Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

وقعت في جامعة صنعاء جلسة نقدية، طرفها الأول الروائي اليمني البارز محمد الغربي عمران، وطرفها الثاني لفيف من أساتذة وطلاب الدراسات العليا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، وأثارت هذه الجلسة ردود أفعال متباينة، وترددت أصداؤها في داخل الجامعة وخارجها.

وقد بسط الناقد د. محمد الكميم، وهو واحد من أهم المثقفين في بلادنا، مجريات الجلسة في مقالة وافية، منشورة في صفحته على الفيسبوك، فيمكن لمن أراد مزيدًا من الاطلاع العودة إليها.

ما غاب عن بال الكثيرين، سؤال مهم حول إمكانية إنتاج أدب عظيم في بلدٍ ينتمي إلى دول العالم الثالث، وفي مجتمع غير ناضج ثقافيًّا، والحضارة بالنسبة إليه مجرد قشور، وأما الجذور فما تزال ضاربة في أعماق القرون الوسطى.

لأوضح وجهة نظري أكثر حول هذا التساؤل الجوهري، أود الإشارة إلى كتاب “مختصر تاريخ الأدب” للناقد البريطاني (جون سذرلاند)، وهو كتاب مولته وأصدرته جامعة يال الأمريكية، ضمن سلسلة “موسوعة المعارف والعلوم”، وصدر الكتاب في وقت قريب نسبيًّا، عام 2013. وكما هو متوقع، ينحاز سذرلاند إلى مركزية الأدب الغربي، ويلمح بشكل موارب إلى تفوق هذا الأدب على آداب الشعوب الأخرى لأسباب موضوعية و(تاريخية)، وفي صفحة 37 نجده يذكر ما يلي:

“عندما طرح الروائي الفائز بجائزة نوبل للأدب سول بيلو سؤاله المهين أين هو تولستوي قبائل الزولو؟ وأين هو بروست بابيون غينيا؟ فإنه كان يقصد أساسًا في سؤاليه أن الحضارات العظيمة، وحدها، تملك أدبًا عظيمًا، ولا تمتلك الملاحم ألا أعظم تلك الحضارات، فقوة العالم الكبرى تقع في مركزها”.

 وفي موضع آخر من الكتاب يعدد عشر حضارات أنتجت ملاحم عظيمة، ليس من بينها مع الأسف الحضارة العربية الإسلامية.

يبدو طرحه عنصريًّا، إلا أن الحقيقة إلى جانبه شئنا أم أبينا. فالمسألة إذن أبعد من جدل نقدي بسيط حول هذه الرواية أو تلك، أو تقييم محدود لهذا الروائي أو ذاك، فنحن أمام وضع الإنتاج الثقافي للأمم في الميزان، ولعل جون سذرلاند إذا وضع الأدب اليمني مثلًا فوق القَبَّان سيجد وزنه خفيفًا أو لا وزن له!

من منظور جون سذرلاند فإن الأمم العظيمة قادرة على إنتاج أدب عظيم، والأمم الضعيفة لن يمكنها سوى إنتاج أدب ضعيف.

أعتقد أن رؤيته مبنية على وقائع ملموسة ولا تحتاج إلى أيّ تفسير إضافي. وربما نحن الأمة اليمنية أصدق نموذج يمكن لسذرلاند الاستدلال به على صدق رؤيته.. فنحن أمة ضعيفة مفككة، تتفشى فيها الأمية، ومعظم أفرادها يعيشون تحت خط الفقر، ولا توجد أيّ علامة من علامة العظمة يمكن الإشارة إليها، فهذا الوضع لا يؤسس لأدب عظيم، وإنما لأدب يُنازع للبقاء على قيد الحياة.

وبشأن الإنتاج الروائي بشكل خاص، فإنه يربطه بشكل صريح بالرأسمالية، وأنه لا يمكن أن تظهر الرواية في مجتمع غير رأسمالي. وعندما نفكر في هذا الطرح الفج نجده صحيحًا ولا يمكن دحضه، فلكي يخصص إنسان ما عشر سنوات من عمره لإنتاج رواية، فإن المجتمع الرأسمالي الذي يخلق الوفرة، هو القادر على مكافأة ذلك الشخص، وتعويضه عن الكدح الذي بذله خلال كل تلك السنوات الشاقة.

مثلًا تزامنت بواكير الأدب الروائي في اليمن مع بدايات التحول من الاقتصاد الإقطاعي إلى الاقتصاد الرأسمالي، وتحديدًا في عقد الستينيات من القرن الماضي. ولكن الرأسمالية أتت في اليمن مشوهة، وما تزال كذلك حتى اليوم، فهي إلى الاقتصاد الإقطاعي أقرب منها إلى الاقتصاد الرأسمالي، والإقطاعي الذي كان في العصر القديم يملك أراضي زراعية شاسعة، قد صار في وقتنا الحاضر يرأس وزارة أو سفارة فتمسي إقطاعية له تُدِرّ عليه وعلى نسله وأقاربه دخلًا وفيرًا.

نستنتج إذن أن الفن الروائي يزدهر في المجتمعات الرأسمالية، وكلما كانت الرأسمالية متطورة مال المجتمع أكثر إلى مكافأة الروائيين بسخاء.

ترك الروائي الأمريكي ستيفن كينغ بعد وفاته ثروة تقدر بـ 400 مليون دولار، وتجاوزت ثروة الروائية البريطانية جوان رولينغ المليار دولار، وهناك المئات، بل الآلاف من الكُتّاب الغربيين الذين حققت كتبهم أعلى المبيعات وصاروا من المليونيرات.

لا يوجد في اليمن هذا النوع من الأثرياء، أيّ أدباء وكُتاب باعوا ملايين النسخ من كتبهم وتجاوز دخلهم المليون دولار.. المجتمع اليمني لا يكافئ الأديب والفنان والمثقف، ولن يسمح بذلك لأسباب يطول شرحها، لكنه يكافئ الإقطاعيين سواءً بأشكالهم القديمة كشيوخ القبائل أو بأشكالهم الجديدة كمسؤوليّ الدولة.

لقد سبق لي في مقالات سابقة أن أشرت إلى الخطأ الشائع الذي يقع فيه نقادنا، حين يستعيرون مناهج نقدية هي نتاج ثقافة متطورة، ويحاولون قصها ولصقها على الأعمال الأدبية المحلية، متناسين الفجوة الحضارية المخيفة بين المجتمعات الغربية المتطورة، والمجتمع المحلي الذي ما يزال مجتمعًا قبليًّا لم ينجح حتى الآن في تأسيس الدولة.

كم في سجل اليمن من الميداليات الأولمبية الذهبية؟ الفضية؟ البرونزية؟ الجواب هو صفر. ليس في رصيد اليمن أيّ ميدالية أولمبية ولا حتى ميدالية من التنك.. لماذا؟ لأن اليمن لا يمتلك البيئة المناسبة لولادة أبطال رياضيين.

فكذلك الحال بالنسبة للمفكرين والعلماء والأدباء والفنانين اليمنيين هم أيضًا لم يجدوا في اليمن البيئة المناسبة لمواهبهم العقلية والفنية، ومن ضروب التعجيز أن نطالبهم بالقفز على كل هذه المعطيات السلبية والرياح غير المواتية، ليقدموا إنتاجًا عقليًّا أو أدبيًّا أو فنيًّا يُضاهي ما ينتج في الحواضر الثقافية العالمية الكبرى في أوروبا وأمريكا.

يُعظم الناقد الروسي بيلنسكي دور النقد الأدبي ويصفه بأنه “قيصر العالم المعاصر”. ولا أظنه يبالغ، فالنقد مطلوب منه أن يساهم في بناء المجتمع وتنويره وتطويره روحيًّا، جنبًا إلى جنب مع الأدب والفن، فالنقد لديه رسالة سامية وعليه واجب القيام بها. وقد يجد الناقد اليمني الذي ينهض لهذه المهمة بعض المشاق في طريقه، أو يُعرض حياته للخطر، إلا أن النقد الحقيقي يكمن هناك.

* كاتب وروائي يمني

   
 
إعلان

تعليقات