Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

يُكافح الإنسان في عصرنا لتحقيق ذاته. ولكن المفارقة المأساوية أن الفرد يُحقق هذا القدر أو ذاك من النجاح في الحياة ولكنه يخسر “ذاته”! أيّ أنه قد خسر تقريبًا الشيء الأساسي الذي من أجله قد ناضل وكافح طيلة حياته.

تكثر حالات الانتحار بين الأفراد الذين حققوا نجاحًا أعلى من غيرهم، وهذا أمر يدعو للتساؤل، إذ لماذا ينتحر أمثال الممثل الأمريكي الشهير (روبن ويليامز) الذي فاز بجائزة الأوسكار كأفضل ممثل عام 1998 وكاتب التنمية البشرية الأشهر في العالم (ديل كارنيجي) صاحب كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” والروائي الذي نال نجاحًا غير مسبوق (إرنست همنغواي)؟ وإذا استرسلنا فإن القائمة تتسع لأعداد غفيرة من الناجحين.

تدخل بعض الحيوانات فيما يسمى “البيات الشتوي” دوريًا، وهي فترة سكون وانخفاض في الطاقة في فصل الشتاء، وعندما يحل فصل الربيع تخرج للتزود بالغذاء والتزاوج واستئناف حياتها في أحضان الطبيعة.

بالنسبة للإنسان، يبدو أنه يمر بهذا الدورة الطبيعية، ويستجيب جسمه لها في فترات معينة من حياته. السبات الشتوي يحدث في فصول معينة من عمر الفرد، ولأننا أبناء الحضارة الحديثة قد نسينا هذه المسألة وأصبحت غائبة عن بالنا، فنحن نشعر بها ونعاني منها الأمرين، وأعراضها الإصابة بمرض “الاكتئاب” الذي قد يقود إلى الموت.. إما بالانتحار عمدًا، وإما عبر الإصابة بأمراض عضوية قاتلة مثل شرايين القلب والأوعية الدموية والسكتة الدماغية والجلطات.. وكلها آتية من هذا القاتل الصامت المسمى “الاكتئاب”.

الحياة المعاصرة تفرض على الفرد ضغوطًا متواصلة ليظل ناجحًا، وأن يُكابد ليتصاعد هذا النجاح، وعلى وتيرة واحدة من الأداء والعمل والإنجاز، دون الالتفات مطلقًا إلى أن “النفس البشرية” قد نزلت إلى الظلمات وتريد شيئًا من الهدوء والراحة والسكينة والكف عن الفعل لتستعيد طاقتها المفقودة عبر هذا “البيات الإيقاعي” الذي يحتاجه الجسد ليوازن نفسه.

انتحر (إرنست همنغواي) لأنه لم يعد قادرًا على الكتابة. كان العالم يطالبه بالمزيد من الروايات، بينما هو لا يعرف لماذا كف دماغه عن إنتاج الأدب.. وهذا سبب له صدعًا نفسيًا هائلًا وهو الرجل الذي لا يقبل الهزيمة أبدًا. 

تبدو حالة (همنغواي) نموذجية، لقد دخلت روحه مرحلة “البيات الشتوي” فتوقف تلقائيًا عن الكتابة. المشكلة أن هذا النزول إلى الجُب لا يصدر عنه صوت، لا رنين جرس ولا نفير بوق، ومنذ متى كانت الروح تطلب الاستئذان لتقوم بشئونها؟!  ولكن علامات هذه الحركة النفسية تظهر دون أن نشعر. والروح تقضي هناك فترة محددة ثم تخرج، تخرج بمزاجها هي وبحسب توقيتها الذي تراه مناسبًا، ومن ثم تعلن لقد أتى الربيع وآن أوان النشاط والحيوية.

في عصرنا الراهن لا يتسامح الإنسان مع نفسه إذا كف عن الإنتاج.. إذا انخفض أداؤه إلى الحضيض، إذا كف فجأة عن النجاح. وغالبًا الأشخاص ذوي الإرادة الحديدية هم أول من يلاحظون هذا التلكؤ ويضيقون منه فيسارعون بإنهاء حياتهم.

لماذا تقوم الروح البشرية بهذا البيات الإيقاعي؟ يبدو أن الهدف هو اكتساب قيم جديدة، مشاعر أكثر أصالة، وجهات نظر مختلفة، أي كل ما هو بصدد إحداث تحولات جذرية.

لا يمكن للإنسان أن يمضي في هذه الحياة على وتيرة واحدة منذ الميلاد وحتى يشارف على الموت.. أن يحمل هدفًا واحدًا لا يحيد عنه، أن يذهب في طريق واحد دون هوادة أو راحة أو حتى ليتأكد من أنه يسير في الطريق الصحيح.. الإنسان ليس صخرة جامدة تشكلت مرة واحدة وانتهى الأمر، ومعظم البشر ويا للغرابة يتفاخرون أنهم أشد صلابة من الحجر! لكن هذا الفخر هو أول وهم يجب على الإنسان أن يتخلص منه، فنحن البشر مصنوعون من الطين، من مادة قابلة للتشكل في أشكال شتى، وأن على الإنسان التفكير دائمًا في الأشكال الجديدة التي سيتشكل بها وعيه من حين لحين..

وهكذا قد تأتي أحداث على الإنسان فتحطم الشكل الذي هو عليه، فحينئذ ما من سبيل أمامه سوى أن يعيد تشكيل ذاته في قالب جديد.

قد يحزن الإنسان على القالب القديم لذاته، ذاك القالب الذي أنقضت عليه صواعق التغيير فأحالته ركامًا من تراب وغبار، وهذا أحد أكثر الأمور غباوة، فإن مصير الإنسان ليس ثابتًا كالجبال فلا يزول، ولكنه متحول من شكل إلى شكل كحال السحب التي تمر في السماء وتتغير أشكالها على حسب سرعة الرياح..

على الإنسان تقبل الشكل الجديد لوعيه وذاته، وألا يحزن على ما فات، وألا يفرح بما هو آت، ويتابع حياته راضيًا بكل ما تحمله من تغيّرات.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات