Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

جون ماكسويل كوتزي روائي وناقد وأستاذ جامعي، ولد في عام 1940 بجنوب أفريقيا، ويعيش حاليًّا في أستراليا، نال جائزة البوكر البريطانية مرتين عامي 1984و 1999، وفاز بجائزة نوبل عام 2003، حاول الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه لم ينجح بسبب نشاطه السياسي ومشاركته في الاحتجاجات ضد حرب فيتنام، حيث تعرض للاعتقال ثم أسقطتْ عنه التهم في عام 1971، من أهم أعماله الروائية: في انتظار البرابرة، عصر الحديد، قلب البلاد، سيد بطرسبرج، إليزابيث كاستلو، الرجل البطيء، حياة مايكل كي وأوقاته، خزي، بالإضافة إلى روايته التجريبية “يوميات عام سيئ” التي سنناقشها في السطور اللاحقة.

صدرت رواية “يوميات عام سيئ” في نسختها العربية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، عام 2009، وترجمها إلى اللغة العربية د. أحمد هلال يس.  

تشبه هذه الرواية الخطوة التي قام بها رائد الفضاء نيل آرمسترونغ حين وضع قدمه على تراب القمر.. هذه الرواية تمثل خير تمثيل التيار الفكري والأدبي المسمى (ما بعد الحداثة).

لقد ابتكر هذا الروائي القادم من جنوب إفريقيا شكلًا جديدًا لكتابة الرواية، وامتلك من قوة المخيلة والجرأة على التجريب ما مكنه من كتابة رواية من ثلاثة أقسام مترابطة فيما بينها بخيط سردي جامع، وهذه الأقسام السردية الثلاثة تجري على الصفحة في وقت واحد معًا، وكأننا في مضمار لسباق الخيول، وتفصل فيما بينها خطوط متوازية، وكأننا نشاهد شاشة مُنقسمة أفقيًّا إلى ثلاثة مسارات للفيلم نفسه، ولكل مسار مشاهده الخاصة المستقلة، وتكنيكه المختلف في التصوير بالكاميرا.. لا ريب أنها تقنية سردية عسيرة التطبيق، وتحتاج إلى مهارة فائقة، وتركيز عالٍ لإحكام ربط هذه الأجزاء السردية الثلاثة ببعضها ربطًا محكمًا.

لقد غامر كوتزي بدخول غابة بكر لم يجرؤ أحد قبله على ولوجها، ولكنه بعد اجتراحه معجزة الخروج منها سالمًا، فإنني على يقين أن المئات وربما الألوف من كتاب الرواية في شتى أرجاء الأرض سيتعلمون منه هذه التقنية الجديدة، وسوف يسعون إلى تطبيقها في أعمالهم الروائية القادمة.

ربما خلال ثلاثة عقود سنشهد تنويعات لا نهائية لاشتغال الروائيين على هذه التقنية، وهذا قد يشبه الموجة التي اكتسحت العالم في استخدام تقنيات (الواقعية السحرية) خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي.

تنقسم رواية كوتزي إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول الذي يحتل أعلى الصفحة يضم مقالات فكرية غريبة، تخلو من الطابع الجاد وتبدو أقرب للأدب، وأفضل توصيف لها أنها تشبه فتح جمجمة فيلسوف واستخراج ما في مخه من أراء شخصية شاذة وغير مألوفة، وأفكار مكبوتة غير ممكن البوح بها، بسبب السطوة الأخلاقية للمجتمع، ونجد مثالًا لهذه الآراء في المقال المعنون بـ “الإرهاب” الذي يدين فيه كاتب المقال عودة الرقابة إلى المجتمعات الديمقراطية برضاها التام، وموافقتها على قيام الدولة بالتجسس على الاتصالات الهاتفية والإنترنت، والقبول بصدور تشريعات في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا واستراليا تضع قيودًا على حرية التعبير، كالقانون الذي يُجرم من يمتدح الإرهابيين أو العمليات الإرهابية علنًا.. ويوضح كاتب المقالات وجهة نظره:

“جعلت أسائل نفسي في دهش وحيرة: أين نجد ذلك الكيّس الفطن الذي يُثني على الإرهابيين المتأسلمين.. هؤلاء الشبان الرجعيون المتزمتون الذين يقفون من الناس موقف الوعاظ فوق المنابر يميلون صلفًا وتيهًا بورعهم وتقواهم الذين يفجرون أجسادهم في الأماكن العامة ليقتلوا من يحسبونهم أعداء الدين؟ لن نعثر على مثل هذا الشخص في أي مكان بطبيعة الحال.. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يكدر عليّ هذا القانون صفوي من منظور مجرد بحت، وهو انتهاك حرية التعبير؟”.

وفي مقال آخر عنوانه “القاعدة” يحتج على السهولة التي تلفق بها التهم لأبرياء والزعم بأنهم ينتمون لتنظيم القاعدة، ومحاكمتهم أحيانًا لمجرد أن لديهم “نوايا” إرهابية، قائلًا عن هذا النهج إنه يدل على استحواذ الوساوس والهواجس على الأذهان لحد المرض.

ومن المقالات المثيرة للجدل “مضاجعة الأطفال”، وكما نستشف من العنوان فإن كاتب المقالات يُفارق المعتاد من الآراء، ويطرح رأيًا غير مقبول اجتماعيًّا.

في القسم الأسفل من الصفحة تتحرك عربة السرد وتشرح لنا سر كتابة تلك المقالات، حيث نتبين أن كاتب المقالات هو روائي ذائع الصيت، في الثانية والسبعين من العمر، يكتب باللغة الإنجليزية ويقيم في أستراليا، وأنه يكتب تلك المقالات لصالح دار نشر ألمانية تحمل اسمًا عجيبًا (برونو جايشتلر أوف ميتفوخ فرلاج جميه)! وأنه استجاب لفكرة الناشر بإصدار كتاب جماعي عنوانه “آراء تنضح بالقوة” يُسهم في تحريره ستة من كبار الكتاب في العالم، على أن يصدر الكتاب باللغة الألمانية في نهاية الأمر.. تقع عينيّ كاتب المقالات على شابة فائقة الحسن وهي تنشر الغسيل مرتدية ملابس غير محتشمة فيقع من فوره في هواها، ويضطرب كيانه كله كشاب غر. يحوم حولها فترة من الزمن حتى تمكنه الفرصة من تجاذب أطراف الحديث معها وإقناعها بالعمل سكرتيرة له، يُغريها بمقابل مادي ضخم لتصُفّ له مقالاته – تلك التي نقرؤها في أعلى الصفحة – على الكومبيوتر، ويتحجج بأنه لا يجيد التعامل مع لوحة مفاتيح الكومبيوتر، وما أن توافق (آنيا) على طلبه حتى يبزغ في منتصف الصفحة القسم الثالث الذي تنهمر فيه دفاقة مشاعر الاثنين: كاتب المقالات الشيخ الذي شارف على نهاية العمر، والشابة ذات الفتنة الطاغية التي تقوم بأعمال الصف والتحرير.

يتحرك السرد بقوة في القسم السفلي من الصفحة – القسم الثالث – حينما تبرز شخصية (آلن) وهو عشيق (آنيا) وشريكها في السكن، الذي يشعر بالغيرة الشديدة من الكاتب الشهير ويظن ظن السوء بحبيبته (آنيا).

أشعر بالخجل من هذا الإيجاز المخل، لأن ما في جعبة الرواية من أحداث مدهشة وتفاصيل صغيرة مزدوجة المعاني والتقاط عبقري للمشاعر الدقيقة المرهفة ما لا يمكن بأي حال من الأحوال اختصاره أو حتى مجرد التعبير عنه بكلمات قليلة.

يهوى كتاب الرواية الكبار في العالم تناول موضوع العشق المُحرّم بين شيوخ شهوانيين طاعنين في السن وفتيات يافعات في أعمار الورد. ونُذكِّر بالرواية الأكثر شهرة (الجميلات النائمات) للروائي الياباني ياسوناري كاواباتا التي أثارت عاصفة من الإعجاب الدولي لم تتوقف حتى اليوم، وكذلك بالرواية الممنوعة (لوليتا) للروائي الروسي فلاديمير نابوكوف التي حققت مبيعات عالية في الغرب، وأنتج عنها فيلم سينمائي يحمل الاسم نفسه. ولعلنا لا ننسى أيضًا الرواية الأخيرة للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز “ذكريات غانياتي الحزينات” التي جرّت على كاتبها الكثير من الانتقادات اللاذعة، واعتبرت عملًا أقل جودة من أعماله الروائية السابقة التي حققت مكانة شاهقة في سجل الأدب الإنساني.

نستطيع أن نضم رواية “يوميات عام سيئ” لهذه الجردة السريعة من الروايات ذات الشهرة العالمية، والمكتوبة حول قصة حب بين رجل هرم وفتاة تصغره سنًا بكثير.

سوف أمتدح رواية كوتزي وأضعها في مرتبة فنية أعلى من سواها، أي من تلك الروايات التي ساهمتْ في معالجة تلك المشاعر غير اللائقة.. وأسباب هذا التفضيل أن رواية كوتزي “يوميات عام سيئ” قد قدمت موضوعها في قالب فني مبتكر غير مسبوق، كما أنه تقدم على منافسيه بخطوة للأمام حينما حمل معول النقد الذاتي، وكشف مقدار الفسق الكامن خلف ذلك الغرام غير المتكافئ، كشفه بقسوة وصراحة تامة دون مواربة.

وعودة إلى القالب الفني يلوح لنا – وهذا ليس مؤكدًا – أن تقسيم السرد إلى ثلاثة مستويات يرمز إلى الإنسان ذاته.. حيث يُماثل الجزء الأعلى (المقالات) الرأس أو العقل، وهو أيضًا يشير إلى حياته العامة. ويُماثل الجزء السفلي من الصفحة الجهاز التناسلي للإنسان أو بمعنى آخر حياته الخاصة.. تلك الناحية السرية التي لا يعرفها أحد عن حياة الفلاسفة والشعراء والروائيين والفنانين! وأما القسم الأوسط من الصفحة فإنه يُناظر القلب ومنطقة المشاعر، وهي منطقة وسطى نتشاركها مع أشخاص محدودين جدًا، وفي رواية كوتزي فإن كاتب المقالات يتشاركها مع شخصية واحدة فقط هي (آنيا) ينبوع إلهامه والمصدر الخفي لسعادته.

ومن الجدير بالملاحظة أن السرد في القسم الأوسط (المشاعر) هو الذي انطفأ أولًا مُخلفًا وراءه بياضًا محزنًا، تلاه انطفاء القسم العلوي (العقل) فتوقف سيل المقالات الصاخبة الرنانة، ولم يبق صامدًا حتى الصفحة الأخيرة سوى القسم السفلي (الشهوة) مُعلنًا في نهايته عن القدر المحتوم لشخصية أدبية عظيمة كانت ملء السمع والأبصار في أقطار الدنيا. وهذه النهاية (الموت) تعبر عنها (آنيا) بكلمات مؤثرة:

“سوف أشد على يده وأربت بالأخرى على ذراعه وأطبع قبلة على جبينه.. قبلة حنان وعطف تذكره دومًا بما خلفه وراءه.. أقبله قبلة النوم هامسة في أذنه برقة: اضطجع في طلاب النوم ولتنعم بلذيذ النوم يا سنيور “ك” فتثمل بروح جديدة تملأ أعطافك وتسكرك بالإلهام، ويحلق قلبك في آفاق بعيدة من أحلام المنى ويخفق خفقة فرح سماوي يجوز بك عالم الزمان والمكان”.

وفي القسم السفلي من الصفحة تظهر ثلاثة أصوات هي: صوت كاتب المقالات، وصوت آنيا التي تقوم بصف وتحرير المقالات، وصوت آلن عشيق آنيا الغيور. وعلى ألسنة هؤلاء الثلاثة سوف نسمع هجاءً مقذعًا حول المقالات وكاتبها، ونقدًا قاسيًا يتعلق بالوقار والتهذيب الزائف الذي يتوارى خلفه المؤلف الشهير ذو العينين الفاسقتين.. ما يجعلنا كما أسلفنا سابقًا نقف على عتبة جديدة كل الجدة، ونرى مؤلف المقالات يقوم بجلد نفسه علنًا تحت سمع وبصر القراء، وتعديد خطاياه الخسيسة والدنيئة التي قارفها دون حياء أو حرص على صورته العامة.

إن أي متابع حصيف للأدب الجيد سوف يدرك عند قراءة رواية “يوميات عام سيئ” للجنوب إفريقي جون ماكسويل كوتزي أنه أمام عمل يُشكل فتحًا جديدًا في عالم الكتابة الروائية.

* كاتب وروائي يمني

   
 
إعلان

تعليقات