Accessibility links

الانسحاب الاجتماعي والاغتراب الأسري في عصر وسائل التواصل الاجتماعي


إعلان

نبيهة محضور*

استطاعت منصات التواصل الاجتماعي أن تحقق قفزة في تطور آفاق الاتصال، ومثلت نقلة نوعية في تعزيز وتيرة تبادل المعارف والخبرات بين الأفراد والمجتمعات والثقافات، وبخاصة على صعيد التعريف بالمنتج الثقافي والنشر والإعلام بآفاقه الواسعة، لكنها على صعيد الروابط الاجتماعية عربيًا ما زال استخدامها يكرّس سلبيتها.

في عصرنا الحالي ومع انتشار التكنولوجيا الرقمية، تغيّرت هندسة المجتمعات وطبيعة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، خاصة المجتمعات العربية، إذ أصبح الكثير من أفراد الأسر والمجتمع أسير وسائل التواصل الاجتماعي، يمضي معها أغلب وقته بمعزل عن الآخرين، ليصبح الانسحاب الاجتماعي والاغتراب الأسري نتيجة حاضرة بوضوح في المجتمع.  

حوّلت العولمة العالم إلى قرية صغيرة بفضل انتشار التكنولوجيا الرقمية، التي ساهمت في التواصل العابر للحدود المكانية بدءًا من الأسرة، ومرورًا بالدولة إلى القارات، بل ساهمت هذه التكنولوجيا في إيجاد تواصل ثقافي ومعرفي عالمي، خاصة مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي مثل واتساب وفيسبوك وتويتر وغيره، التي يمكن القول أيضًا إن الكثير أدمن استخدامها لساعات طويلة في اليوم، وأدت إلى إقامة علاقات افتراضية واسعة على حساب الواقع الاجتماعي والأسري جراء الإفراط في استخدامها.

 وهو ما يمكن قراءته بوضوح في تراجع كثير من صور العلاقات الاجتماعية الحميمة، التي كانت تتميز بها مجتمعاتنا العربية قديمًا، حيث كانت اللقاءات والزيارات المتبادلة بين الجيران والأهل والأصدقاء حاضرة، وتقوي أواصر العلاقات الاجتماعية وتزيد من روابط المحبة والالفة.

من تلك الروابط كان الناس يتلمسون احتياجات بعضهم البعض سوءًا كانت نفسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويقدّمون الدعم النفسي لبعضهم بطريقة غير مقصودة، أي بصورة تفاعلية وتلقائية قائمة على البوح والتعايش الاجتماعي.

 لم يكن هناك حاجة لطبيب نفسي ولا أخصائي اجتماعي كما هو اليوم، الذي انتشرت فيه الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية والانفعالات الزائدة التي بتنا نلحظها في السلوكيات اليومية، والتي أدت إلى انتشار كثير من الجرائم غير المعتادة في مجتمعاتنا، وقد يعود ذلك إلى الضغوط النفسية المتراكمة لأسباب كثيرة، معيشية واقتصادية وأمنية، وبسبب العزلة الاجتماعية التي صار الكثير منا يعيشها في نمط حياته اليومية، وهو الواقع الذي يتطلب إخضاعه لدراسات عملية موسعة ودقيقة تخلص لنتائج تسهم في معالجته.

لم تعد الأسرة العربية هي تلك الأسرة التي كانت قبل عقدين من الزمن، ولم تعد الروابط الأسرية قوية كما كانت.. لقد صار الكثير يعيشون غرباء في بيت واحد حتى وإن اجتمعوا، تحضر الأجساد وتغيب العقول والأفئدة في غياهب الموبايل لدى الكثير.

صار الصمت يخيم على المكان في كثير من الأوقات، وأصبح الكلام عبر رسائل الشات، لقد اختفت تلك الضحكات الجميلة في أركان كثير من البيوت واستبدلت بلايكات وفيسات ضاحكة ورموز الآيموجي في عالم افتراضي، وأصبح التعبير عن الهموم على صفحات التواصل الاجتماعي بعبارات حزينة وقلوب مكسورة لجذب استعطاف المتابعين والتي جعلت الكثير يقع في فخ الصيد السهل والاستغلال خاصة الفتيات.

حتى مجالس المقيل لدى الرجال في اليمن، والتي كانت بمثابة دورات تدريبية يتعلم فيها الصغار من تجارب الكبار ويكتسبون الخبرة من أحاديثهم من أجداد وآباء وشيوخ وعلماء، وكانت تُحل فيها الكثير من القضايا الاجتماعية… صار الصمت يخيم على الكثير منها اليوم لانشغال المجتمعين بهواتفهم وعوالمهم الافتراضية ليعود كل منهم محملًا بالكثير من الانفعالات التي تنعكس على سلوكه في أسرته.

بخلاف ما كانت عليه العلاقات الاجتماعية في الثمانينيات وحتى عهد قريب، كانت الأسرة وقتها أسرة بمعناها الحقيقي في ترابطها وقرب أفرادها وتشابه اهتماماتهم، كان التلفاز وبرامجه فرصة تجمع أفرادها لساعات يشاهدون نفس المسلسل، نفس البرنامج، مشاعرهم في تلك اللحظات وانفعالاتهم تكاد تكون واحدة وإن اختلفت ردات الفعل، يناقشون بصوت مرتفع ما يرونه بتعليقاتهم، قد ترتفع ضحكاتهم بصورة جماعية، وهم يشاهدون مسرحية ساخرة، وقد تنهمر دموعهم في وقت واحد وهم يشاهدون مسلسلًا حزينًا.

صفوة الحقيقة، ليس العيب في التكنولوجيا الرقمية، بل في استخدامنا لها خاصة نحن العرب، فالكثير منا لم يقدر قيمتها، ولم يعرف كيف يستفيد منها، والكثير منا لا يعلم قيمة الوقت الذي يهدره فيها بلا فائدة، بل البعض استخدمها بصورة غير أخلاقية في تمزيق الأسر، والإساءة للآخرين، وتشويه سمعتهم دون ضمير، وممارسة التنمر في أبشع صوره.

ليس القصد من هذا المقال الدعوة لمقاطعة وسائل التواصل الاجتماعي أو هجر التكنولوجيا الرقمية والعودة لما كنا عليه بدونها، وإنما الاعتدال في استخدامها، والاستفادة منها بطريقة إيجابية تساهم في الارتقاء فكريًّا وثقافيًّا وعلميًّا في الوعي الجمعي، مع تقنين وقت استخدامها، وكيفية توظيفها، مع الحفاظ على العلاقات الاجتماعية الواقعية، واستمرار تغذيتها إيجابيًّا من خلال زيارات ولقاءات واهتمامات بأفراد الأسرة.

* قاصة وصحافية يمنية. 

   
 
إعلان

تعليقات