Accessibility links

الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني: قراءة على هامش السيرة  


إعلان
إعلان

“اليمني الأميركي” – القسم العربي
القراءة في التاريخ السياسي لليمن الحديث، تستدعي وعيًا مكثفًا؛ لأنّ هذا التاريخ ما زال حتى الآن مقصورًا في المذكرات السياسية، التي تدخّلت كثيرًا من العوامل في صوغ ما تضمّنته، وأخرجت بعضها عن حياديتها، وبالتالي فالبحث في مرحلة ما أو شخصية ما يُصبح مهمة صعبة تقتضي منك التمحيص والتدقيق في ما روته المذكّرات وتضمنته الروايات وغيرها من المصادر التي خرجت عن ندوات، والتي تبقى، في الأخير، مصادر مهمة لفهم ما كان عليه تاريخ البلاد منذ منتصف القرن الماضي.

 

الرئيس جمال عبدالناصر مع الرئيس عبدالله السلال والقاضي عبدالرحمن الإرياني في الاسكندرية بعد استقالة حكومة الأستاذ أحمد نعمان.

تُمثّل شخصية الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني (1910 – 1998) واحدة من الشخصيات اليمنية الأكثر التزامًا في مواقفها بما يتفقُ مع قناعاتها الوطنية، وهو ما نلاحظه بدءًا من مشاركاته الأولى في العمل مع الحركة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى قيام ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962م التي قام بها تنظيم الضباط الأحرار من داخل الجيش، وكان موقف الإرياني مؤيدًا لها، وإنْ كان له رأي مختلف في تحديد موعد تفجيرها. 

عقب قيام الثورة كانت مواقفه واضحة وبالذات على صعيد رفضه للإعدامات التي كانت تُنفّذ بحق رجالات العهد الإمامي، معتبرًا أنّ ذلك سيجر وبالًا على الثورة، كما كان له موقف رافض للتدخل الخارجي في شؤون اليمن الداخلية، وهو موقف كان واضحًا ضد التدخل المصري، ومن ثم التدخل السعودي، وإنْ كان الأخير تغلغل كثيرًا في البلاد خلال فترة حكمه، وهي الفترة التي تَعزّز فيها نفوذ شيوخ القبائل داخل أجهزة الدولة، وبقي موقف الإرياني رافضًا تقديم أيّ تنازلات من أيّ شكلٍ في علاقات اليمن بالسعودية، وبخاصة بعد توقيع اتفاق المصالحة 1970م، وهو ما جعل السعودية تُفكر من خلال رجالها في الداخل بضرورة الإطاحة بالرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني. 

عقب قيام الثورة انقسم الصف الجمهوري إلى تيارين: تيار جمهوري ثوري بزعامة الرئيس السلال، وتيار جمهوري تقليدي محافظ يتزعمه الزبيري والنعمان والإرياني ويضم عددًا من القيادات التقليدية القبلية… ووقف التيار الجمهوري التقليدي المُعارض موقفًا رافضًا لرئاسة الرئيس السلال والوجود المصري في اليمن، مطالباً بتقليص صلاحيات الرئيس، واستحداث ما أطلقوا عليه بالقيادة الجماعية، وغيرها من المطالب التي عبّرت عنها بوضوح مقررات مؤتمرَيّ عمران وخمر المناوئة للتيار الجمهوري الثوري. 

عند توليه الحكم بإجماع قيادات انقلاب الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967م، عمل الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني على إنهاء الحرب بين الجمهوريين والملكيين (1962 – 1970) من خلال إقرار المصالحة بين الطرفين، وإشراك ملكيين في أجهزة الدولة، واعتراف المملكة العربية السعودية بالجمهورية، وهو ما تم. كما شهدت فترة حكمه إنشاء عددٍ من مؤسسات الدولة، وتوقيع اتفاقيات تعاون مع عددٍ كبير من دول العالم، بما في ذلك تعزيز التعاون الدبلوماسي مع الدول العربية، وتحقيق خطوات جوهرية باتجاه إعادة تحقيق الوحدة اليمنية. وقبل ذلك شهدت فترة رئاسته عديدًا من الأحداث المفصلية في تاريخ البلاد، أبرزها حصار السبعين يومًا من قِبَل القوات الملكية التي كانت على وشك إسقاط الجمهورية، إلا أنّ القوى الجمهورية استطاعت توحيد صفوفها وقلب المعادلة وتحقيق انتصار ساحق أنقذ الجمهورية من موتٍ محقق. 

لا يمكن تجاهُل ما شهدته فترة حكم الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني من أحداث يراها الطرف الآخر سلبية، كالتخلص من قيادات التيار الجمهوري الثوري، وبخاصة بعد انتصار الجمهوريين في معركة فك حصار السبعين يومًا على صنعاء… وذلك من خلال ما عُرِف بأحداث مارس وأغسطس 1968، وغيرها من الأحداث، بما فيها نفي عددٍ من الضباط الشباب للخارج، وصولاً إلى قتل وسحل رئيس هيئة الأركان حينها، المقدم عبدالرقيب عبدالوهاب، بطل فك حصار السبعين يومًا… وهي الأحداث التي ما زال تذكّرها يؤرّق الذاكرة الجمهورية في اليمن.

 مرت تجربة القاضي عبدالرحمن الإرياني مع العمل الوطني والسلطة بعدّة مراحل، أولها دوره خلال العهد الإمامي، والتي كان فيها مساهمًا في الحركة الوطنية، مستفيدًا من تقلده عددًا من المناصب ضمن هيكل الحكم الإمامي في خدمة حركة معارضته، وهي المرحلة التي استمرت حتى عام 1962م، ومن ثم بدأ مشاركًا في الحكم الجمهوري من خلال عددٍ من المناصب التي تقلدها ضمن حكومة الجمهورية العربية اليمنية (1962 – 1967) كمرحلة ثانية انتقل منها إلى رأس السلطة وتسلّم رئاسة شمال اليمن (1967 – 1974)، ليغادر السلطة ويختار منفاه خارج اليمن حتى تُوفي – يرحمه الله – عام 1998م. 

 

القاضي الارياني مع الاستاذ أحمد محمد نعمان .حرض 1965

 

1910 – 1962

ولد عبد الرحمن بن يحيى الإرياني بتاريخ 10 يونيو/ حزيران 1910م، ونشأ في بلدة وهجرة إريان في أحضان والديه يرحمهما الله. وإريان قرية من قرى بني سيف العالي التابعة لمديرية القفر، إحدى مديريات محافظة إب. وأسرة الإرياني عريقة في علاقتها بالعلم والأدب. بدأ دراسة القرآن على يد العلامة عبدالواسع بن محمد الإرياني رحمه الله، وكذلك مبادئ النحو والفقه والحديث على يد والده وأخيه الأكبر (علي). بعثه والده إلى مدينة جبلة، لدراسة التجويد والأجرومية في النحو. التحق بالمدرسة العلمية بصنعاء خلال 1925-1929، ودرس فيها النحو والبيان والأصول والحديث والفقه، ومن ثم عاد إلى بلدته إريان ولازمَ والده، الذي كان من أبرز علماء عصره، وعند تعيين والده عضوًا في محكمة الاستئناف بصنعاء انتقل معه، واستمر في أخذ العلم في عدد من الحلقات بمساجد صنعاء حتى انتهى من مرحلة التحصيل عام 1936.  

في عام 1936، عقب الانتهاء من التحصيل، تم تعيينه حاكمًا شرعيًّا لقضاء النادرة/ وسط البلاد؛ فغادر صنعاء وشغل القضاء هناك لسبع سنوات. ثم عُيِّن حاكمًا لقضاء العدين في نفس العام الذي توفّي فيه والده يرحمه الله، ليُعين لاحقًا حاكمًا لقضاء يريم، لكن أمير لواء إب الأمير الحسن أبقاه لجواره لحل بعض الخلافات.

وقفت أسرة الإرياني (وهي من شريحة القضاة التي كانت تأتي تاليًا بعد شريحة السادة في تصنيف المجتمع اليمنيّ في عهد الحكم الإمامي) بجانب الإمام يحيى في ثورته ضد الأتراك، ويُعد والده من رجالات نظام العهد الإمامي، إلا أنه كان لا يسكت عمّا يتنافى مع العدل، فيضطر للكتابة للإمام بغرض إصلاحها.  

بدأ عبدالرحمن عام 1932 في العمل الوطني من خلال مراقبة المجريات وتحرير المنشورات وبثها في المساجد والطرقات. وجمعته صلة وثيقة بعددٍ من رواد الحركة الوطنية كالمحلوي وأحمد المطاع والعزي السنيدار وعبدالله العزب، وغيرهم. 

  كما شارك عام 1944 في تأسيس أول جمعية سياسية في ذلك العهد باليمن باسم (جمعية الإصلاح)، والتي كانت على تواصُل مع الحركة الوطنية في عدن، وكان لها أهداف سياسية وإصلاحية للنظام الإمامي. إلا أنّ سيف الإسلام الأمير الحسن (نجل الإمام يحيى) كشف نشاط الجمعية، وتم القبض على أعضائها ممن كانوا موجودين، واقْتيدوا إلى السجن، وتم اعتقال القاضي عبدالرحمن في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1944، إلى أنْ أُطلق سراحه في 14 مارس/ آذار عام 1945، وعينه الإمام يحيى عضوًا في هيئة تدقيق الأحكام بتعز، وبقي هناك حتى عام 1947. في تلك الفترة بقي على اطّلاع دائم على الصحف والكتب التي كانت تصلُ من مدينة عدن، ومن ثم تقدَّم بطلبٍ إلى الإمام يحيى حميد الدين طالبًا الموافقة على شراء جهاز راديو.. في صورة تعكسُ ما كان عليه وضع البلاد قبل الثورة.

قامت ثورة 17 فبراير/ شباط 1948م التي عملت على قتل الإمام يحيى، والسيطرة على مقاليد الأمور، وإعلان عبدالله بن أحمد الوزير إمامًا دستوريًّا… كنِتاج لحركة اتصال بين حركة الأحرار اليمنيين، ممثلة بقيادتها في مصر أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري وحركة الإخوان المسلمين بمصر.. حتى تبلورت مشاورات المعارضة اليمنية على القيام بثورة ضد حكم الإمامة.

عند قيام الثورة كان القاضي عبدالرحمن في مدينة إب للفصل في عددٍ من القضايا المستعصية. وعُيّنَ سكرتيرًا أول لمجلس الشورى بعد الثورة التي فشلت لأسباب مختلفة. بتاريخ 13 مارس/ آذار 1948 سقطت صنعاء بيد قوات القبائل المناصرة للإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، وفي يوم 14 مارس تم القبض على القاضي عبدالرحمن، وتم إيداعه سجن نافع بحجة، ومن ثم نقله إلى سجن القاهرة. حينها نهبت بيوت أسرته في منطقة إريان.

كان سجن نافع مرتعًا للنشاط الأدبي والفكري، وكان القاضي الإرياني شاعرًا أسهم خلال سجنه في نافع في التعليق على ديوان عمارة اليمني، كما عمل مع القاضي عبدالله عبدالإله الأغبري على تحقيق ديوان الآنسي (الأب) الحُميني “ترجيع الأطيار بمرقص الأشعار”… وشهدت فترة سجنه في حجة تواصلًا مع روافد الحركة الوطنية في عدن حتى تم إطلاق سراحه عام 1954م بأمر من الإمام أحمد (1948-1962) إثر مشاركته في الدعوة لولاية العهد للأمير محمد البدر (نجل الإمام) في مواجهة عمه (الأمير الحسن)، بل هو مَن وضع صيغة الولاية مدعومة بالأدلة الشرعية. عاد القاضي الإرياني إلى عمله السابق في تعز في الهيئة الشرعية، وكان مقربًا من الإمام أحمد.

عقب فشل الانقلاب الذي قاده المقدم أحمد الثلايا، في 21 مارس/ آذار 1955، وتنصيب سيف الإسلام عبدالله إمامًا.. وعلى الرغم من أنه لم يكن مشاركًا فيه أو مخططًا له، إلا أنه تم اعتقال القاضي عبدالرحمن في 6 أبريل/ نيسان 1955م في تعز ليتم إطلاق سراحه لاحقًا، ويعودُ إلى تعز وعمله السابق في الهيئة الشرعية… كما شارك في نوفمبر/ تشرين الثاني 1956م ضمن وفد المملكة المتوكلية اليمنية، برئاسة سيف الإسلام البدر في القمة العربية، في بيروت، وتم خلال تلك الرحلة زيارة مدينة القدس في 18 نوفمبر 1956م.

خلال الفترة من 1956 إلى 1958 عمل الإرياني مع المعارضة اليمنية على وضع ما أسموه برنامج العمل الوطني، والذي نتج عن عقد عدة جلسات لدراسة أحوال البلاد وكيفية الخروج منها.

كما كان ضمن الوفد اليمني في جلسات مباحثات الاتحاد الفيدرالي بين مصر والسعودية، والتي تمخض عنها توقيع اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا واليمن في دمشق في 8 مارس/ آذار 1958. وسافر مع الإمام أحمد في رحلته العلاجية إلى إيطاليا في 16 أبريل 1959م، وعاد منها مع الإمام الذي تعرض لإطلاق نار بمستشفى الحديدة عام 1961م، بقي على إثرها طريح الفراش حتى مات.

ترأَّس القاضي عبدالرحمن بعثة الحج اليمنية من عام 1960 حتى قيام الثورة.   كما عُيّن وزيرًا للدولة في أول تشكيل لحكومة برئاسة ولي العهد سيف الإسلام محمد البدر بن أحمد حميد الدين أوائل عام 1962م قبيل الثورة بأشهر. مات الإمام أحمد بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 1962م، وتم مبايعة ابنه البدر إمامًا وملكًا لليمن بتاريخ 18 سبتمبر. خلال التحضيرات لتفجير الثورة سافر القاضي الإرياني إلى تعز بعد حديث له مع أحد ضباط الثورة تحت مبرر مرض ابنه، ليكون ضمن المساهمين في السيطرة على الوضع في تعز عند تفجير الثورة، وهو ما تم عند انفجار ثورة 26 سبتمبر 1962م من قِبل تنظيم الضباط الأحرار الذي تشكَّل عام 1959 من عدد من ضباط الجيش، الذين كان خيارهم الوحيد هو الثورة، وقد تم التحضير لها بسرية تامة، إلا أنه تم تقديم موعد تفجيرها بسبب ظروف مختلفة، لا سيما بعد إعلان الإمام الجديد السير على نهج والده.. وهي الثورة التي نجحت في تولّي زمام الحكم، وتم اختيار عبدالله السلال لقيادة الجمهورية الوليدة ورئاسة الحكومة الجديدة.

 

القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس الوفد الجمهوري إلى مؤتمر حرض، أحمد محمد الشامي رئيس الوفد الملكي، إلى المؤتمر، محمد عبدالقدوس الوزير، والشيخ صلاح المصري عضو الوفد الملكي - حرض نوفمبر 1965.

القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس الوفد الجمهوري إلى مؤتمر حرض، أحمد محمد الشامي رئيس الوفد الملكي، إلى المؤتمر، محمد عبدالقدوس الوزير، والشيخ صلاح المصري عضو الوفد الملكي – حرض نوفمبر 1965.

 

1962 – 1967

في حكومة ما بعد الثورة تم تعيين القاضي عبدالرحمن الإرياني وزيرًا للعدل (1962- 1964)، وعضوًا في التشكيل الثاني لمجلس قيادة الثورة، وخلال تلك الفترة أعلن القاضي الإرياني رفضه للإعدامات التي كانت تُنفذ لرجالات العهد الإمامي، وهو ما عبّرت عنه رسالة بعث بها من تعز إلى الرئيس عبدالله السلال، كما كان له موقف لا يرغب فيه بالتدخل المصري في اليمن بعد الثورة، وكذلك التدخل السعودي، بل كان رافضًا للصراع الإقليمي في اليمن. 

ترأّس القاضي الإرياني وفود بلاده للأقطار العربية لشكرها على الاعتراف بالثورة. وكان خلال تلك الفترة رافضًا لِما كان يمارسه عبدالرحمن البيضاني من تجميع للنفوذ والمناصب بعد وصوله إلى اليمن بعد الثورة المدعومة من مصر.

 ارتفع صوت القيادات الجمهورية التقليدية ومشايخ القبائل، أو ما يُعرف بالتيار الجمهوري التقليدي، ضد التيار الجمهوري الثوري، والذي يضم عددًا من ضباط الثورة ويتزعمه الرئيس عبدالله السلال، الأمر الذي جعل الرئيس السلال يعملُ حينها خلال الحرب مع الملكيين على كسب أولئك المشايخ وتلك المعارضة التي كانت رافضة للتدخل المصري، وتدعو إلى ما أسمته القيادة الجماعية، وبالفعل تم تشكيل مجلس رئاسة في 13 أبريل/ نيسان عام 1963م، وأُعيد تشكيل مجلس الوزراء باسم المجلس التنفيذي. وأصبح القاضي الإرياني عضوًا في مجلس الرئاسة، ثم تولى رئاسة المجلس التنفيذي وعُيّن نائبًا لرئيس الجمهورية في 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1963م. 

كان القاضي الإرياني من الذين دعوا لمؤتمر عمران برئاسة القاضي محمد محمود الزبيري، وفعلاً عُقِد المؤتمر في 2 سبتمبر 1963م… وقد عززت مقررات مؤتمر عمران موقف المعارضة المناوئة للرئيس السلال وأنصاره من الضباط.

وبعد رفض الرئيس السلال المصادقة على مقررات مؤتمر عمران سافر الإرياني على رأس وفد للقاهرة في أكتوبر 1963م لشرح الموقف اليمني، فوافقت القاهرة على بعض المقررات، لكنها تركت الجانب العسكري للمصريين، وهو ما رفضه الوفد اليمني. وعلى إثر ذلك قدم القاضي الإرياني ومعه أعضاء المجلس الرئاسي والمجلس التنفيذي والمجلس الأعلى لمشايخ القبائل استقالاتهم، ثم أصبح القاضي عبدالرحمن الإرياني عضوًا في المكتب السياسي الذي تشكَّل بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس عبدالله السلال في 8 يناير/ كانون الثاني 1964 لتشكيل قيادة جماعية مكونة من تسعة أعضاء مُنِحت سلطات تشريعية وسياسية. وفي أعقاب زيارة الرئيس المصري جمال عبدالناصر لليمن عُيِّن القاضي الإرياني نائبًا لرئيس الوزراء للشؤون الخارجية والعدل والأوقاف في 23 أبريل/ نيسان 1964، وتم تشكيل مجلس للشورى مسؤول عن الرقابة على أجهزة السلطة التنفيذية، كما تم تشكيل حكومة برئاسة حمود الجائفي.

فيما بعد قدّمَ القاضي الإرياني استقالته من منصبه هو ومجموعة من زملائه، ومنهم القاضي محمد محمود الزبيري – وزير المعارف، ومعظم حكومة حمود الجائفي، وأحمد محمد نعمان (رئيس مجلس الشورى) بعد فشل لقاء أركويت الذي عُقد في السودان في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1964 بين الجمهوريين برئاسة القاضي محمد محمود الزبيري، والملكيين برئاسة أحمد الشامي… واتخذ في هذه المدة من بيته – في مدينة تعز – مقرّاً لاستقراره. خلال تلك الفترة دعا القاضي الإرياني لمؤتمر خمِر للسلام، وانتُخِبَ رئيسًا للمؤتمر، الذي انعقد في 2 سبتمبر 1965م، والذي تمخض عن إصدار دستور مؤقت، وإلغاء الدستور القديم، وأقر تكوين مجلس جمهوري بدلاً عن المجلس الرئاسي، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية.

في جِدة خلال 22 – 24 أغسطس/ آب 1965م اجتمع الرئيس المصري جمال عبدالناصر والملك السعودي فيصل، وتم توقيع اتفاقية جِدة، التي تدعو لوقف إطلاق النار في اليمن وانسحاب القوات المصرية من اليمن بحلول عام 1966م، وإنهاء الدعم العسكري للملكيين وإقامة حكومة مؤقتة، والتحضير لإجراء استفتاء شعبي في نوفمبر عام 1966م … إلخ، وهو ما رفضه القاضي الإرياني واعتبرها خطرًا على مصير النظام الجمهوري… وتم ذلك في اجتماع عُقِد في القاهرة، وحضره الرئيس السلال ورئيس الوزراء محسن العيني وأحمد محمد نعمان – رئيس مجلس الشورى، وآخرون رفضوا هذه الاتفاقية وجمدوا الخلافات في ما بينهم، وشكّلوا لجنة للتوعية بمخاطر الاتفاقية، إلا أنّ الجمهوريين في نهاية الأمر رضخوا للأمر الواقع وقرروا المشاركة في مؤتمر حرض، لا سيما بعد التطمينات التي قدّمتها القاهرة. ترأَّس القاضي الإرياني الوفد الجمهوري المكون من 25 عضوًا، أمّا الوفد الملكي فترأسهُ أحمد محمد الشامي – وزير خارجية حكومة الملكيين في المنفى، وقد مثّل كلًّا من مصر والسعودية مندوبون مراقبون… افتتح القاضي عبدالرحمن الإرياني مؤتمر حرض (23 نوفمبر/ تشرين الثاني – 24 ديسمبر/ كانون الأول 1965)… لكن المؤتمر انتهى بالفشل، وقد حمّلَ القاضي عبدالرحمن الإرياني السعودية أسباب فشل المؤتمر، وذلك بسبب دفعهم ممثلي الجانب الملكي إلى التشدد بآرائهم، وخاصة عند بحث موضوع بيت حميد الدين أو طريقة الحكم،  بالإضافة إلى فصل معسكر الوفد الجمهوري عن معسكر الوفد الملكي.

اشتد الخلاف خلال هذه المدة داخل الصف الجمهوري، وخاصة بعد عودة الرئيس عبدالله السلال من مصر إلى اليمن في 11 أغسطس/ آب 1966، وقد قاد هذه المعارضة رئيس الوزراء حسن العمري … ونتيجة لتأزم الموقف ورفض القوى السياسية المناوئة للرئيس السلال التعاون معه سافر القاضي الإرياني على رأس وفدٍ للقاهرة للقاء الرئيس جمال عبدالناصر، ونجح في إقناع الفريق حسن العمري رئيس الوزراء للسفر معه، وبقية أعضاء الحكومة ومجموعة من ضباط الجيش والمشايخ وأعيان اليمن، وبلغ عددهم سبعين شخصًا، سافروا على متن طائرة مصرية، وبعد ثلاثة أيام من وصول الوفد إلى القاهرة (9 – 12 سبتمبر 1966) تم اعتقال الفريق حسن العمري وحكومته وزجهم في زنزانة السجن الحربي، ودام الاعتقال لأكثر من عام، فيما احتجز القاضي عبد الرحمن الإرياني في منزل بالقاهرة، ووُضِع تحت الإقامة الجبرية، واستمر احتجاز القاضي الإرياني وزملائه في الحكومة اليمنية في مصر حتى وقوع نكسة 5 حزيران 1967. 

شهدت الأزمة اليمينة انفراجًا بعد انعقاد مؤتمر القمة العربي في الخرطوم     (29 آب/ أغسطس – 11 أيلول/ سبتمبر 1967)، وتشكيل لجنة برئاسة رئيس الوزراء السوداني محمد أحمد محجوب من أجل المصالحة الوطنية بين الملكيين والجمهوريين في اليمن، وتقوم اللجنة بضمان انسحاب القوات المصرية من اليمن ووقف المساندة العسكرية التي تُقدمها السعودية للملكيين…

حينها طرأ تغيير على الموقف المصري تجاه المعتقلين، ومنهم القاضي عبدالرحمن الإرياني بعد أنْ رفض الرئيس عبدالله السلال اتفاقية الخرطوم وتشكيل اللجنة الثلاثية، معتبرًا أنها عُقدت بغياب ممثلين عن الجمهورية العربية اليمينة، كما تعرضت اللجنة في صنعاء لمظاهرات ضدها، ولم يستقبلها الرئيس السلال، وحصل اعتداء على بعض الجنود المصريين في ما سُمّي بأحداث 3 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1967.

 قامت اللجنة الثلاثية برئاسة محمد أحمد محجوب باللقاء مع القاضي عبدالرحمن الإرياني في القاهرة لاستطلاع رأيه في ما يخص الأزمة اليمنية، ﺇلا أنه رفض التجاوب معها ما دام المعتقلون في الزنزانات المصرية… وأرسل القاضي الإرياني رسالة إلى أمين هويدي – وزير الحربية آنذاك – يطلب إطلاق سراح المعتقلين دون استثناء، وتم إطلاق سراحهم، وعودتهم إلى اليمن في 27 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1967، وبعد عودته لليمن تسلم القاضي عبدالرحمن الإرياني منصب رئيس المجلس الجمهوري (رئيس الجمهورية) إثر انقلاب قوى التيار الجمهوري التقليدي على الرئيس عبدالله السلال خلال سفره إلى العراق… في ما يُعرف بانقلاب 5 نوفمبر 1967.

1967 – 1974   

 بلا شك أن قرار سحب القوات المصرية من اليمن استدعى أهمية تعزيز تماسك الصف الجمهوري وتجاوز الخلافات، وانطلاقًا من ذلك عمل الرئيس السلال على تشكيل حكومة جديدة ومجلس استشاري وكل ما من شأنه تقوية الجيش… وحينها قرر الرئيس السلال السفر للعراق، ومن ثم التوجه للاتحاد السوفييتي في وقت كانت البلاد تمر بمرحلة حرجة وفراغ في السلطة، وهو ما عزز قناعات التيار المناوئ للسلال بضرورة الانقلاب؛ باعتباره – كما اعتقدوا – أمرًا حتميًّا للمحافظة على النظام الجمهوري، ونُفّذ الانقلاب في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 بقيادة عدد من الضباط، وبمساعدة شيوخ القبائل، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، فيما أصبح الرئيس السلال لاجئًا في العراق. وتقرر بموجب الانقلاب تشكيل المجلس الجمهوري لقيادة البلاد مع تشكيل الحكومة من التيار المتحالف مع القبائل.

ترأَّس القاضي عبدالرحمن الإرياني المجلس الجمهوري تحت مبداً (الحكم الجماعي)، وتألف المجلس من أربعة أعضاء، هم (عبدالرحمن الإرياني، والفريق حسن العمري، وأحمد محمد النعمان، ومحمد علي عثمان)، وتم تشكيل حكومة برئاسة محسن العيني.

واجه الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في بداية عهده تحديًا داخليًّا تمثَّل بحصار الملكيين للعاصمة صنعاء خلال (28 تشرين الثاني/ نوفمبر1967 – 2 شباط/ فبراير1968)، مستغلين انسحاب القوات المصرية، وهاجمت القوات الملكية العاصمة، وقطعوا كل الطرق المؤدية إلى صنعاء، وعزلوا الوحدات العسكرية ومخازن الأسلحة، إلا أنّ القوى الجمهورية بمختلف تكويناتها مع قوى شعبية من كافة الفئات والتيارات كانت قد اتحدت ونظّمت صفوفها، واستطاعت تحقيق النصر على القوات الملكية. بعد انتصار القوات الجمهورية وانتهاء حصار صنعاء بالفشل تم إلغاء فِرق المقاومة الشعبية، وكان ما عُرف بأحداث مارس وأغسطس المأساوية عام 1968م، وما تبعها من أحداث كنفْي عددٍ من الضباط للجزائر وعودة المقدم عبدالرقيب عبدالوهاب وقتله وسحله في ميدان التحرير..

تم تكليف عبدالله الكرشمي بتشكيل الحكومة في الأول من سبتمبر 1969، وتكرس من خلالها سيطرة القوى المحافظة المتحالفة مع القبائل على مقاليد السلطة والنظام الجمهوري. ومن ثم اتجه الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني نحو تحقيق المصالحة الوطنية مع الملكيين، وجرت لقاءات غير رسمية مع شخصيات ملكية بوساطة سعودية، وتم تسوية الخلافات مع السعودية، وتقرر وقف الدعاية المعادية من الطرفين، ووقف إطلاق النار في اليمن، ووقف المساعدات السعودية للملكيين والقبائل الموالية لهم، فضلاً عن ذلك تضمن عودة بعض الشخصيات الملكية البارزة إلى اليمن، ومنحها مقاعد في أجهزة السلطة، مع عدم عودة أفراد أسرة حميد الدين إلى اليمن. وتم إيفاد وفد إلى السعودية يحملُ الموافقة على مشاركة الملكيين العائدين لليمن في المجلس الجمهوري والحكومة والمجلس الوطني مقابل اعتراف السعودية بالنظام الجمهوري، وإنهاء الإمامة، وهو ما حدث، حيث تم مشاركة الملكيين في الحكم، وتم اعتراف السعودية بالنظام الجمهوري في 22 يوليو/ تموز 1970. 

خلال فترة حكمه أسهم الرئيس القاضي الإرياني في تعزيز علاقات دبلوماسية مع الدول العربية وعدد من الدول الأجنبية، وتوقيع عدد من اتفاقيات التعاون مع عديد من البلدان، ملتزمًا سياسة حيادية في علاقات اليمن الخارجية.

 ومن بين ما يحسب له كان موقفه الثابت والرافض لثبيت الحدود مع المملكة العربية السعودية، ورفْض كل محاولات المملكة الوصول إلى اتفاق يثبت الحدود بين البلدين بناء على ما تضمنته اتفاقية الطائف 1934م، ومما أورده رئيس الوزراء الأسبق الراحل حسن مكي في مذكراته “أيام وذكريات” أنّ الإرياني رفض توقيع القاضي عبدالله الحجري على بيانٍ مع المملكة ينص على ذلك، بل مما أورده مكي أنّ الرئيس القاضي الإرياني رفض توقيع البيان، وقال إنّ قضية الحدود قضية يقرر حلها الشعب، ولن يقبل أنْ ينسب له التاريخ أنه فرط بذرّة تراب من الوطن… وهو ما يؤكد مدى التزام الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني وانحيازه للذاتية اليمنية في قراراته ومواقفة المصيرية.

كما شهدت فترة حكم الرئيس القاضي الإرياني إصدار قرارات بإنشاء عددٍ من مؤسسات الدولة مثل البنك المركزي ومصلحة الضرائب ومصلحة الآثار ومصلحة السياحة والمؤسسة العامة للمياه والمجاري والمؤسسة الاقتصادية العسكرية وأول جامعة ممثلة بجامعة صنعا والمجلس الأعلى للتخطيط، وغيرها من المؤسسات، كما شهدت فترة رئاسته استحداث المجلس الوطني كهيئة تشريعية، ومن ثم مجلس الشورى برئاسة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وفي هذا المجلس تعزز حضور النفوذ القبلي في الدولة، ومعها تعزز نفوذ قوى موالية للسعودية داخل السلطة.

 كان للرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني إسهاماته في الدفع بمشاورات إعادة تحقيق الوحدة اليمنية بين الشطرين على الرغم من اختلاف نظاميهما وتوجهاتهما، وتم خلال عهده تشكيل لجان لتوحيد الأنظمة، وعقد عدد من اللقاءات، بما فيها لقاءت قمة بين قيادات الشطرين… وتم قطع عدد من الخطوات للأمام، وتوالت اللقاءات… ذلك التقارب بين الشمال والجنوب، وخوف بعض الأطراف من انفراد الرئيس الإرياني بالحكم من خلال إصدار قرارات بتعيين أقارب له في مواقع قيادية في الجيش، واتهام القاضي الإرياني بما اعتُبر تقريب التيار اليساري وتغلغله داخل أجهزة الدولة… أدى بتلك الأطراف، ومعها أطراف خارجية إلى التوجس منه والتفكير بالإطاحة به… لا سيما وأنّ التيار القبلي والمتحالفين معه كان قد أصبح رقمًا كبيرًا في الحكم.  

اشتد الصراع بين رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبدالرحمن الإرياني ورئيس مجلس الشورى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر… كما انتقل الخلاف إلى داخل مؤسسة الجيش الذي كان يشهد نمو حركة تصحيحية بقيادة ضابط شاب اسمه إبراهيم الحمدي. 

ازدادت حدة الصراع بين الرئيس القاضي الإرياني وخصومه بعد انضمام الشيخ سنان أبو لحوم – شيخ قبائل بكيل، ومحافظ الحديدة إلى صف المعارضين… ما أدى إلى وضع المعارضة خطة انقلابية ضد الرئيس القاضي الإرياني، وهو الصراع الذي تفاقم مع تدخّل خارجي عربي ممثلًا بالسعودية، وتم الإعداد والترتيب للانقلاب، وتنفيذه من خلال الجيش بتاريخ 13 يونيو 1974م، وهو ما تقبّله الرئيس القاضي الإرياني الذي  كان زاهدًا بالسلطة وغير راغب بالاستمرار فيها، ورافضًا لإراقة أيّ دماء بسبب السلطة… وبالتالي فقد قدم الرئيس القاضي الإرياني استقالته إلى الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر – رئيس المجلس الشورى، والذي قام بدوره بإرسالها إلى العقيد إبراهيم الحمدي – نائب رئيس الوزراء؛ لإعلانها على الشعب، ومرفقة باستقالته من رئاسة مجلس الشورى… وخرج القاضي عبد الرحمن الإرياني من صنعاء متوجهًا إلى تعز. 

ذهب عدد كبير من الشخصيات، ومن ضمنهم الرئيس إبراهيم الحمدي لتوديع الرئيس القاضي الإرياني عند مغادرته إلى سوريا بناءً على رغبته في مساء 13 يونيو 1974، ومن ثم أُذيع البيان الأول للحركة، وتشكيل مجلس القيادة الذي حل محل المجلس الجمهوري برئاسة الرئيس إبراهيم الحمدي.

استمر الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني في منفاه بسورية معتزلاً العمل السياسي حتى تُوفي في 14 مارس/ آذار عام 1998م، وتم تشييعه ودفنه بصنعاء.

المصادر:

  • عبدالرحمن بن يحيى الإرياني – المذكرات (الجزاءن الأول والثاني) – طبعة مجهولة. 
  • صباح حسن بديوي – الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني (سيرة ذاتية) جامعة القادسية – كلية التربية للبنات. 
  • حسن مكي، أيام وذكريات، مركز عبادي للنشر، صنعاء، 2008. 
  • محمد ناجي أحمد، المذكرات السياسية في اليمن – قراءة نقدية، ط1، 2012.
  • مصدر الصور: مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني – الجزءان (الأول والثاني).
   
 
إعلان

تعليقات