Accessibility links

إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

يذهب المفكر الإسلامي مالك بن نبي في حديثه عن معادلة الحضارة، فيذكر أول ما يذكر الإنسان، وهو العنصر الأساس في هذه المعادلة، ثم التربة، ويعني بها الموارد، فالوقت، ثم يذكر الفكرة المحفزة، أو الدين الذي يبعث في هذه العناصر الثلاثة السابقة الحياة، وينفخ فيها الروح.

وفي صدد دفاع الشيخ المعاصر محمد الغزالي عن الدين يقول: يستحيل أن يكون الدين الذي كان سبب نهضة العرب وسر قوتهم، هو نفسه سبب تخلفهم، وعلة سقوطهم في دركة الانحطاط.

وكلام الشيخ الغزالي عن الدين، وإن كان ظاهره الصواب، إلا أنه لا يخلو من النظر إذا ما تمعنّا فيه، وتأملنا في مضمونه المخاتل، فقد تبدلت الحقائق، ولم يبقَ منها إلا الصور، واللفظ الجامع بينهما.

والسؤال هو هل دين العصر الأول بروحه التي اشتمل عليها، والبساطة التي كان عليها، هو نفس الدين الذي صار عليه المسلمون بعد أن تعاقبت عليهم دول الاستبداد، وصار الإسلام من إسلام القرآن، إلى إسلام الحديث بحسب كتاب المفكر العربي جورج طرابيشي؟

ليس الغرض هنا الطعن في الحديث الشريف، فلا شك أن في السنة النبوية أحاديث عظيمة ساهمت في تكوين الشخصية المسلمة تكوينًا سليمًا، بما انطوت عليه من مُثُل وأخلاق وقيم وآداب.

لكن الانتقاد يدور حول التضخم الذي رافق النقل على حساب العقل، ونحن وإن أحسنّا الظن في بعض الأحاديث، فإننا لا بد أن نسيء الظن في بعضها الآخر، ولقد أحسن المعري حين قال: 

جاءت أحاديث إن صحت فإن لها* شأنًا ولكن فيها ضعف إسناد

فقد وردت أحاديث تحصر السلطة في قبيلة معينة كحديث الأئمة من قريش، وحديث يجعل المبشرين العشرة كلهم من هذه القبيلة، وحديث يحث على الصبر على ظلم السلطان، وإن أخذ مالك، وجلد ظهرك، وحديث يسيء إلى البربر، وأنه لا يصح منهم إيمان، وأحاديث وآثار تنتقص النساء وتقول: إن أكثرهن في النار، وتمنعهن من تعلم الكتابة، وتنهى عن سكناهن في العلالي، وحديث يقول: إن الشؤم في المرأة، والدابة، والدار، وإن الصلاة تُقطع بالكلب الأسود، والحمار، والمرأة، وأحاديث تدعو إلى مضايقة الأقليات الدينية غير المسلمة في الطرقات، والأحاديث في مثل ذلك تطول.

لا شك أنه كان هناك علماء أتقياء حفظوا تعاليم الدين القيّم، وأسهموا في تربية الأمة تربية صالحة، لكن علينا في نفس الوقت ألا نستبعد الجانب الآخر من هذه الصورة، وهو أن السلطة المتغلبة، وصراعات الفرق المتناحرة أيضًا كان لها دور ومصلحة كبيرة في وضع كثير من الأحاديث بما يخدمها، ويقوي مركزها، ويؤسس لهذا الدين المسخ المشوه.

ذكر الزهري، وهو أحد العلماء المتصلين بالسلطة، فقال: “كنا نكره كتابة العلم، حتى أكرهنا عليها هؤلاء الأمراء”.

وما عسى أن يكون هذا العلم الذي أكرهوا على تدوينه سوى علوم الدين من فقه وحديث وتفسير وسِير.

وبما أن السلطة السياسية قد تم حصرها في المتغلب، فقد حُصرت السلطة الثقافية في الفقيه وعالم الدين، الأمر الذي جعلهما ينفيان كل ما سواهما.

للأسف، فقد قام الفقهاء بحصر العلم في علوم الدين فقط، وما سواه فلا خير فيه، ولا فائدة ترجى منه، بحسب الأبيات التي تنسب للإمام الشافعي:

كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ   إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما قال فيه الناس حدثنا    وما سواه فوسواس الشياطين 

والشافعي ليس في هذه الطريق بأوحد، فهو تفكير سيطر على ذهنية الكثير من علماء الإسلام الأجلاء.

يحكي أبو بكر بن مجاهد المقرئ، قال: “قال لي ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، وأشغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة؟”.

فإمام الكوفيين في النحو واللغة ثعلب فاقد الثقة في علمه الذي تخصص فيه، وبرع في أصوله، وهو علم من المفترض أنه يخدم الدين، ويعين على فهمه، وبدونه لا ثقة لمن يتعاطى علوم الشرع.

وقد اتهم أحدُ المتعصبين الخليل بن أحمد الفراهيدي أنه إنما وضع علم العروض والقوافي ليعارض به القرآن الكريم، فإذا كانت العلوم الأدبية واللغوية والنحوية التي لها مسيس وصلة بعلوم الدين يُنظر لها بهذه الريبة، فكيف يكون حال علم الكلام والفلسفة وغيرها من العلوم العقلية.

يقول الشيخ تاج الدين السبكي: “رأيي فيمن أعرض عن الكتاب والسنة، واشتغل بمقالات ابن سينا، ومن نحا نحوه، وترك قول المسلمين: قال أبو بكر، وقال عمر – رضي الله تعالى عنهما، وقال الشافعي، وقال أبو حنيفة، وقال الأشعري، وقال القاضي أبو بكر، إلى قوله: قال الشيخ الرئيس، يعني ابن سينا، وقال خواجا نصير، ونحو ذلك أن يضرب بالسياط، ويطاف به في الأسواق، وينادى عليه: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، واشتغل بأباطيل المبدعين”.

وإني ما أزال أذكر أن علامة حضرموت الفذ ومفتيها ابن عبيد الله السقاف اعتذر في خاتمة كتابه (إدام القوت) الذي وضعه عن جغرافية بلاد حضرموت عن انشغاله بتأليف هذا الكتاب العظيم قائلاً: “مع أن الموضوع ليس من فني، ولا يليق بسني، وإنما كان الأحرى هو الإقبال على الدار الأخرى”.

وهو ما نجده يتردد أيضًا عند ياقوت الحموي في مقدمة كتابه (معجم الأدباء)، حيث يقول: “ولست أنكر أني لو لزمت مسجدي وُمصلاي، واشتغلت بما يعود بعاقبة دنياي في أخراي، لكان أولى، وبطريق السلامة في الآخرة أحرى، ولكن طلب الأفضل مفقودًا، واعتماد الأحرى غير موجود، وحسبك بالمرء فضلاً ألّا يأتي محظورًا، ولا يسلك طريقًا مخطورًا”.

 وهنا نجد الشعور بالحسرة، وعقدة الندم نفسها تساور كل من يشتغل بكل ما سوى العلوم الدينية من فقه وحديث عند علماء لهم وزن كبير في المعرفة والعلم والصلاح، فكيف الحال بأشباه المتعلمين والمتعصبين والمتطرفين الذين يفتون بحرمة البرنامج التلفزيوني طاش ما طاش، وحرمة تعلم اللغات الأجنبية، ومشاهدة المباريات الرياضية؟

وكيف يُرجى بعد ذلك الإقبال على علوم الحياة وخوض مجاهلها، واستخدام العقل الذي وهبه الله للإنسان لاستبطانها، وفهم القوانين التي تقف وراءها؟ 

* كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات