Accessibility links

إعلان

اليمن – “اليمني الأميركي”:

«بعد نهاية الدوام الوظيفي يوميًّا كنتُ أذهبُ إلى الكشك، وأشتري خمس صُحُف في اتجاهات مختلفة لِأقرأ وأعرف كيف تُفكّر النُّخب، لكن، الآن، كلّ الصُحف توقفت، وما يصدرُ في صنعاء هو بضع صُحف تنطقُ بصوت واحد هو صوت الحرب»، يتحدّث سليم، وهو موظف حكومي بصنعاء كان، قبل الحرب، من عشّاق القراءة اليومية للصُّحُف.

«صرتُ أُعزّي نفسي بشراء أعداد قديمة من مجلات عربية صدرت ووصلت إلى اليمن قبل الحرب، وتُباعُ في الأكشاك، وأقرؤها لقتلِ الوقت؛ لِأنه لم يعد هناك صُحف ومجلات عربية وأجنبية تصلُ إلى البلد خلال الحرب… على الرغم من أنني عندما أقرؤها أتحسّرُ على بلادي، وأنا أقارنها بحال تلك البلدان؛ فأبكي حظّنا السيّئ مع جيران السوء والحكام الفاسدين»، يُضيف سليم.

إغلاق وإيقاف

تسببت الحرب المستعرة في اليمن، منذ أكثر من خمس سنوات، في إغلاق وإيقاف صدور أكثر من مئة إصدار صحافي (جرائد ومجلات) كانت تمتلئ بها الأكشاك والمكتبات في صنعاء وغيرها من مُدن اليمن، بينما لم يعد يصدر، حاليًّا، بصنعاء، سوى بضع صحف تتبنّى موقف السلطة هناك، فيما ازداد نسبيًّا عدد الصحف الصادرة في عدن خلال الحرب عمّا كان عليه وضعها سابقًا، ووصل عددها إلى عشر صحف، إلا أنها، للأسف، تعيشُ حرية محدودة، وإنْ كانت معاناتها أقلّ مما تعانيه الصحافة في صنعاء، لكن مجمل القول إنه لم يعد هناك صحافة يمنية خلال الحرب بما يوازي ما كانت عليه قبل الحرب.

على صعيد الصحافة الإلكترونية نجدُ كثيرًا من الصُّحف التي توقفت ما زالت تعملُ من خلال مواقعها الإلكترونية، التي تُدار، غالبًا، في مناطق خارج سيطرة السلطة في صنعاء.. وعلى ما شهدته الصحافة الإلكترونية من زخم خلال الحرب، إلا أنها لم تتجاوز متاهة التسريبات والأخبار المعبّرة عن مواقف طرفية (الممول)، الأمر الذي أفقدها كثيرًا من مصداقيتها، بدليل أنّ القارئ لا يجدُ فيها مَن يعبّر عنه (كضحية للحرب)؛ لِأنّ جميع منابر الإعلام تخدمُ مموليها، وهم في الغالب جزء من دائرة الصراع.

ولاء نِسبِي

«الصحافة في الأوضاع الطبيعية في نظر مَن يحكمُ هي أنْ تُدين بالولاء النّسبي له… وفي نظر مَن يعارض هي أنْ ترتدي نظارته السوداء»، يقول عبدالله الصعفاني، وهو أحد أهم كُتّاب العمود في اليمن، مضيفًا لصحيفة (اليمني الأميركي)، «ومع ذلك فالنتيجة في المجمل هي الوصول إلى ما يُسمّى التنوع الصحافي المُواكب للتعدد الحزبي».

 أما في زمن الحرب فيرى الصعفاني أنّ «ما يحدثُ هو أنّ كلّ طرف في الحرب لا يعترفُ سوى بإعلامه… ويرى الآخر الصحافي جزءًا من قوة خصمه في الحرب، بل وأحد أذرعه»، مؤكدًا أنه «في ضوء نار الاحتراب تتراجعُ الصحافة حدّ الانحسار عند كلّ طرف وفقًا للمناخ المحيط… ولذلك فالصحافي مُطالَب ضمنيًّا باختيار موقعه إما مع أو ضد، وعليه تحمّل تبعات اختياره سلبًا وإيجابًا، وهُنا فأنت مَن تختار، والبائس هو مَن يحاولُ التوفيق بين تقليد الغراب وتقليد الحمامة؛ فيظهرُ في وضع مِهني يصعبُ حتى على الزنديق».

وأردف، «إذا كان كلّ شيء جائز في الحب والحرب، كما قال حكيم، فإن الصحافة بمعناها المِهني الباحث عن الحقيقة غير جائزة؛ لِأنّ الإعلام يصيرُ ضمن جبهات الحرب، واستحقاقات قناعة كلّ طرف بأنّ عليه فقط استحضار القول (الذي تكسب به العب به)، ولا استثناء للصحافة والإعلام».

ويرى الصعفاني أنه «في الأحوال الطبيعية يكون الإعلام في البلدان محدودة الحرية ومحدودة التطور الثقافي والسياسي، يكون مجرد ديكور لمن يعين ومَن يدفع ومَن يراقب… فتراه يتّسمُ بالببغاوية والسطحية… يرسلُ المادة الإعلامية ولا يستقبلُ الصدى… بل ولا يهمه… فكيف سيكون حال الصحافة والصحافي في مناطق الاحتراب؟!»، «أما لو أضفنا إلى المناخ الذي يُحيطُ بالمهنة في زمن الحرب الاتفاق غير المكتوب بين الأطراف بعدم أحقية الصحافي تحديدًا في المرتب؛ فلك أنْ تُطلِق الخيال للحالة الصحافية التراجيدية»، يقول عبدالله.

سطورٌ من التراجيديا

يُمكنُ قراءة معاناة الصحافة في اليمن أثناء الحرب، من خلال انعكاساتها على عدة جوانب: أولها: الحرية المفقودة، ولو كانت قبل الحرب بنسبة هامشية؛ إلا أنّ هامش الحرية الذي كان متوفرًا قبل الحرب لم يعد موجودًا حاليًّا، ومعه ارتفعت مؤشرات الانتهاكات بحقّ الصحافيين والمؤسسات الإعلامية في كلّ مناطق البلاد دون استثناء، وثانيًا: سنتحدث بدرجة رئيسة عن المعاناة المعيشية للصحافيين العاملين في مناطق سيطرة سلطة صنعاء إثر تحوّل العاملين في الصُحف الحزبية والأهلية والمستقلة إلى البطالة مع توقّف صدور تلك الصُّحف، وكذلك توقّف صرف مرتبات العاملين في المؤسسات الصحافية الحكومية؛ والذين يشكّلون معظم أعضاء الأسرة الصحافية اليمنية؛ الأمر الذي ارتفع بمؤشرات البطالة لدى قطاع كبير من العاملين في هذا المجال؛ ما اضطر بعضهم للجوء إلى مِهن أخرى؛ فصار لبعضهم دكاكين أو حافلات أو سيارات أجرة يعملون بها؛ لإعالة عائلاتهم.

(محمود) صحافي يعملُ في مؤسسة صحفية حكومية استدان مبلغًا من أحد أقاربه بجانب ما تحصّل عليه من بيع ذهب زوجته، وفتح دكانًا لبيع البهارات في حي شعوب بصنعاء، وصار مستقرًّا من خلال ما يوفره له من عائد، وعلى مدى ثلاث سنوات انقطعت صلة محمود بالصحافة، «كِدتُ أخرجُ للتسول.. لقد عشتُ ظروفًا صعبة عملتُ فيها على دراجة نارية مستأجَرة عقب توقُّف راتبي وانقطاع مصادر الدخل من الصحافة؛ فكان هذا المشروع الذي صار يغطّي احتياجات عائلاتي الضرورية من إيجار السكن ومتطلبات المعيشة»، يقول محمود متحدثًا عن زملاء له صار بعضهم يبيعُ القات، وبعضهم يبيعُ خضروات، وثالث يعملُ في العقارات، وآخر فتح بقالة… «لِأنّ الوضع صعب».

عدن   

في عدن تصدرُ ثلاث صُحف يومية، هي: 14 أكتوبر الحكومية، والأيام، وعدن الغد، وصحيفة شِبه يومية هي صحيفة الأُمَناء، وصُحُف أسبوعية، هي: الشارع (كانت تصدُر في صنعاء)، وعدن تايم، والمقاومة الجنوبية، ويافع نيوز، واليمن الاتحادي، و4 مايو.

يقول سكرتير تحرير صحيفة (الأيام)، ذويزن مخشف، إنّ الحرب أثّرت في الصحافة في اليمن بشكل عام منذ اندلاعها في مارس 2015م.

وأضاف لـصحيفة (اليمني الأميركي): «في عدن توقفتْ جميع الإصدارات الصحافية لِأكثر من خمسة أشهر على الأقل، ولكن سرعان ما عادت للإصدار بعد خروج الحوثيين من المناطق التي سيطروا عليها في عدن».

وأردف: «في العموم عادت الصحافة المحلية، وازداد عدد الإصدارات مع ازدياد نشاط الصحافة الإلكترونية التي أخذت حيزًا أكبر من الاهتمام والتوسّع؛ فهناك عشرات المواقع الإخبارية تعملُ في عدن».

لكن الصحافة في عدن، على ما فيها من حرية، فهي لا تتجاوزُ طرف الحرب هناك إلى الطرف الآخر.

وهنا نسمعُ السلطات في صنعاء وعدن يتحدثون عن ظروف الحرب؛ وبالتالي فالحديث عن حريةٍ أمر غير مقبول من وجهات نظرهم؛ لِأنّ ظروف الحرب تقتضي وضع البلاد تحت حُكم الطوارئ.. لكن (مخشف) دافع عن وضع الصحافة في عدن، وما تتمتع به مقارنة بما هو عليه الوضع في صنعاء.

الصحافة ليست تُهمة

مما سبق يتضح أنّ الصحافة في اليمن تُعاني خلال الحرب نزيفًا لم يسبِق أنْ عاشه البلد قبل هذا؛ إذ امتدت آثار الحرب لكل شيء تقريبًا، «وإذا ما نظرنا إلى ما يعانيه الصحافيون اليمنيون في وسائل الإعلام المختلفة فإنّ الصورة تبدو قاتمة جدًّا، إذ أصبح عمل هؤلاء محفوفًا بالكثير من المخاطر، وبحسب تقارير دوليه فإنّ اليمن من الأماكن الأكثر خطورة وتهديدًا لحياة الصحافيين»، ويُشيرُ الصحافي عبدالرحمن الشيباني إلى «عشرات الصحافيين اليمنيين ممن استُشهدوا وهُم يمارسون عملهم، والكثير منهم زُجّ بهم في السجون دون تُهمٍ محددة، والبعض منهم حُكِم عليهم بالإعدام لا لشيء إلا لِأنهم كان يمارسون عملهم الصحافى، وآخرون مفقودون لا أحد يعرفُ عنهم شيئًا».

وأضاف الشيباني أنّ «كلّ الأطراف المتصارعة تتحمّلُ مسؤولية ذلك؛ إذ أخذت في التحريض ضدهم، وتصفهم بأنهم أخطر من الرصاص والبارود، وهذا الأمر يُعدّ تصريحًا مباشرًا بالقتل، حيث وجد الصحافيون اليمنيون أنفسهم وسط رحى حربٍ لا ترحمُ، ودون تُهمة أو جريمة اقترفوها سوى أنهم صحافيون؛ وهذه المهنة صارت تُهمة يُعاقَبُ عليها هؤلاء، للأسف الشديد!»، متحدثًا لصحيفة (اليمني الأميركي).

لم تقتصر المعاناة على الصحافة المحلية، بل امتدت لتُحاصر وتخنق مراسلو وسائل الإعلام الخارجية الذين تعرض ويتعرض مَن تبقّى منهم لمضايقات لا حدود لها، ما اضطر الكثير منهم، ومعهم عاملون في الصحافة المحلية لمغادرة البلاد بحثًا عن مكان آمِن… ليقعوا تحت طائلة متاعب الهجرة.

وانطلاقًا من كلّ ذلك تعيشُ الصحافة اليمنية واقعًا هو الأكثر تعقيدًا ومأساوية على مدى تاريخها الممتد لِأكثر من قرن؛ ونتيجة لذلك فإنّ معظم كوادرها عاطلون في البيوت، وعدد منهم قابعون في السجون، والبعض الآخر سقط شهيدًا، وهناك مخفيون؛ والغالبية بدون مرتبات، يعيشون وضعًا إنسانيًّا صعبًا.

«لكن على الرغم مما نعيشه خلال الحرب؛ فنحنُ ننتظرُ فجرًا لا بُدّ أنْ يُشرِق… وستعود اليمن أفضل مما كانت، ونعود معها للذهاب إلى الكشك يوميًّا، وشراء الصُّحف لكلّ الاتجاهات؛ فالصحافة هي عنوان الحياة»، يبتسمُ (سليم) بحزن.!

   
 
إعلان

تعليقات