Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

شتيفان تسفايغ مسرحي وروائي نمساوي، مواليد عام 1881، كان معاديًا للقومية النازية، غادر بلاده إلى بريطانيا وحصل على جنسيتها، وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية انتقل إلى أمريكا اللاتينية، وفي عام 1942 انتحر هو وزوجته في البرازيل.

هذا الكاتب الذي لم ينل حقه من التقدير، ألَّف واحدة من أجمل النوفيلات “رحلة إلى الماضي”، ولم ينشرها في حياته، وبعد ثلاثة عقود من وفاته، عثر في شقته بلندن على نسخة كاملة ومنقحة من النوفيلا، ونشرت عام 1970، ولاقت أصداءً إيجابية في أوروبا، وترجمت إلى العديد من اللغات.

“رحلة إلى الماضي” التي تدور أحداثها في ألمانيا، هي عن الشاب لودفيج البالغ من العمر 23 عامًا، الذي وقع في غرام امرأة متزوجة تكبره سنًا، ثم يفرق بينهما القدر، حين يُكلفه رب عمله بالسفر إلى المكسيك، وتندلع الحرب العالمية الأولى، وتنقطع به السبل هناك.

وبعد تسع سنوات يستيقظ حبه القديم، ويعود أدراجه إلى أوروبا، ليلتقي بحبه الأول.. لكن في خلال هذه السنوات جرت مياه كثيرة تحت الجسر؛ هو تزوج وأنجب، وهي توفي زوجها وظهرت خصلات بيضاء في شعرها.

لقد تكشف له بعد انقضاء فرحة اللقاء الأول، أنه لم يكن يبحث عن هذه المخلوقة التي تقف أمامه وقد تقدمت بها السن، وإنما يبحث عن حبيبته القديمة الشابة المتألقة التي خلبت لبه في الماضي.

لم يفطن وهو يفكر فيها في المكسيك، أن ظروف الزمان والمكان قد تبدلت، وهما قد تغيَّرا، فهذه سنة الحياة، فينتهي لقاء العاشقين إلى نهايته الطبيعية: خيبة أمل مريرة.

إنها لعبرة ما بعدها عبرة! الحب القديم محال تجدده، ومن يسعى إلى ذلك قسرًا يؤول به الحال إلى حصاد التعاسة، وتحطيم كل ذكرى جميلة لحب بكر طواه الزمن.

ما من إنسان على ظهر البسيطة إلا وله قصة حب أولى، رجلًا كان أو امرأة، ونادرًا جدًا أن تكتمل قصة العشق البريئة هذه، لأن حداثة السن لا تساعد على نمو الحب وتطوره إلى ما هو أبعد، إذ بمرور الوقت يتباعد العاشقان، وينشغل كل واحد منهما بحياته الخاصة، فترميهما مياه الأقدار في شواطئ متباعدة، فهو يتزوج وينجب، وهي كذلك، ولكن تبقى ذكرى الحب القديم كامنة في الروح مثل جمرة لا تنطفئ.

لا يمكن للزمان أن يعود للوراء، ولا يمكن لحب قديم أن يولد من جديد.. هذه هي الفكرة التي بنى عليها شتيفان تسفايغ عمله الأدبي، وقد نجح في تصوير هذه الفكرة تصويرًا بارعًا، مترعًا بالأحاسيس المرهفة، ونلمس لديه التقاطًا عبقريًا لأدق التفاصيل التي تؤشر على انطفاء شعلة الحب في اللاوعي، رغم تمسك العقل الواعي بأوهامه الثابتة عن حب زائل لم يعد صالحًا للانبعاث من الرماد.

الذكريات مخادعة! يحنُ الحبيب إلى محبوبته، فيسعى بكل قواه لحرف مسار القدر وجره إلى مسار مشترك، فإذا التقى بالمحبوب صُدم من اختلاف الواقع عن الصورة التي في خياله، لقد وقع ضحية للماضي وذكرياته، وأما الحاضر فمختلف كليًا:

“لم تعد هي المرأة نفسها، ولم يعد هو الرجل نفسه، وبرغم ذلك كانا يبحثان عن بعضهما البعض في سعي عبثي لا طائل من ورائه، وبينما يهربان من بعضهما البعض، كانا يتجشمان عناء العثور على بعضهما من جديد في محاولة خيالية خائبة، مثلهما مثل الظلين الأسودين عند أطراف أقدامهما” ص 76.

“رحلة إلى الماضي” نوفيلا في 77 صفحة فقط، يمكن أن تُقرأ في غضون ساعة أو أقل، لكن عقب الانتهاء من قراءتها يشعر القارئ أنه تلقى وجبة جمالية دسمة، وتعلم شيئًا جديدًا عن ذاته.

إذا نظرنا في الجانب الفني، سوف نفهم قواعد كتابة النوفيلا بشكل تطبيقي، فهذا الجنس الأدبي غير شائع عندنا، وأصوله غير معروفة، لكنه في الثقافة الألمانية جنس أدبي واسع الانتشار وله رواج بين القراء، وتحكمه ضوابط واضحة دقيقة تفصله عن الفرع الأدبي الأشهر (الرواية)، وتميزه كذلك عن (القصة).

ومن خلال التأمل في نوفيلا “رحلة إلى الماضي” نستنتج أن النوفيلا تركز على فكرة واحدة فقط، بالغة الوضوح والتحديد، ولا تحيد عنها.

نلحظ كذلك أن عدد الشخصيات في الحدود الدنيا، فالنوفيلا التي بين أيدينا تركز على شخصيتين لا غير، وباقي الشخصيات التي يرد ذكرها لا يكاد تسفايغ يلمسها، بل يكتفي بالتلويح لها من بعيد ويمضي صوب هدفه دون إبطاء.

كتابة النوفيلا هي درس في الاقتصاد الأدبي: لا وجود لثرثرة لا لزوم لها، ولا حضور لتفاصيل زائدة ولو كانت في محلها. على سبيل المثال لم تتطرق النوفيلا إلى أسرة لودفيج التي كونها في المكسيك، ولا نجد أيّ معلومات عنها، فقد أخرجها المؤلف من دائرة اهتمامه تمامًا.

ومثال آخر يلفت انتباهنا، وهو أن للسيدة محبوبة لودفيج ولدًا عمره أحد عشر عامًا، ثم لا يتطرق إلى ذكره أبدًا، وهذا الإقصاء متعمد، فمصير هذه الشخصية لا يعنيه ولا يُغني موضوعه، فوضعه جانبًا، إذ إن متابعة مسار مثل هذه الشخصية ليس من اختصاص كاتب النوفيلا، بمعنى أن هذا التشعب السردي مكانه في جنس أدبي آخر، هو الرواية.

مساحة النوفيلا محدودة، لا تتسع للمعلومات التي تمنح بسخاء في الرواية.. لم يورد المؤلف اسم بطلة النوفيلا، ولم ير ضرورة لذلك. لقد أمسك تسفايغ بخيط النوفيلا بدقة ألمانية يحسد عليها، ولم يستسلم لإغراءات الإسهاب.. كان يعرف ماذا يريد بالضبط.

أخمن أن تسفايغ حذف الكثير جدًا من الوصف، على الرغم من أهميته ودوره الفني الجذاب، لأن لديه استراتيجية نصية التزم بها دون أن يحيد عنها قيد شعرة.. وهذا ما يوحي به نبأ المسودات العديدة لهذه الرواية، واشتغاله عليها لسنوات، وعدم رضاه التام عنها.

“رحلة إلى الماضي” عمل أدبي رفيع من الناحية الإنسانية، كما أنه يشير بوضوح إلى أستاذية شتيفان تسفايغ في كتابة هذا الجنس الأدبي المراوغ الذي يصعب الإمساك به المسمى (النوفيلا).

—————– 

*رحلة إلى الماضي: نوفيلا، شتيفان تسفايغ، ترجمها عن الألمانية أحمد الزناتي، منشورات حياة، 2022، الطبعة الأولى.

** روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات