Accessibility links

إعلان

فكري قاسم*

بعد فترة توفير دامت قرابة ثلاثة أشهر في سنة ٢٠٠٢ تمكنت أخيرًا من شراء “عصارة” وجبتها لأمي هدية حينها بمناسبة عيد الأم.

مرت الأيام و”العصارة” واخذة موقعها المتميز في المطبخ المطل بنافذته على بيوت الجيران. 

ولأن فئران مطبخنا التعيس كانت تعيش في هاذيك الأيام حالة تقشف رهيبة، فقد كانت فرحتهم بالعصارة أكثر من فرحة أمي بها ! 

وكان ضجيج صوتها يدخل البهجة والسرور إلى قلوب فئران الحارة أكثر مما كان يبهجنا في هاذيك الأوقات اللي نشعر فيها داخل البيت بأن احنا ما زلنا أودام زي خلق الله ونشرب عصيرات طازجة.

وكان صوت العصارة بالنسبة لفئران الحارة صافرة ابتهاج، وبمجرد ما أن يسمعوها تحن يتبابعوا إلى المطبخ من كل “جحر” وصوب، ويلتفوا حول العصارة وهي تشتغل وهات يارقص حولها، شرقي، على غربي، على راب، على هندي، على “برع”، ويتحول مطبخنا في هاذيك الأثناء إلى ساحة للرقص ولا  استديو ميوزيكانا في عز شبابه.. غير أن الكارثة غير المتوقعة حدثت ذات مساء عندما انقطع التيار الكهربائي فجأة، مما جعل أمي المحاصرة بالظلام، تشعل شمعة بدلاً من أن تلعن الظلام، وطرحتها في المطبخ إلى جوار العصارة وهي لاصية دون أن تدري بأن بعض الشموع رقيقات إلى حد السخافة، وبمجرد أن تشعر إحداهن بشوية دفء ستذوب فيسع، وتنحني فيسع، وتسلم رأسها لأقرب حضن يقف إلى جوارها حتى ولو كان قلص العصارة المصنوع من العاج.

وذلك تحديدًا هو ما حصل في ذلك اليوم عندما شعرت الشمعة الرقيقة بالدفء، وتقوست فيسع بشاعرية منفردة، ووضعت رأسها الملتهب سريعًا في حضن العصارة وراحت تسكب دموعها الحارة فوقها قطرة قطرة في مشهد ذوبان عاطفي لا يتكرر حتى في الأفلام الهندية، لنتفاجأ في البيت بعد دقائق فقط، ذلك العناق الحار وقد ذاب قلص العصارة عشقًا، لتتحول العصارة بأكملها إلى فحمة ولهيب ودخان بذنب علاقة حب من أول “غُدره” !

* كان ذلك الحادث مؤسفًا وخطيرًا للغاية.. ولو لم تكن رائحة العصارة المحترقة عشقًا قد تسربت ملان البيت قبل انتشار ألسن اللهب لكان مصير المطبخ، بل المنزل بأكمله، مثل مصير مركز التجارة العالمي، ولذهبت في المقابل أسرة بأكملها  ضحية شمعة رقيقة وقعت في حب أعمى، أو لنقل ضحية إرهاب “طفي لصي”، والحمد لله على السلامة.

شخصيًّا لم أكن يومها حزينًا على شيء، قدر حزني على فئران حارتنا الذين خسروا باحتراق العصارة واحدة من أهم المباهج العصرية اللي كانت تجمعهم كلهم على خير داخل مطبخ بيتنا القديم.

خسروا مرقصهم الوحيد وما عد دريت اين أخبئ وجهي منهم؟، ولا دريت أيش أقول لهاذاك الفأر الذي جاء يومها ليمارس هوايته اليومية في الرقص والمرح حول العصارة ليتفاجأ بأنها مش موجودة، ويسألني:

– أين حقنا المرقص يا جني؟

أيش أرد عليه؟.. ما معي أي هدار أغالطه به غير أن أغني له:

– مات شهيدًا يا ولدي من مات فداءً للشمعة.

بعض الفئران عصبيين قوي طبعًا، ووقت الغضب يا ساتر ما يعرفوش حتى أمهم!

خصوصًا ذلك الفأر الحساس الذي كان يجيء من طرف الحارة يجري إلى مطبخنا عشان يرقص ويفتهن له شوية مع صوت العصارة.

هذا بالذات ما دريت أيش أقول له لما جاء إلى المطبخ وهو متأنتك ومسبوك وخاور يرقص !

وإذا كان فأر واحد فقط من فئران زمان تشنج لأسباب تافهة وهدم سد مأرب، وكان سببًا في تشريد أجدادنا الأوائل إلى كل بقعة من بقاع الأرض، فكيف سيكون رد فئران هذه الأيام لما يعرفوا مثلاً أن العصارة حرقت؟

كانت حنبة عويصة بصراحة وحاولت أخبئ عليهم الخبر لكن ما فيش فائدة، وحدث ما كنت أخشاه بالفعل وخرج الخبر وتسرب بسرعة الضوء بين جميع فئران الحارة دون علمي، وخير اللهم أجعله خير؟ 

جاء ذلك الفأر المهووس بالرقص حول العصارة يجري كما الملسوع الى المطبخ، وهو بكامل أناقته، وشفته وهو يتسلق الجدران بسرعة متجهًا إلى عند نافذة المطبخ اللي كانت يومها مغلقة، ووقف يدق الزجاج بيديه الثنتين بكل قوته، بينما كان متنرفزًا يصيح بكل صوته:

– افتحوااااااااااا يا عيال الـكلب…….؟!”

كان صراخه مخيفًا صراحة، وملط لي بطوني، خصوصًا عندما تمكن فجأة من كسر زجاج النافذة و”نبع” متشنجًا لا فوقي وهو يرتعش من شدة الانفعال، وانا ارتعش أزيد منه، وهو يسألني: أين العصارة؟

– طيب اهدأ ياخي وصلي على النبي.

وقبل أن أكمل حديثي الخائف معه، صرخ في وجهي ثانية:

– خيرة الله عليك.. بنقولك أين العصارة؟ أين هييييييه؟

– يا الله خارجنا..

ما قدرت أقول له إنها حرقت ! خفت من أي لحظة انفعال منه توديني في ستين داهية، وبينما كنت أحاول أن أدبر له أي عذر مقبول يقنعه بما حدث.. ابن الكلب نظره قوي لمح العصارة في المطبخ وقد هي فحمة، وما عد إلا خبط بيده على جبهته من هول المنظر تمامًا مثل أي بطل هندي متأثر على وفاة حبيبته، وصاح:

– نهييييه

في الوقت ذاته وهو يصيح وصلت إلى المطبخ فأرة كانت هي الأخرى تلهث وتسأل:

– أيش في؟ مو حصل؟

ما قدرت أجاوبها واقول لها أن العصارة حرقت ! وهي فأرة دلوعة بصراحة، أول ما شافت المنظر البشع للعصارة في المطبخ، دوخت على طول ونكعت من فوق الجدار، وقد أغمي عليها ! 

توالى تدفق الفئران من كل أرجاء الحارة إلى مطبخنا، وانا حانب مش داري أيش أقول لهم ! ولا داري كيف أواجههم بحقيقة ما جرى للعصارة.

تجمع كل الفئران داخل المطبخ يومها ودارت بينهم ذيك الساع كثير من الحوارات الحزينة حول حقيقة ما جرى للعصارة، وشفت هاذاك الفأر المهووس يحرضهم لفعل أي شيء وقادهم في مظاهرة حاشدة هيجت فئران العالم كلهم ضدي أنا وأمي، ويا مخارج الأخجف إذا ودف.

بعد يومين فقط من استمرار المظاهرة الحاشدة بمحيط مطبخ بيتنا، تحركت في العالم مظاهرات أخرى مماثلة لفئران من كل جنس احتشدوا أمام مبنى “الدِمَمْ المتحدة”، وراحوا يطالبون بالتحقيق معي ومع أمي باعتبارنا الاثنين هولوكست جديد ! 

ولأن القرار مش في يد “الدمم المتحدة”، بل في يد فئران البيت الأبيض، فقد تحركت أقراص التليفونات يومها بسرعة، وبعد مشاورات ومحادثات هاتفية، حشد فئران البيت الأبيض وحلفاؤهم بسرعة فائقة ما استطاعوا من قوة وتوجهوا بها في الحال إلى مطبخ بيتنا للتحقيق في الحادثة الهولوكستية الجديدة.

وخلال وقت قصير طوق فئران البيت الأبيض الحارة بأكملها، ثم دخلوا إلى المطبخ لدراسة المشكلة عن قرب! وكلها أسبوعين فقط حتى تحول المطبخ حقنا إلى معسكر.. وخير اللهم اجعله خير؟!  

أصبحت أمي تطبخ في بيوت الجيران، وأصبحت أنا أدخل البيت بتفتيش، وأخرج منه بتفتيش . واثناء فترة الحماية للبحث عن أي أسلحة دمار شامل في المطبخ، قد تكون هي السبب في احتراق العصارة، أكلت الفئران السكر والقمح والخضروات وكل شيء موجود داخل المطبخ حقنا !

حتى بصيرة البيت نفسها قحطوها، وصرت أشارعهم  فيما بعد على شبرين أعيش فيهما أنا وأسرتي بسلام، لا عد نشتي عصارة، ولا كهرباء، ولا أم الجن.

وما الذي يمكنني فعله الآن وقد أصبح كل شيء في منزلنا مطروحًا تحت المراقبة؟! جهاز التلفون والتلفاز وعداد الكهرباء أيضًا، وكل ذلك حدث على ذمة البحث عن خلية “شمعة أبو دمعة” الإرهابي الذي أحرق العصارة، وأحرق أعصاب العالم وهرب.

المؤلم أن ذلك كله حدث لبيتنا على مرأى ومسمع من هيئة “الدمم المتحدة”، ولم تحرك ساكنًا، ولا حتى فئران حارتنا أنفسهم سلموا بأن المتهم الوحيد في إحراق العصارة هي مؤسسة الكهرباء.

وأما الذي يفطر القلب ويفقع المرارة معًا، هو  أن كل ذلك الضيم حدث و”دمم مخبازة الشرق الأوسط تتفرج علينا ومشغولة – كما العادة – بالصراع الجانبي وب”المضرابة” بينها البين !

وبسبب هذا التخاذل المستمر من دمم مخبازة الشرق الأوسط أطبقت فئران الدمم المتحدة الحصار الجائر على مطبخ بيتنا وتحول  هيكل العصارة الحارقة إلى مزار لفئران “الهلوكست”!، ومش بعيد بكرة أو بعده يتحول بيتنا بأكمله إلى وطن قومي لفئران العالم المضطهدة؟!

————————————-

الدمم: القطط

*كاتب يمني ساخر.

   
 
إعلان

تعليقات