Accessibility links

الصورة الشعرية والبيان الأدبي في رواية “العُذيرة”


إعلان

عبدالباري طاهر*
العذراء وتصغير الاسم “العُذيرة” يحتوي قدرًا داهشًا من الإبداع السردي والشعري، واستمرار امتزاج الحقيقة بالخيال، والواقع بالخرافة، والحياة بالموت، والصدق بالكذب.

في العمل الروائي الثاني للروائي أحمد السري، فيما قرأت، يحشد السارد المتمكن معارفه الواسعة، واطلاعه العميق على المعارف الصوفية، وطبيعة البيئة اليمنية، والاعتقادات المتوارثة في منطقته الحجرية بامتدادها اليمني، وبالفكر والثقافة الإسلامية.

الرواية “العذيرة” المصغرة ذات الاسم العميق الرؤية، زاخرة بالخبرة البشرية، والإدراك الباصر للنفس البشرية وأغوارها، ولنشأة الحداثة والتجديد في خيباته الكبيرة في اليمن، ولنفوذ وسطوة الخرافة والأسطورة التي غطت على واقع العذراء (عفة) بنت سائس خيول الرسوليين، واختصرتها في العذيراء، وجعلت منها نافذة، بل بابًا واسعًا على واقع منطقة معينة في جزء كبير من القرن العشرين وامتداده التاريخي.

تبدأ الرواية بالإهداء إلى صديقه عبدالكريم الرازحي الذي أضاء بكلمات قليلة منه دروب هذه الرواية. يتحدد زمن الرواية بزمن الحرب؛ ويعني الحرب الجمهورية – الملكية، وبين الشمال والجنوب. قصة إعدام منصور زوج ورود في المنطقة الواصلة بين الشمال والجنوب، أما المكان فقبر “العُذيرة” الممتد لليمن كلها.

اعتاد الصحفي البرهان زيارة قبر العذيرة (ولية من أولياء الله الصالحين) كلما زار قريته. عرف بمحاولة نبش قبرها. يتهم البعض ابن بهلول المشهور بـ”ابن باهية” بأنه من قام بمحاولة نبش القبر؛ فهو الوحيد الذي يتحدث عن وجود كنز في القبر. لا يصدق برهان الإشاعات؛ لأنه يعرف ابن باهية. يخزّنان معًا؛ فيخبره ابن باهية أن “طاهش”، و”ناهش”، وهما أيضًا قبران مشهوران، هما من قام بمحاولة النبش، وقد أطلق البهلول عليهما الرصاص؛ فهربا، ويتوقع تكرار المحاولة.

كرامة هذه الولية مقدرتها على الشفاء من الأمراض الجلدية. يفِدُ إليها الكثيرون والكثيرات من مختلف المناطق يتبركون بتراب القبر، وبتسخين الزيت في الحجرة المنقورة لدهن موضع الألم، وتسمى الحجرة بــ”سرة العذيراء”، وهي البطلة الحقيقية، وقبرها وسرتها هما البؤرة.

ابن باهية المتقمص “البهللة” محب للعذيراء، وموهوم بوعد الحصول على كنزها. أبوه من محبيها وعشاق كراماتها، وهو ضحية إمام المسجد عبداللطيف الذي يخشى منافسته فيهديه كتاب “عذاب القبر وأهوال يوم القيامة وجهنم”؛ فيصاب الأب بالخوف حد الجنون؛ فيدعي النبوة والألوهية. يقف وسط المطر الشديد صائحًا أنه المنقذ، وأنه رسول وإله. أمة ربة بيت محبة للعذيراء وكراماتها، محافِظة على كتب زوجها.

شخوص الرواية كثيرة، وإبداع السارد المقدرة الفائقة على رسمها، والتحكم بمصائرها في تساوقٍ بديع، والتخفف من حمولة الأدلجة، والتسيس، والتنميط، وتزييف الواقع.

السرد المائز يبدأ من قبر العذيراء، وينتهي إليه. الشخوص: الصحفي برهان البرهاني؛ وهو السارد (ضمير المتكلم). ابن الباهية – الشخصية الثانية المحورية. البهلول مدّعي النبوة. عبد اللطيف – إمام المسجد الخطاب. سلطان المسعود – الأب الروحي، وكبير القرية. بلال وأبناء سلطان عبدالمنان وآخرون. حارسة القبر – الزخرف زوجة البرهان، وهي إحدى المحاور. وهناك شخصية المراوني الغيور، أحد أبطال الثوار المدافعين عن الثورة يموت مهملاً منسيًّا يجتر المرارات والبؤس.

يتراوح السرد بين ضمير المتكلم والغائب. أحلام اليقظة تتخذ مساحة واسعة في السرد المتخيل، أما الأحلام المنامية القليلة، فتتساوق مع الواقعي؛ لخلق رؤية واحدة منسجمة ومتنامية في صياغة راقية ومتقنة.
السارد أحمد السري ماهر في رسم الشخصيات، والربط العميق بين الواقعي والمتخيَّل، فالبطلة العذيرة لها رائحة الواقع؛ فهي عفة ابنة سائس خيل الملك الرسولي، واسمه حسان تتربي مع أبيها ومع ابن عمها أحمد، ويتعاشقان، ويبرعان في السباق وترويض الخيول، ويحرس عفة كلبها “صمصام” – زعيم الكلاب. يحاول ابن أمير القلعة كسب ود عفة، فيفشل معها، فيحاول اجتذاب ابن عمها فيفشل أيضًا، ويشتبك معهما؛ فيقتل؛ فيهرب حسان وابنته عفة إلى منطقة نائية، ويقيمان مخيمًا، ويعمد الكلب صمصام إلى استخدام النباتات في علاج جراحات عفة؛ فتُشفى، وتتعرف على هذه النباتات، وتداوي بها جيرانها؛ فتشتهر، ويفد إليها الكثيرون للتداوي، يموت صمصام، فيدفنه حسان مدعيًا أنه قبر ابنته العذراء عفة. ينزح معها إلى عدن، ويلتحق بالطاهريين، ويصبح اسمه علوان الجبلي.
السارد أستاذ أكاديمي أديب مثقف واسع المعرفة. منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو طالب في الجامعة بدأ بكتابة القصة القصيرة، والانغماس في الحياة الأدبية والثقافة. لغته الأدبية اكتسبها في مراحل باكرة من أسرته المحتفية بالعلم والتعليم. براعته في القصة أكسبته مهارة فائقة في السرد والبحث والنقد والشعر الحديث، ومكنته من صياغة سرد يمتزج فيه النثري بالشعري، والواقع بالخيال، والصورة الشعرية بالبيان الأدبي؛ فداخل رواية “العذيراء” سرديات صغيرة تترافد لتشكل النص، فأسرة البهلول سردية، وأسرة سلطان المسعود وعلاقتها بالقضاء والنفوذ والوجاهة والمال والسلطان وحكم الإعدام الذي أصدره القاضي سلطان ضد منصور العائد من عدن، ورغبة الشيخ صديق سلطان، والطامع في ورود زوجة منصور، جزء أصيل من السرد، وسبب – أيضًا – في توجه سلطان للتصوف، والتكفير عن خطيئة الحكم الجائر الذي تبيّن بطلانه، وأدانه المتظاهرون.

قراءته للتاريخ اليمني، واطلاعه على معارف العصر، وجمال لغته الأدبية مكنه من تقديم سردية متقنة للارتقاء بخرافة قبر الكلب صمصام؛ ليصبح مزارًا وقبلة تبرُّك واستشفاء للزائرات والزوار. وفي الرواية وقفات وانتقالات موروثة من أسلوب “ألف ليلة وليلة”، كما أن البعد النفسي حاضر في السرد، ويحظى الحوار والحجاج المنطقي والمعرفي بحيز لافت. الشعرية تهيمن على جل صفحات الرواية ذات الـ 242 صفحة، من قطع متوسط، وفيها قراءة مائزة لوفاء الكلب. ويرجع السارد إلى كتاب “تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب” لمحمد بن المرزبان البغدادي المتوفى في القرن الرابع الهجري.

وفاء الكلب مشار إليه في القرآن الكريم في سورة الكهف في حراسة أهله، والصوفية ينسبون إلى الكلب عدة فضائل منها: القناعة، والوفاء، والصبر، والسهر في الليل والنوم في النهار، وهي صفات الصالحين، ويقول شاعر صوفي من تهامة على لسان الكلب:

ألا إن لي أهلين أهل ترحلوا     وأهل أقاموا أي أهل أتبعُ؟

أقام الذي لا أستطيع فراقهم    ومضى الذي لفراقهم أتقطعُ

في سرديته المائزة لنشأة الخرافة ذات الجذر التاريخي يقرؤها في ارتباطها بالنفع العام؛ فعفة (العذيراء) كانت تداوي الأمراض الجلدية؛ فاستمر التماس نفعها بعد وفاتها.
ويقينًا، فإن اهتمام الناس بابن علوان، والسودي، وبلغيث بن جميل، والحضرمي في الضحي، والبجلي، والحكمي، والشمسي في باجل، والخزان في القطيع، والأهدل، كلهم في القرون الوسطى، كانوا مصدر غوث وعون وحماية للفقراء، وظل حب الناس ووفاؤهم قائمًا، ويلجؤون إليهم، وهم أموات، كما كان يلوذ بهم أسلافهم في حياتهم.
الرواية عميقة الغور فيها معارف عدة، لها علاقة بالتاريخ والاجتماع وحوار الآراء، وجدل الماضي والحاضر وثقافتهما، كما أن إلمام السارد بالفكر الصوفي، وهو أرقى ما عرفه الفكر الإنساني، تجد أثره العميق في أبحاثه ودراساته وأعماله السردية.

*نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق

   
 
إعلان

تعليقات