Accessibility links

الفنان محمد مرشد ناجي: قراءة في عبقرية التجربة


إعلان

أحمد الأغبري
بلا شك، أن الأغنية اليمنية خسرت برحيل الفنان محمد مرشد ناجي (7 شباط / فبراير 2013) واحدًا من أهم أصواتها ومؤرخيها؛ إذ استطاع خلال أكثر من ستة عقود أن يكون أحد أساطين التجديد الغنائي، وممن أسهموا بدورٍ بارزٍ في إثراء الأغنية اليمنية وتطويرها وتقديم تراثها وفولكلورها بكل ألوانه وإيقاعاته، وبمستوى عبقري من الإبداع والجمال تجلى من خلاله مدرسة لها رؤيتها ومنهاجها وإضافاتها يمنيًّا وعربيًّا.

تتعاظم فداحة خسارة هذا الفنان، كلما أمعنّا في قراءته… فمن كل زاوية يُبرز لنا نسيجًا وحده: مطربًا رخيمًا، وعازفًا ماهرًا على العود، وملحنًا مجددًا، وباحثًا ومؤرخًا موسيقيًّا، صاحب مؤلفات قيّمة، وقبل ذاك تتباهى تجربته الأدائية واللحنية بأعمال كبيرة وكثيرة ارتقى من خلالها بحال الأغنية في بلده، وساهم بفاعلية في تعزيز حضورها في الساحة العربية.

مع شاعر اليمن الكبير د.عبدالعزيز المقالح

 

على الرغم من أنه لم يلتحق بمعهد للموسيقى، ولم يكمل تعليمه النظامي، استطاع أن يتجاوز قسوة ظروف واقعه، ويُطوِّر موهبته، ويرتقي برؤيته إلى أن تبلور مشروعه الفني، الذي انطلق إليه من وعي وطني صاحَبه منذ وقتٍ مبكر من عمره، من خلال احتكاكه بالعديد من القامات والشخصيات الوطنية، فامتزجت قناعاته بقضايا الوطن والمواطن، فحمل السلاح في مواجهة المستعمر البريطاني بعدن، وبرز من أهم أصوات الأغنية الوطنية والسياسية قبل وبعد الاستقلال، مجسدًا بذلك الدور الحقيقي للفن في حياة المجتمع… وانطلاقًا من هذه القناعات، التي ارتقت بها قراءاته المتواصلة، لم يكن غريبًا اشتغاله على تراث اليمن الموسيقي والغنائي، وإلمامه بقضايا الموسيقى العربية، وتدفُّق إسهاماته التجديدية الغنائية والموسيقية.

بعد صراع مرير مع المرض ودّعته، قبل تسع سنوات، مدينة عدن/ جنوب اليمن، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين سنة، أمضى معظمها في محراب الفن، في تجربة لا تتكرر؛ لِما توافر في صاحبها من خصوصية مكّنته من تقديم أعماله بإجادة وإتقان؛ انطلاقًا من مواصفات تمتَّع بها صوته، وعزّزتها ثقافة واسعة وقناعات راسخة ووجدانية عالية.

منذ أول أغانيه، عام 1951م، لم يتعصب الفنان محمد مرشد ناجي للونٍ من ألوان الغناء اليمني، فمنذ انطلاقته الأولى في إذاعة عدن، وعلى مدى تجربته، استطاع الفنان المرشدي (وهو الاسم الذي اشتهر به) أن يؤدي، وبتميّز، كل ألوان الغناء اليمني، وأن يكتشف بعض هذه الألوان ويقدمها ويسهم في تطويرها، واستطاع بصوته المخملي العذب وأحاسيسه ومشاعره الصادقة وثقافته الواسعة أن يستلهم تراث بلده ويعيد تقديمه بروح جديدة من خلال رؤيته ومدرسته الخاصة التي عززتها براعته في التعاطي المختلف والمتميز مع الجُمل الموسيقية…

وهنا يتجلى عظيمًا في عدد كبير من أعماله منها: صادت فؤادي، اللقاء العظيم، زمان الصبا، يا من سلب نوم عيني، الفل والورد، أنا من ناظري، عظيم الشأن، صادت عيون المها، أخضر جهيش، بيني وبينك، دا كان زمان يا صاح، صلاة قلب، ضناني الشوق، يا للي أنكرت الحب، نظرة من مقلتيها، لا تخجلي، ما زلت أهواك… وغيرها من الأعمال الغنائية واللحنية التي تؤكد عبقريته وإسهاماته في تطوير الأغنية اليمنية الحديثة والمعاصرة؛ ولهذا عاشت أغانيه وبقيت وستظل محفورة في وجدان الشعب… ونتيجة لذلك كان خليقًا به لقب (فنان الشعب)، وغيرها من الألقاب التي جاءت معبّرة عن مكانة تجربته، التي أسس معها مدرسة فنية تخرّج فيها العديد من الفنانين اليمنيين، ومثّل من خلالها الأغنية اليمنية في المهرجانات العربية، كما تعاون غناءً ولحنًا مع عدد من كبار الفنانين العرب.

لا يمكن الفصل بين تجربته الغنائية واللحنية؛ فقد كان مجددًا في كليهما؛ فعلى صعيد تجربته اللحنية والموسيقية يتجلى بديعًا في جوانب متعددة، وبخاصة في تعامله اللحني مع القصيدة، والتي يمكن القول إنه قدّم من خلالها أسلوبًا يمنيًّا في معالجة قالب القصيدة، ويرى الفنان والناقد جابر علي أحمد في كتاب (حاضر الغناء في اليمن)، أن الفنان المرشدي رائد من روّاد التجديد الغنائي في اليمن، بل إنه يبز غيره في بعض الجوانب.. فاستفاد كثيرًا من الضروب التقليدية والموازين الشعبية في اليمن، وقدّم أعمالاً تميزت بتنوعها الإيقاعي وقدرته على تطويل الجملة الموسيقية وجنوحه نحو تجاوز الهياكل اللحنية للغناء التقليدي والمزج بين العناصر التقليدية والعناصر المستحدثة، وميل المرشدي فيها إلى تغليب عناصر التحديث.. وهنا يتحدث النُّقاد كثيرًا عن التجربة الموسيقية واللحنية للمرشدي وإضافاته في الغناء التجديدي الحديث.

منذ بداية تجربته وهو مهموم بالارتقاء بثقافته وتطوير تجربته التي بقي فيها مشتغلاً على التراث الفني لبلده، وهو الاهتمام الذي لم ينحصر في الغناء والتلحين، بل واكبه بالبحث والدراسة؛ فأصدر عددًا من الكتب والمؤلفات القيّمة التي تُمثل إضافات نوعية للمكتبة اليمنية، بدءًا من أول كتبه الصادرة في العام 1959م، وهو كتاب “أغانينا الشعبية”، والذي عدّه النقاد “أول وثيقة معاصرة عن الغناء في اليمن، وأول جهد حاول وضع ضوابط لحركة الغناء، وخاصة ما يتعلق بالتجديد الغنائي الذي كانت تزخر به عدن حينها”، وكانت تلك الفترة تشهد بداية تألقه الفني كأحد الفنانين المجددين الذين ينطلقون من قاعدة تراثية سليمة، ومن فهم عميق للفن الذي يطمح إلى تجديده، وكما يقول شاعر اليمن الكبير، الدكتور عبدالعزيز المقالح، فقد كان تجديده كغنائه مقبولاً وموصولاً بالمقومات الأساسية التي تجعل من الغناء تعبيرًا مباشرًا عن أشجان البشر وأحلامهم وعن أرضهم ومجال الطبيعة في بلاده.. وكان المرشدي في تلك الفترة الفنان الوحيد في عدن، والكلام ما زال للمقالح، الذي يسعى إلى تطوير ثقافته الفنية والأدبية، والوحيد الذي تشغله اهتمامات الجمع بين الفن والثقافة.

كان ذلك مما كتبه المقالح في تقديم كتاب المرشدي “الغناء اليمني القديم ومشاهيره” الصادر في العام 1983م، والذي تلاه كتاب مذكراته الصادر بعنوان “صفحات من الذكريات” عام 2000م، تلاه – أيضًا – كتاب “أغنيات وحكايات” (لا أتذكر تاريخ صدوره في الألفية الثالثة)… وكان الراحل قد أعد قبل وفاته أعماله الكاملة في كتاب، وأوصى نجله هاشم باستكمال إصدار الكتاب، إلا أنه لم يصدر حتى الآن، وفق مصدر في عائلة المرشدي تحدث لكاتب السطور.

هذه التجربة المضيئة للفنان الراحل مطربًا وعازفًا وملحّنًا ومؤرخًا موسيقيًّا تبلورت في خضم حياة مضنية… حيث ولد في العام 1929م لأسرة عدنية فقيرة، وتلقّى تعليمه في الكتَّاب، وختم القرآن الكريم في سنّ مبكر، وبعد إتمامه المرحلة الابتدائية بالمدرسة الحكومية لم يتم له إكمال الدراسة في المدرسة المتوسطة، واضطرته الظروف لترك المدرسة والعودة إلى الكتاتيب مرة أخرى.

كانت بدايته الغنائية من البيت متأثرًا بأبيه الذي كان يُجيد الغناء.. وعندما بدأ يمارس الغناء في المرحلة الابتدائية قُوبل بالتشجيع حتى صار يغني في (حفلات الأعراس)، ساعده على ذلك تعلّم العزف على آلة العود، وخلال فترة قصيرة أصبح مشهورًا، واستطاع من خلال انضمامه للندوة الموسيقية العدنية والاحتكاك بالفنانين الكبار تطوير تجربته إلى أن جاءته الفرصة عندما سمعه يغنّي الشاعر الراحل محمد سعيد جرادة، فتفاجأ بصوته، واقترح عليه التلحين، وكتب له قصيدة بعنوان “وقفة” أخذها المرشدي وقام بصوغ لحن لها، وكانت باكورة أغانيه ومن أنجحها…

على هامش هذا التجربة شغل المرشدي عددًا من المواقع الوظيفية الحكومية قبل إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، منها عضوية مجلس الشعب طوال ثمانينيات القرن العشرين، ورئاسة اتحاد الفنانين اليمنيين، وبعد إعادة تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990 أصبح مستشارًا لوزير الثقافة، وانتُخب عام 1997 عضوًا بمجلس النواب.

وتقديرًا لعظمة هذه التجربة نال العديد من الأوسمة، وتم تكريمه في عدد من المناسبات في اليمن، كما تم تكريمه عربيًّا كأحد رواد الأغنية اليمنية والعربية، حيث كُرِّم في سلطنة عُمان والبحرين والمملكة العربية السعودية، والمعهد العربي في باريس ‏وملتقى الرُّواد العرب في دمشق وغيرها.

   
 
إعلان

تعليقات