Accessibility links

الحرب‌ ‌تسلبكَ‌ ‌كلُّ‌ ‌شيء..‌ ‌عقيد‌ ‌طيّار‌ ‌يمني‌ ‌يعمل‌ ‌بإصلاح‌ ‌الكهربائيات‌


إعلان

صنعاء – “اليمني الأميركي” – محمد العلفي 

للحرب انعكاساتها المأساوية لتروي في مجالات المِهن حكايات كثير من المحترقين ممن أجبرتهم الحرب على ترك مِهنهم والعمل في مجالات أخرى اضطرارًا لتوفير متطلبات الحياة الضرورية.

لقد سلبتْ الحرب في اليمن، التي اندلعت في آذار (مارس) 2015، حياة الأجواء التي ألِفها الطيار اليمنيّ العقيد فؤاد حنش، فبعد 16 عامًا أمضاها في التحليق بطائرته في الأجواء، أقعدته الحرب أسير جدران منزله، ليضطرّ للبحث عن مِهنة أخرى، فكانت مهنة إصلاح الأجهزة المنزلية مهنته البديلة.

العقيد طيار فؤاد حنس يمارس عمله في ورشة الكهربائيات

فؤاد امام ورشته

 

لم تكتفِ الحرب بإبعاده عن مهنته التي يعشقها بجنون، بل أوقفت صرف راتبه في آب (أغسطس) 2016، وهو المصدر الوحيد لمعيشة أسرته، كما هو الحال مع بقية زملائه وغالبية موظفي القطاع الحكومي هناك.

تمكّنَ الطيار حنش، بعد فصول من المعاناة باع خلالها الكثير من مقتنياته، من افتتاحِ ورشة لإصلاح الأجهزة الكهربائية المنزلية تعودُ عليه بمردودٍ مالي يُؤمِّنُ معيشة أسرته في مواجهة ما يعانيه البلد من انهيارٍ اقتصادي وغلاء معيشة.

يمارسُ عمله اليومي في ورشته بكلّ هِمّة ونشاط بصنعاء، لكنه لم ينسَ طائرته ومهْنته، ولم ينسَ الأجواء التي كان يُحلِّقُ فيها.. كلّ هذه الذكريات ما تزال تعيشُ في وجدانه، وكله أمل أنْ تعودَ بلاده التي أنهكتها الحرب، ويعود لطائرته..!

 

سلبتْه الحرب حياة الأجواء التي ألِفَها لأكثر من 16 عامًا.. سلسلة من الذكريات لم تفارق العقيد طيار فؤاد حنش وهو يعيشُ واقعًا جديدًا وغريبًا عليه فرضته الحرب.

 

الصدمة

يتذكرُ الطيار حنش، في حديث لـ “اليمني الأميركي”، حالة الذهول والصدمة التي أُصيبَ بها لحظة وصوله، صبيحة الخميس (الأسود)، كما يسميه، الموافق 26 آذار (مارس) 2015، إلى مقرّ عمله ومشاهدته للدمار الذي ألحقه قصف مقاتلات التحالف بقيادة السعودية.. لقد دمَّر القصف كلّ شيء من مبانٍ وطائرات وحتى مدرج إقلاع الطائرات.

توقفَ عن الكلام شاردًا ببصره، وكأنه يستجمعُ قوته ليستحضرَ هول الموقف؛ فخرجت كلماته خافتةً متقطعة تنزّ حُرْقة وألمًا، ليصفَ كيف وقف مع بقية زملائه يجولون بأبصارهم في أرجاء المكان، وقد عُقِدت ألسنتهم من هول ما رأته أعينهم.

يقول: «لم أستطع تصديق ما رأته عيناي، وكأني أعيشُ كابوسًا مفزعًا أتمنى أنْ أصحوَ منه، لكن دون جدوى…».

 

عاشَ مرحلة الانكسار بعد تدمير التحالف، بقيادة السعودية، كافة الطائرات ومدرج الإقلاع وكلّ المنشآت.. ما زال يتذكرُ كلّ شيء بحزنٍ شديد!

 

الهروب من الهزيمة 

دخلَ الطيار حنش في حالة من الوجوم والانكسار، فظلَّ حبيس منزله لا يفارقه، تتقاذفه الأفكار والهموم، فيسعى للهروب من حالته تلك ليجد البلسم في حنايا ذكرياته، عائدًا بنا إلى ماضيه، وبالتحديد إلى منتصف عام 1984 عندما نجحَ في اختبارات اللياقة الخاصة بقبول الطيارين، بعد أنْ درس قرابة 5 أشهر في كلية الشرطة.

ويشيرُ إلى الفرحة الغامرة التي انتابته عند ابتعاثه للدراسة في العراق… «تم تقسيمنا إلى مجموعتين، مجموعة ذهبت للدراسة في الاتحاد السوفيتي آنذاك، والمجموعة التي كنت فيها تم إرسالنا للعراق، وهناك اجتزْتُ اختبارات القبول التي خضعنا لها في كلية القوة الجوية – تكريت».

تخرَّجَ فؤاد في الكلية بعد أنْ تلقّى فيها علوم ومهارات الطيران التطبيقية على مدى 3 أعوام و6 أشهر، عائدًا إلى بلاده، وكأنه قد امتلكَ الدنيا بحذافيرها، فقد أصبحَ طيارًا، وقناعته التي لا يخالطها ذرة شك بأنه مع بقية زملائه قد أصبحوا صقور الجو الذين سيذودون عن أمن واستقلال وطنهم ضد كلِّ مَن تُسوّلُ له نفسه المساس بترابه.

 

تنقَّل فؤاد بين عددٍ من المِهَن باحثًا عن عملٍ يوفّر لأسرته ما يؤمّنُ معيشتها ليستقر في مِهنة إصلاح الأجهزة الكهربائية بصنعاء.

 

البحث عن عمل

مع تداعيات الحرب الراهنة بدأتْ أسرة فؤاد، التي تضم زوجته وابنه الأكبر وبناته الثلاث ووالدته المقْعدة، تئنُّ لتدهور أوضاعها المعيشية نتيجة الانهيار الاقتصادي والغلاء الجنوني للأسعار مع توقّف صرف الرواتب الحكومية، دون أنْ يكونَ لديها مصدر دخل تقتاتُ منه؛ ما اضطرهم لبيع مقتنياتهم في سبيل تأمين لقمة العيش.

أجبرته الأوضاع التي وصلتْ إليها أسرته للخروج والبحث عن عمل، فدلّه تفكيره للذهاب إلى مكاتب العقارات، خاصة مع الارتفاع المتسارع والجنوني للعقار في ظلِّ أزمة اقتصادية طاحنة، فدخلَ في حالة من أحلام اليقظة وهو يرى الأراضي تُباعُ بمئات ملايين الريالات.

بدأ فؤاد يتنقلُ بين مُلاك الأراضي وأصحاب مكاتب العقارات، وهو يُمَنّي نفسه بأنَّ هذه الأرض ستُباعُ بمبلغٍ كبير، ويأخذُ القلم والورقة ليحسب الملايين التي سيتحصلُ عليها في حال استطاع إتمام البيعة.

لم يحالفه الحظ فذهبَ إلى مَعارض السيارات ليعمل دلّالًا (سمسار) في بيع السيارات.. بعد مرور قرابة العام، وهو يتنقلُ بين العقارات ومعارض السيارات اقتنع بأنّ ليس له نصيب في مهنة السمسرة، لكنه كان يرى مقتنياته توشكُ على النفاد نتيجة بيعها ليقتات مع أسرته بثمنها.

انطلقَ فؤاد معتقدًا أنه وجدَ ضالته عندما ذهبَ للعمل في بيع الأسماك؛ نظرًا لكونه عاش وترعرعَ بمديرية باجل التابعة لمحافظة الحديدة الساحلية غرب البلاد، ودارت العجلة قليلاً إلى أن استهدفت مقاتلات التحالف الطريق الموصلة بين محافظة الحديدة والعاصمة صنعاء فقطعت الطريق.

مع طول المسافة التي يضطر فؤاد لقطعها للوصول إلى صنعاء وارتفاع درجة الحرارة وذوبان الثلج.. كلّ ذلك أدّى إلى فساد السمك في الطريق؛ ما جعله يتعرض للخسارة، فتركَ العمل في هذا المجال.

 

الورشة

كان لدى فؤاد خِبْرة في إصلاح الأجهزة الكهربائية المنزلية اكتسبها خلال فترة شراكته مع أحدهم في ورشة كان فيها صاحب رأس المال، وذلك عند تأزُّم الأوضاع مع أحداث ما يُعرف بالربيع العربي عام 2011، وانتهت تلك الشراكة عندما قررَ الشريك (فني إصلاح الأجهزة) مغادرة صنعاء والعودة إلى عدن.

ظلت معدات ومستلزمات الورشة محفوظة بمنزل فؤاد حتى منتصف العام 2017 عندما قرر العمل في إصلاح الأجهزة الكهربائية المنزلية.

قال: «كانت فكرة الورشة على بالي منذ أن اضطررتُ للبحث عن عمل، إلا أنّ الأوضاع التي عاشتها صنعاء خلال تلك الفترة، أيْ بعد بداية العدوان حالت دون ذلك؛ نظرًا لانقطاع التيار الكهربائي، وانعدام المشتقات النفطية؛ ما جعل الناس يستغنون عن كافة الأجهزة الكهربائية».

«لكن بعد أنْ ألِفَ الناس هدير الطائرات، وأصوات انفجارات القنابل والصواريخ، عادت الحياة تدريجيًّا تدبُّ في شوارع صنعاء، وبدأ الناس يستعيضون بالطاقة البديلة، وخاصة الطاقة الشمسية تدريجيًّا، فعاودوا استخدام الأجهزة الكهربائية في منازلهم»، يضيف. 

واستطرد: «عندها فكرتُ بفتح الورشة، خاصة مع امتلاكي المعدات والمستلزمات اللازمة، فبِعتُ بعض مقتنيات زوجتي من الذهب، واشتريت مولدًا كهربائيًّا، ومن ثَم قمتُ باستئجار هذا المحل الذي يعودُ عليَّ بمردودٍ مالي يؤمِّنُ لي ولأسرتي عيشة كريمة». 

 

أخيرًا

على الرغم من كل ذلك ما زال الطيار فؤاد حنش ممتلئًا بأمل انتهاء الحرب في بلاده، وتحسُّن الأوضاع، وأنْ يعودَ إلى مهنته، ويحلِّق بطائرته.. مشيرًا إلى الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها غالبية الشعب اليمني، موجِّهًا نداءً لكافة اليمنيين: «كفاكم اقتتالًا؛ فكلكم يمنيون؛ فلتضعوا السلاح جانبًا، ولتجنحوا للسِّلم، ومُدّوا أيديكم وتصافحوا، فلابد من الحوار، طال الوقت أو قصر».

   
 
إعلان

تعليقات