أن تظهر ثكنات لجيش ينتمي أفراده إلى أكثر من ستين بلدًا.

المرحلة التالية سوف يتدخل الذكاء الاصطناعي في صياغتها أكثر، فتنتهي حقبة الشركات العملاقة العابرة للقارات، وتحل بدلًا عنها برمجيات متطورة تلغي مرة واحدة وإلى الأبد فكرة الانتماء إلى وطن جغرافي محدد، فتختفي الحكومات وتصبح ذكرى من الماضي، ويخلو العالم من الرؤساء والملوك، وسيصبح كل فرد مرتبطًا ببرنامج، وسيكون هذا (البرنامج) هو الهوية التي يُعرف بها.

هل سيكون هذا التطور في صالح البشرية؟ مثل أيّ أمر آخر هناك سلبيات وإيجابيات، ولكنه تطور حتمي لا رجعة عنه، إلا إذا حصلت حرب نووية شاملة تعيد البشرية إلى العصر الحجري.

عصر الشركات العملاقة بات على الأبواب، وسيبلغ ذروته في حدود عام 2070، وحينها ستكون الرأسمالية قد وصلت إلى مرحلة متقدمة للغاية في تحويل أيّ شيء إلى سلعة، وحتى كارل ماركس لا أظنه في أسوأ كوابيسه قد توقع شيئًا كهذا.

بالتزامن مع حقبة استعمار الشركات لدول العالم وعملها الحثيث في محو الحدود السياسية بين الدول، سوف يتغلغل الذكاء الاصطناعي ويعمل هو أيضًا على محو الفوارق العرقية واللغوية والدينية بين الشعوب.

ربما تصل البشرية إلى مرحلة التوازن في عام 2100، مع أفول عصر الشركات العملاقة، وبزوغ عصر البرمجيات التي ستسهل الحياة، وتساعد على تلبية متطلبات البشر بيسر.

سوف تفقد الحياة البشرية في حقبة الذكاء الاصطناعي الكثير من خصائصها.. وقد يغتبط الإنسان لأنه يعيش حياة رغيدة خالية من المرض والفقر والظلم، ولكنه لن ينجو من الشعور بأنه يحيا في عالم بارد.

إذا لم تحدث حرب نووية شاملة أو ثورة اشتراكية عالمية، فإن البشرية على موعد مع حقبة تاريخية مختلفة جذريًّا، تسودها مفاهيم جديدة عن العمل والعائلة والوطن والدين.

المجتمع لن يكون مكونًا من الجيران وسكان الحي وأهالي المدينة التي نقطنها، ولكن سيعيش المرء في مجتمع افتراضي ينتمي إليه بحكم ميوله وهواياته وتفضيلاته، وهكذا يمكن لسكان عمارة سكنية واحدة أن يعيشوا في عدة مجتمعات منفصلة عن بعضها، ويكون جارك الملاصق لك من الغرباء لأنه ينتمي إلى مجتمع افتراضي مختلف.

هل سيمحو الذكاء الاصطناعي الطبقية؟ الأرجح أن الطبقية ستتعمق أكثر، وسيحظى الأغنياء بأحدث البرمجيات، بينما يضطر الفقراء إلى القبول بإصدارات أقدم.. وتكوين الثروات لن يصبح ممكنًا إلا عبر هذه الأدوات الرقمية الجديدة.

سوف يستمر الشر وربما يزدهر أكثر في حقبة الذكاء الاصطناعي، ويتنامى عدد القراصنة البارعين في اختراق الحسابات ونهب العملات الرقمية والأملاك الافتراضية الثمينة.

الشر الأكثر هولًا هو أن الذكاء الاصطناعي قد يمنح بضعة أشخاص القدرة على التحكم بمصير البشرية وفقًا لأهوائهم، وهكذا تعود الديكتاتورية من الباب الخلفي.

قد تفقد الحياة سحرها، والأشياء طعمها، والعلاقات دفئها، فهل لدى البشر مسار آخر بديل؟ هل يمكن وقف (الذكاء الاصطناعي) عند حد معين قبل أن يستولي علينا تمامًا؟ الجواب في بطن الغيب، وربما تظهر حركة فكرية مناهضة ترشد البشر إلى طريق أكثر إنسانية.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات