Accessibility links

الشاعر صاحب الأحوال عبدالله بامخرمة 884 – 952هـ


إعلان
إعلان

وضاح عبد الباري طاهر*

عمر بن عبد الله بامخرمة السيباني الهجراني أحد أقطاب العلم والشعر والتصوف بحضرموت. ذكره المؤرخ عبد القادر العيدروس في كتابه (النور السافر عن أخبار القرن العاشر)، وترجمه المؤرخ محمد بن عمر الطيب بافقيه في كتابه (تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر)، ص312، فقال: “الفقيه الصالح، شجاع الدين، عمر بن عبد الله بن أحمد بامخرمة… كان من أهل الأحوال والحقائق والأسرار والدقائق، وكان له كرامات خارقة، ومنامات صادقة، وكان مخرقًا في الظاهر، معمور الأسرار، ومعمور السرائر.

اشتغل بطلب العلم الظاهر على والده، واجتهد في العبادة والتقشف، وأخذ الطريقة عن الشيخ العارف بالله تعالى الشيخ عبد الرحمن بن عمر باهرمز نفع الله به. قال رحمه الله: وقفت بين يدي شيخي وسيدي عبد الرحمن بن عمر باهرمز عشية الإثنين ثاني رجب، وقال لي: قد حكمتك، وأنا شيخك فيها… وأنت نائب عني، بل أنت أنا. قلت: إن لي وردًا من أول آية الكرسي الله “لا إله إلا هو الحي القيوم…”، وهو ألف كل يوم. قال: ابق عليه، وإن زدت منه، فهو خير لك، وأبشر فإنهم معطينك أكثر مما توهم…

قال: وكان كثيرًا ما يأمرني بالتلبس بأفعال العامة، ويدلني على الظهور بما لا ينسب فاعله إلى طريقة القوم، نفع الله به. قال: واستأذنت شيخي في دخول الأربعينية، فقال لي: أربعينيتك أن تحفظ لسانك، وعينك، وأذنك من المحرمات أربعين يومًا، وأما الأربعينية المعروفة فلا تدخلها”.

قال الفقيه عبد الله باسنجلة: أخبرني الشيخ عبد الله بن محمد بن عمر عباد، قال: اجتمعت بالفقيه عمر بامخرمة عند الشيخ محمد عباد، وحصلت مذاكرة بينهم في علم التصوف، وكان ذلك اليوم رابع شهر شوال سنة اثنتين وخمسين، فقال الفقيه عمر با مخرمة:

اعط المعية حقها * والزم له حسن الأدبْ

واعلم بأنك عبدُهُ * في كل حالٍ وهو ربْ

وأشار إلى بعض الحاضرين، وقال: أتعرف معنى هذين البيتين؟ فقال: لا، فقال: أنتم تضحكون على التصوف. ثم قال رضي الله عنه: أما المعية، فهي الإجلال والتعظيم، وعلم التصوف في هذين البيتين. قال: ولم يعش الفقيه بعد هذا الكلام إلا ستة وأربعين يومًا”.

 وقال عنه المؤرخ محمد الشلي في كتابه (السناء الباهر)، ص378 – 381: العالم الرباني، الفقيه الصوفي الشهير… شيخ التصوف، وحامل لوائه، والبدر المشرق في سمائه. ناظم ما انتثر من المآثر، وفذلكة كمال الأوائل والأواخر”.

“اشتغل بالعلوم الشرعية، والفنون الأدبية، وأخذ ذلك عن والده، والشيخ محمد بن علي باجرفيل، ومحيي النفوس أبي بكر العيدروس. وصحب في الطريق شيوخًا إلى أن رسخ فيها قدمه رسوخًا، وحج بيت الله الحرام، وزار محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام، وأخذ بالحرمين عن جماعة كثيرين، وأنشأ، وهو بالمدينة قصيدة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم مطلعها:

قف بالمطي ضُحىً على الأطلالِ* وأنِخْ بظل نخيلها والضالِ

… وأخذ عن جماعة باليمن بمدينة زبيد، وبندر عدن…، وكان كثير المطالعة في (الرسالة القشيرية)، ثم اشتغل عنها بديوان سيدي عمر بن الفارض؛ فرأى الإمام عبد الكريم القشيري صاحب الرسالة بين النوم واليقظة، وسأله عن عمر ابن الفارض، قال ذلك: يدهلز على الناس بخزعبلاته، والسر في هذا الكتاب، وسر هذا الكتاب في هذا السطر. وإذا فيه: وسئل بنان، ما حد أحوال الصوفية؟ فقال أربعة: الثقة بالمضمون، والقيام بالأوامر، ومراعاة السر، والتخلي عن الكونين.

قال: فنهضت، فإذا الكتاب في يدي…، وكانت تلك النسخة في خلوة لي في المسجد مقفلة، فأنا أروي هذا الكتاب بأسانيد عديدة عن مشايخنا، وأرويه عن مؤلفه.

ثم غلب عليه الحب والشهود والفناء الكلي عن الوجود؛ فأكثر من السماع، حتى من ذوات القناع، وأنكر عليه فقهاء عصره، ومن ثَمّ لم يذكره ولده عبد الله في (ذيل طبقات الفقهاء)، بل ذكر أخاه الطيب بن أحمد، مع أن الفقيه لم تقصر رتبته في العلوم الظاهرة عن رتبة أخيه الطيب”.

وقال العلامة الفقيه المؤرخ عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف في (إدام القوت)، ص684: “ومن أكابر من تدير سيئون الشيخ عمر بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بامخرمة السيباني الهجراني”.

وذكر عن صاحب (السناء الباهر):”أن فقهاء عصره أنكروا عليه بعض الأحوال، منها: أنه يحضر أغاني الفتايا، ويجلس إليهن، وأنهن ممن يضرب الدفوف بين يديه، ويغني بين يديه في المواكب والمجالس”.

ثم ذكر عدم ذكر ولده شيخ الإسلام عبد الله بن عمر لأبيه في ذيل طبقات فقهاء الشافعية للأسنوي، فقال عقب ذلك: “وما صنعه عبد الله بن عمر من إغفال ذكر والده يدلك على تحرٍ شديد، وحيطة هائلة، وماذا عليه لو ذكر فقهه، وأشار إلى بعض أحواله؟! غير أن فرط إنصافه ذهب به إلى أن يتصور أن ذكر أبيه مع ما ينكر عليه يوقعه في شيء من الهوادة، وهو ينزه عدالته عن كل ما يعلق بها من الريب، أو يمسها من التهم، وإنه لمقام صعب إلا على من وفقه الله”.

ثم ذكر جماعة ممن أخذ عنه كالشيخ أبي بكر بن سالم، والشيخ أحمد بن حسين العيدروس.

الثناء على شعره

قال الطيب بافقيه: “وله نظم هو في الفضائل ينبوع، وأكثر من أن يحصره مجموع، وشعره أرق من نسيم الأسحار، وألذ من الروض إذا باكرته الأمطار؛ ولذلك يحفظه أكثر الناس، وانتشر في جميع الجهات، وجمعوا منه مجلدات، وعجزوا عن استقصائه، وقد جمع منه السيد الجليل عبد الرحمن باحسن شيئًا كثيرًا، ورتبه على حروف المعجم، ولم يمكنه جمعه كله”.

وقال ابن عبيد الله السقاف: “أما أشعار الشيخ عمر بامخرمة، فألذ من الوصال، وأحلى من السلسال، وفيها فراسات صادقة عن أمور متأخرة”.

بين الشيخ عمر وابنه شيخ الإسلام عبد الله بن عمر بامخرمة

     يروى أن امرأة توفي زوجها، ودخلت العدة الشرعية، فأرسلت إلى الشيخ عبد الله بن عمر با مخرمة تستفتيه: هل يجوز لها أن تطرق شعر رأسها بالدهن أيام عدتها؟ فأجاب الشيخ عبد الله بالنفي، ولكن والده الفقيه عمر أفتى لها بجواز ذلك، ووجه نقدًا لاذعًا لابنه على تشدده، وأعلمه أنه إذا أراد أن يتشدد، فليتشدد مع نفسه الحرون التي عليه أن يجرعها صاب المجاهدات الصعبة، ومر الرياضات الشاقة، حتى تسكن إلى خالقها، وتنيب إلى باريها، أما الناس، فعليه أن يرفق بهم، ولا يشق عليهم، فقال في ذلك بما يدل على عمق المعرفة بالفقه، ورحمة أهل التصوف:

يابن سالم ورى([1]) القاضي يعسر على الناسْ

ما تغاضى لهم حتى طرقة الراس

وايش يبغى بذا والشرع فيه نِفّاسْ

إن قرعه الحسن يوخذ طريق ابن عباسْ

ما قرا الروضة اللي نصها يذهب الباسْ

وابن عبد السلام أفتى وفي قوله إيناسْ

واشعل البارزي في ضوء شعلته نبراسْ

والشهير الكبير ابن العجيل([2]) أعمق الساسْ

للبناية وللتوسيع فاتبع ولا تاسْ

سامح الناس والنفس إن بغت منك نِفَّاسْ

قلها: لا، ودعها في لظى الضيق تمتاس

علاقة بامخرمة بالسلطة السياسية

عاصر بامخرمة السلطان بدر أبو طويرق الكثيري الذي امتد حكمه من حضرموت إلى ظفار. وفي عصره كانت غزوات القراصنة البرتغاليين لسواحل البحر العربي والمحيط الهندي، وقد قام السلطان بدر بتجهيز أسطول بحري لحماية سواحل حضرموت وظفار لمواجهة هذا الغزو.

وفي شهر رمضان كان النفير العام بالجهاد في مدينة الشحر، بعد أن وصلت الأخبار بأن سفن البرتغاليين تقترب من الشحر، وفي الخامس من هذا الشهر هاجم البرتغاليون الشحر، ودارت معركة استخدم فيها السلاح الحديث: البنادق، والمدافع، والسلاح الأبيض في وسط هذه المدينة، وقد أشرف السلطان بحنكة ودراية واسعة بالشئون العسكرية على سير هذه المعركة، وتحقق النصر العظيم على هؤلاء الغزاة، وولوا هاربين لا يلوون على شيء، وتم أسر أكثر من سبعين رجلاً منهم بفضل هذا السلطان والمجاهدين الحضرميين، وبهذه المناسبة قال الشيخ عمر بامخرمة:

يقول بو عليا بدا بدر السعاده واستنارْ

أضا على الأرض حتى أطفا بنوره كل نارْ

وأمست وجوه الكفر واهل الكفر يعلوها قتارْ

فالحمد لله طاب لاهل الشحر فيها ماء الآبارْ

وفيها قال يمدح السلطان بدر:

الله نصر الإسلام بك يا بدر يا عالي المنارْ

يا تاج راس الملك يا من صيته استعلى وطارْ

حتى ملا الآفاق وامسى كل خارب به عمارْ

هو ذا حسابي فيك يا ذي به إلى امثالك يشارْ

لم يشهد الشيخ عمر با مخرمة هذه المعركة العظيمة كونه كان يقيم في هينن، وكان أقصى أمانيه أن يشهدها؛ ليذود فيها عن بلدته ودينه. لقد ود بامخرمة لو لبى نداء الجهاد، ورافق ذلك القافلة المتوجهة إلى الشحر مع السلطان بدر، وحمل الراية، وشارك في تلك المعركة الحاسمة.

يا ريتنا سايرت في مسراك يا بدر القطار ْ

باحمل لك الرايه وبا كثر سواد اهل المغارْ

لكن الحال لم تحمد في آخر الأمر بين سلطان الظاهر: بدر أبو طويرق، وسلطان الباطن: الشيخ عمر با مخرمة؛ فقد كان الشيخ عمر يرى الجور قد انتشر في عصر بوطويرق، وأن ظل العدالة قد تقلص؛ فتألم وأثر في نفسه معاناة الناس من هذا الظلم والجور الذي أثقل ظهورهم، فنراه يقول:

جور حكام ماله غير قدرتك رادعْ

فانتقم يا شديد البطش واعجل وسارعْ

من ولاة الفساد انزل عليهم صواقعْ

معنويه تهد اركانهم والمصانعْ

ثم إنه أنكر عليه الحروب التي كانت في عهده، مظهرًا رأيه في الصراعات الداخلية، ومحذرًا من محنها ومآسيها؛ فإنه رآها تنخر في جسد الوطن نخرًا؛ فتضعفه وتوهن قواه، إلى جانب جنايتها على الناس والأبرياء، فيقول:

ويش في الحرب ماهو إلا عقوبة من اذنبْ

فيه الأموال تحسف([3]) والمنازل تخربْ

والصناديد تُقتل والصناديق تنهبْ

كله أهوال من رآها وُهُوْ طفل شيبْ

فالعن ابليس دم في العافية قبل تحنبْ

قبل يا عذب ترجع مثل بنت المجربْ

ذه نصيحه أنا بانصحك والطبل يضربْ

ذه نصيحه أنا ممن حضر ذا وجربْ

قد خبرته وفيه أفتيت في كل مذهبْ

فارجع أو عد ياذي بخلقته معجبْ

واعرف أنك ولو صوبت عادك تتصوبْ

وبهذه المعارضة الظاهرة، والتحريض السافر على السلطان بدر ومظالمه الفاشية، قام السلطان بنفي الشيخ عمر من هينن إلى ظفار، ثم إلى الشحر ثم إلى سيئون تحت الإقامة الجبرية، وقام بالتنكيل بصديقه الشيخ الصوفي معروف باجمال، وحبس ابن عمه السلطان الصوفي علي بن عمر الكثيري.

قال العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف في (إدام القوت)، ص685 بشأن ذلك: “ولم يزل بسيئون تحت الضغط والمراقبة من بدر بوطويرق، لا من الناحية التي ينكرها الفقهاء، ولكن لما على كلامه من القبول، وله من التأثير؛ فهو يخشى أن يحرض عليه فتتنكر له الناس”.

نازلت الشيخ عمر وغلبت عليه أحوال، وهو في منفاه في هينن، وصدرت منه أمور كالتي كانت تساور شيخه باهرمز، والشيخ جبريل الهتار، وغيره من أئمة الصوفية أهل الأحوال؛ ما دفع الفقهاء للإنكار عليه، فنراه يحكي عن نفسه غير مكترث بلوم من لامه، جريًا على طريقة الملامتية الذين يفضلون أن يقعوا فيما يلاموا عليه بدل أن يحظوا بالثناء والتقدير الذي يزهدون فيه، وينفرون عنه:

يا عمر بالله إن مريت ذيك البلادي

ذي على اقطارها وادوارها النور بادي

بين عندل وراك المسحره والمزاد

قف على تلك لطلال الشراقي النجادي

ذي لها في المحبه يابن عامر عهادي

فانطرح ثم اسحب بين رايح وغادي

لا تواري ولا ترتاب من الانتقادي

خل كلاً صلاحه، وانا في فسادي

خلهم في عقايدهم ونَاْ ليْ اعتقادي

ما يوافق ملام أهل الملامه مرادي

لا ولا شربهم شربي، ولا الزاد زادي

وينهم وينهم ما شافوا إلا سوادي!

الهوى لي سوى في قربي أو في بعادي

ما أثر الشرب منه إلا ظما في فؤادي

والله تعالى العالم سرير العبادي

لودروا كيف ناداني هناك المنادي

أو سقاهم ذي سقاني بكاس الودادي

أن يهيمون مما همت في كل وادي

وهو بهذه القصيدة يذكرنا بقصيدة أبي نواس التي يقول فيها:

إني عشقت وهل في العشق من باسِ؟!* ما مر مثل الهوى شيءٌ على راسي

مالي وللناس كم يلحونني سفهًا* ديني لنفسي ودين الناس للناسِ!

وكذلك قصيدة الشيخ الصوفي أبي الحسن الششتري، وقد صارت أغنية يغنيها المغنون:

شويخ من ارض مكناس * وسط الاسواق يغني

إش علي انا من الناس* ويش على الناس مني

إش علي ياصاحبْ* من جميع الخلايق

افعل الخير تنجو* واتبع أهل الحقايق

ثم قولٌ مبينٌ* ولا يحتاج عبارهْ

إش على حَدْ من حدْ* افهموا ذي الإشارهْ

كانت الفرصة مناسبة لخصوم الشيخ با مخرمة، وعلى رأسهم السلطان بدر الذي لم يكن بعيدًا عن التحريض ضده، وتهييج العامة عليه؛ فهاجموه أثناء مروه بالحجارة، وأطلقوا عليه صيحات الإنكار والتهديد، وحرقوه بالنار، وسلطوا عليه الكلاب الضارية (السُبّق)، فقال واصفًا حاله، وشارحًا ما جرى عليه:

يا بن سكران أنا اليوم بين الشقا والنارْ

حرت في الناس ليْ مِنْ دارْ في دلهم([4]) حار ْ

شفتهم في طبايعهم وسيماهم اغيارْ

ما لهم صدق، فالله يابن سكران محتارْ

جيت هينن ولي فيها مواثير واثارْ

جيب إليها ولي فيها دواير وأدوارْ

باسط امال في هينن وباني بها دارْ

فاعتكس الأمر حتى عقنا منهم البارْ

لا الذي حب رحب بي ولا ثار لي جارْ

غير من شافنا مقبل إلى نحوه ازوارْ

فانكرونا وكل من ناكر أهل التنكارْ

يا الله اليوم لا تبقي على الدور ديَّارْ

حرقوني وآذوني رموني وانا مارْ

وانتم اطلقتم السُّبَق على العابر المارْ

جور ياقوم؛ فالله على جور كل جوّارْ

ما لبامخرمة حرمة لاجنا ولا عارْ

والله إن الخطا منكم عليه أكبر العارْ

فإن تجيكم بذه نقمه تخليكم ابتارْ

وقد كان من عاقبة أمر السلطان بدر، أن ثار عليه ولده عبد الله، وألقى القبض عليه وسجنه، حتى مات مغيضًا محنقًا سنة 977هـ.

مختارات من شعر الشيخ عمر بامخرمة:

كيف يا بدر عينت البدور الذي ثَمْ([5])

الذي في خدور الحي منها جلا الهمْ

كيف من بينهم بدر البدور المتممْ

ذي الغواني شهت والبدور دونه إذا تمْ

غارت الشمس من طلعته والليل أظلمْ

من ذوايب فروع الفاحم الجعد لَغْثمْ([6])

لؤلئي الثغر زين النحر عذب الموشمْ

باهي الخد زين القد فتان لَحْوَمْ

يوم شاهِدُهُ كني طوف بالبيت لَعْظَمْ

وإن سمح لي بتقبيله دع الركن سلمْ

فيه لي مثل ما للناس في شرب زمزمْ

ياعذولي قصر وإن كنت غافل تفهم

من عرف باطن المعنى عرف ما تكلمْ

الهوى لي إذا انجد وهُوْ لي إذا اتهمْ

يتضح فيه لي ما كان مشكل ومبهمْ

ثم انا سالك ياحلى من بصوته ترنمْ

يالذي نغمته تجلي صدا الهم والغمْ

ناد ليلى وقبل ترب مسته والثم ْ

نادها علها تدنيك تسعد وتغنمْ

والزم الذل واستسلم إذا شيت تسلمْ

قل عسى يا حبيب القلب ترثى وترحمْ

للحبيب للذي عمره معنى متيمْ

ممتحن واله حيران ولهان مسقمْ

ولعل علامة اليمن وحضرموت وشاعرها الأكبر ابن شهاب نظر إلى هذه القصيدة في قصيدته:

عندليب الحبور والبشر نمنمْ* وهزار السرور بالسر ترجمْ

ولعله نظر أيضًا إلى بيت بامخرمة في قوله: يتضح فيه ليْ ما كان مشكل ومبهمْ

عند امتداحه لأحد بيوت العلم والتصوف الذين وصفهم بأن:

… لهم في* كل فن تفسير ما كان مبهمْ

عذيب الشنب

يا قضيب الذهبْ* شنّف لي الكاس باشربْ

لا تخاف العتب* ما في التمخلاع معتبْ

أنت سيد العرب* من شب منهم وشيبْ

في عيونك سبب* تسبي الخواطر وتنهبْ

يا عذيب الشنب* من لا يحبك تعذبْ

أنت كل الطلبْ* والسول يا عز مطلبْ

من عصاك أو غلب* فانه على النار يُسحبْ

زد على الشب شب* واطرب على الكون يطربْ

رح بنا في جَنَبْ* والناس يا عذب مجنبْ

والصباح اقتربْ* واللي تحبه تقرّبْ

والرقيب اشتغبْ* والحاسد العيف غَيّبْ

والذي قد حسبْ* كانه غلط يوم حَسّبْ

لو درى ماكتب* في اللوح ما ليس يكتبْ

يا عجيب يا عجبْ* من سار معنا تعجبْ

زمرنا والقصبْ* والطار والطبل يُضربْ

جل لي قد وهبْ* سبحانك الله ياربْ

ما لعطا مُكتسبْ* هيهات ما البخت يُكسبْ

من بغوا له سحب* واخر من الباب يجُذبْ

وفي قوله: مالعطا مكتسب.. إلخ، يقصد به أن العطايا الإلهية لبعض الخواص من عباده من أهل الجذب – تمييزًا لهم عن أهل السلوك- هي مواهب ومنن ربانية، ليست باكتساب منهم، وأنها حظوظ أنالهم الله إياها، واختصهم بها، كما حصل مع ابن أدهم، والشيخ ابن علوان، وأبي الغيث بن جميل، وهو بهذا يشبه مواهب الله لبعض عباده بالولاية، بمنحه لأنبيائه بإكرامهم بالنبوة والوحي، كما قال البوصيري:

تبارك الله ما وحيٌ بمكتسبٍ* ولا نبيٌ على وحي بمتهمِ

ويشبه هذا أيضًا قول أبي العلاء:

والبخت في الأُولى أنال العلى* وليس في آخرةٍ بختُ

كذاك قالوا! وأحاديثهم* يبينُ فيها الجزلُ والشخْتُ

وفحوى البيت الثاني يفيد أن المعري غير مصدق لهذه الأقاويل، وغير مطمئن لمذهب أربابها، وهو يرى أن البخت كما هو في الأولى، هو أيضًا في الأخرى؛ وهو فيما ذهب إليه يصدر عن رأيه في القضاء والقدر المفضي للحتمية وسلب الاختيار، وقد أكثر في لزومياته من تكرار معنى هذا الكلام.

يا صبا نجد

يا صبا نجد يا ذي جيت من ربع حِبّايْ

سَلَك اعلمني إيش أحوالهم بعد فرقايْ

فإن قد لي زمان ما عاد جاء منهم جايْ

شفهم إن كان هم حنو لقربي ولقيايْ

أو تناسوا مسامري اللذيذه ومغنايْ

كأنهم ما شجاهم في الهوى مثل شجوايْ

ريب ما لله قضى في ليلة السبت مسرايْ

ريت يانور في ساحاتهم كان مثوايْ

كم تمنى لقاهم ما وقع لي تمنايْ

غير حكم القضا نافذ على العلم والرايْ

آه ما حيلتي ما حد بلي مثل بلواي ْ

غير ما بيح لي عند المحبين شكوايْ

صرت انا في الهوى ما عاد مريت مقرايْ

ذاهل العقل ما اعرف نقطة البا من الزايْ

خضت في بحر ما حد فيه رسى مثل مرسايْ

عادنا فيه مادري وين ساحل منهايْ

عادنا في الهوى هبت لي أنواد علياي ([7])

لا تقول الهوى يا عاذل قل تقوايْ

والنبي والنبي ما حد دري كيف معنايْ!

هُوْ إلى الغانيات، أو هو إلى الرب مولايْ

انتقلت روح شيخنا الطاهرة في مدينة سيئون، وهو راضي النفس، منشرح الصدر، رخيّ البال، ومن عجائب الأقدار أن يموت بعده السلطان بدر، فيدفن بجواره، فكأن الأمر كما قال المعري:

رُبَّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارًا * ضاحكًا من تزاحم الأضدادِ

ثم إن أهل بلدته هينن شعروا بعظيم جرمهم إليه، وكبير ذنبهم له، فخشوا عاقبة دعوته عليهم؛ فبنوا مسجدًا يحمل اسمه، وهو المسجد المعروف الآن بمسجد الشيخ عمر با مخرمة، وقد رثاه ابنه شيخ الإسلام وفقيه الشافعية الأكبر عبد الله بن عمر بامخرمة بمرثاة عظيمة؛ فرحم الله شيخنا بامخرمة، ونفعنا بعلومه وأسراره وأنواره.

 

المصادر:

  • النور السافر عن أخبار القرن العاشر، تأليف سيدي شمس الشموس محيي الدين عبد القادر بن شيخ بن عبد الله العيدروسي، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.
  • تاريخ الشحر وأخبار القرن العاشر، تأليف محمد بن عمر الطيب بافقيه، تحقيق عبد الله محمد الحبشي، مكتبة الإرشاد، صنعاء.
  • السناء الباهر بتكميل النور السافر في أخبار القرن القرن العاشر، لسيدنا ومولانا السيد محمد الشلي اليمني، تحقيق إبراهيم المقحفي، مكتبة الإرشاد.
  • إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، تأليف علامة حضرموت ومفتيها السيد عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، عني به تاريخيًا محمد أبو بكر عبد الله باذيب، عني به أدبيًا محمد مصطفى الخطيب، دار المنهاج.
  • تاريخ الشعراء الحضرميين، تأليف عبد الله بن محمد السقاف، مكتبة المعارف، الطائف.
  • عمر بامخرمة حياته وتصوفه وشعره، عبد الرحمن جعفر بن عقيل، دار الفكر، دمشق.

([1]) كأن معنى هذه الكلمة: ما وراء تحريمه على المرأة دهن رأسها في أشهر عدتها؟ على جهة التعجب من صنيعه، أو بمعنى: ماله يفعل كذا، ويفتي بهذا الرأي.

([2])  ذكر الأستاذ عبد الرحمن جعفر بن عقيل في كتابه عمر بامخرمة، في الهامش (3)، ص133: أن المقصود بابن العجيل هو موسى بن العجيل، والصواب أنه ابنه الإمام الكبير الفقيه الصوفي سلطان العلماء والأولياء أحمد بن موسى بن عجيل فهو الذي فتاواه مشهورة متداولة. وكون ابن عجيل أفتى بمثل هذا، يدل على أن العلماء الذين جمعوا بين علمي الظاهر والباطن؛ الفقه والتصوف هم العلماء حقًا.

([3]) تحسف: تهدر دون طائل.

([4]) دلهم: طباعهم وعاداتهم.

([5]) عينت: في لهجة حضرموت بمعنى لقيت، وفي لهجة أهل إب بمعنى أبصرت، والمعنى متقارب. وثم: بمعنى هناك.

([6]) لغثم: الكثيف.

([7]) أنواد علياي: النسائم التي تهب من الجنوب.

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات