Accessibility links

إعلان

أ.د. محمد عبدالكريم المنصوب

هل تخيّلْتَ يومًا أنْ تجلسَ ببدنك، وأنْ تجلسَ روحك إلى جانبك؟، أي أنْ تنفصل روحك عن جسدك ولو للحظات!!، أعتقدُ أنّ هناك لحظات ومواقف في الحياة تحدثُ فيها مثل هذه الحالة، وإلا ماذا يمكن تسمية لحظات الفزع الشديدة وحالة اللا وعي التي تحدثُ أثناءها، ولماذا يُصدر الجسم ردودًا وأفعالًا قد لا نشعر بحدوثها، أو قد لا نتذكرها ؟!. صحيح أنه انفصال مؤقت ولحْظيّ، لكنه في الأخير انفصال، وربما يصبحُ السؤال عند هذه الحالة، كم هو الوقت المسموح لمثل ذلك الانفصال، قبل أنْ يتحول إلى انفصال دائم (الموت)؟!، وهل يختلف ذلك الوقت من شخص لآخر، أو من مخلوق لآخر؟، أو من موقف وآخر؟!.  وهل مثل هذا الانفصال المؤقت مفيد، أو ضار بالإنسان أو الحيوان الذي تعرّض له؟!.

 العقل أو  الدماغ، تحديدًا، هو العضو الوحيد في جسم الإنسان الذي لا يتوقف ولا يهدأ له حال حتى أثناء النوم، فهو الذي يدير كلّ العمليات الحيوية لبقاء الجسم حيًّا متوازنًا، هكذا يقول العلماء.. وقد أدرك الكثير من الصالحين والفلاسفة، منذ أمد بعيد هذه الحقيقة الربانية، وتساءلوا إذا كان كلّ شيء يميلُ إلى التعب والإرهاق لكثرة استخدامه، فهل بالإمكان أن نريح العقل لبعض الوقت كي يعود إلى دوره أكثر نشاطًا وحيوية. وذهبوا في دراسة ذلك الأمر كلّ مذهب، وتوصلوا بعدَ لَأْيٍ إلى أنّ أفضل وسائل إراحة العقل وأكثرها فعالية إنما تأتي من خلال التأمل العميق. وتطورت أساليب وطرق التأمل لتصبح مدارس كاملة يتدرج فيها المريدون مراتب متعددة، وعبر سلسة طويلة من التدريب والتمحيص. وما يحدث مع الديانة البوذية إنما هو أحد تلك الأشكال، وربما أن هذا البحث عن إراحة العقل، قد تسلل إلى الدين الإسلامي من خلال المذهب الصوفي ومريديه. وأيًّا كان الأمر، فرحلة الإنسان منذ ظهوره على الأرض، لا بُد وأنه قد تخللها الأسئلة الأبدية والأزلية، وهي كيفية اقتران الروح بالجسد؟، وكيف يتفاعل كلّ منهما مع الآخر؟، وكيفية عملهما معًا بذلك التناغم العجيب والمعجز بكل المقاييس؟.

يقول علماء الطب، إن الطب – بما وصل إليه من تقدم مذهل حتى الآن – لا يزال هو الأقل تطورًا بين بقية العلوم، ويعزون ذلك لسبب بسيط؛ وهو أنّ جسم الإنسان وميكانيكية عمل أجهزته المختلفة وتناغمهما – خصوصًا الدماغ – أمر بالغ التعقيد والفهم، حيث لم يتمكنوا حتى هذه اللحظة سوى دراسة جزء بسيط جدًّا منه، وما زال لديهم الكثير والكثير من البحث والتطوير لاكتشاف وفهم مجاهله وآليات عمله، وما زال المستقبل يحمل في طياته الكثير من المفاجآت العلمية المذهلة حوله.

كما أنّ الروح تنتقل في مظاهر الحياة، بصور شتى وأساليب صعبة الفهم والتفسير، فعلى سبيل المثال، لماذا نحس عند قراءتنا أن كتابة ما، تحمل روحًا، بينما لا تحمل أخرى أيّ روح؟!، بمعنى ما الذي يجعل كتابًا ما شيّقًا وممتعًا تتمنى أن لا تنتهي صفحاته، بينما يكون كتاب آخر مملاً قد لا ترغب في استكمال قراءته. ولماذا تُخامرنا أحيانًا أحاسيس معيّنة حول أمرٍ يحدث بعيدًا عنك، ويحدث بالفعل ؟!. وكيف يحدث أحيانًا أنْ نتذكر شخصًا ما، ولا تلبث أن تراه قد أصبح ماثلاً أمامك بشحمه ولحمه؟!. هناك قوى خفية محركة للجسد والروح معًا، فهل يمكن فهم ما يحدث للروح من انبساط وراحة عندما نتعرض لموقف مضحك أو نمارس رياضة ما؟!. هل رأيتم كيف تتغير العلامات الحيوية للإنسان كالضغط وضربات القلب وارتفاع أنزيمات القلب وارتفاعٍ لمستويات السكر في الجسم، عند تعرضه، أحيانًا، لموقف صعب أو حادث ما؟!. هل تساءلنا يومًا ما الذي يحدث لأرواحنا من بهجة وسرور بعد حمّام دافئ ومريح، أو بعد فسحة في الطبيعة، أو بعد سماعنا خبرًا مفرحًا؟!. هذه التساؤلات وغيرها، تقود حتمًا إلى حقيقة أنّ الجسد ما هو إلا وعاء قابل للفناء يحمل في طياته روحًا غير فانية. وهذه الحقيقة تفتح تساؤلاً عميقًا جدًا، ألا وهو طالما أنّ الروح والجسد ثنائية وجود، فهل بالإمكان للجسد أنْ لا يفنى، مستمدًا طاقة استمراره من طاقة الروح التي يحملها، والتي لا تفنى؟!. ولماذا كان الأولون يعيشون مئات السنين، بل هناك أقوام في الوقت الحاضر مَن تتجاوز أعمارهم المائة وخمسين عامًا، ولا يزالون بحالة صحية طيبة إلى حدٍّ ما؟!.

 الجسد والروح لا يعمل أيّ منهما بمنأى عن الآخر، وبالتالي فلا بُدّ أن الروح تعمل جاهدة لدعم استمرار حياة الجسد، لكن الجسد – الذي هو بيد الإنسان وتحت تصرفه – هو من يتجاهل أو يسيء استخدام تلك الطاقة ويبددها من خلال الإغراق في استهلاك أو ممارسة كلّ ما لا يعود بالنفع على جسده، وبالتالي صحته. بالإضافة إلى ذلك، أليس الخالق سبحانه وتعالى ذا طبيعة سرمدية، لا أول له ولا آخر، ومخلوقاته جميعها نفحة من نفحاته، فمن البديهي إذًا اعتبار أن الفناء ليس أصلاً في ذات مخلوقاته، ولكن له حكمة غير مُدرَكة من فنائها. ويظل الإنسان – هذه المعجزة – هو الوحيد بين خلائق الله، من خلال ما أودع فيه من عقل، القادر على أن يتجاوب مع مسألة فنائه المبكر، والتحكم بها إلى حدّ كبير. ولستُ هنا في معرض الحديث عن وسائل التحكّم تلك، فهي بالطبع كثيرة وكثيرة، وما يناسبُ جسدًا قد لا يناسبُ جسدًا آخر. لكن ربما يمكن إيجازها بمفهوم واحد، وهو الاهتمام بأجسادنا، بل إننا جميعًا بحاجة إلى تدليلها إنْ جاز القول؛ فهي أمانة، وأيّة أمانة.

أعتقدُ أنّ التفكر في ثنائية الروح والجسد ليست سوى مدخلٍ حقيقيّ وكاملٍ لرؤية إبداعات الإله، وطريقٍ واضحٍ لمن أراد ورغب في رؤيته دون حجاب.

   
 
إعلان

تعليقات